الإسلام والخرافة والتحولات المعاصرة
ضدّان لا يجتمعان: الإسلام والخرافة؛ فبقدْر ما تشيع الخرافةُ وتسُود الأسطورة يقوم الشاهدُ من الواقع الإنسانيّ على خُفوت نور الإسلام وكسوف شمسه، وبقدْر ما يشرق الإسلام على الأنام ويسطع في الأكوان؛ تنزوي الخرافة وتنطوي الأسطورة، وينتفض الضمير الإنسانيّ؛ ثائرًا ضدّ كل ما يناقض الفطرة، ويخالف العقل الصحيح والوحي الصريح، هذه الحقيقة الراسيةُ واحدةٌ من مُحْكَمات الدين وثوابته، وإذا كان القرآنُ قد أَحرزَ لصالح العقل نصرًا عزيزًا؛ فإنّ البشريّة التائهة اليوم في بيداء الحضارة العرجاء في أمسّ الحاجة إلى التحرّر من أسر الخرافة، ولا خلاص لها إلا بالقرآن.
ميلاد الحقيقة وموت الأسطورة
نزل القرآن الكريم؛ فأحيا الحقيقة وبعثها من تحت الركام، ثُمّ لم يَلْبَثْ إلا قليلًا حتى انقضَّ على الخرافة على هذا النحو المزلزل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى}، {بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}، {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، ثم يبلغ ذروةَ الإبداعِ بتَعْقيل الظواهر التي يمكن أن يطيش فيها الخيال، على هذا النحو المبهر: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، ليستقرّ على أثر تلك الثورة المنهجُ العلميّ؛ فها هو رسول الله لا يشغله مصابُهُ عن نفض الخرافة: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ».
لم يرفدها الوحي
وبعد عشرة قرون كاملة، استسلمت فيها أوروبا للخرافة، وأسلست قيادها للأسطورة، كانت الإنسانيّة على موعد مع الانتفاضة الكبرى؛ لقد ثار العلم والفكر على أنْكَدِ حليفين: الكنيسة والقصر، وآذنت النهضةُ برحيل الخرافة وموت الأسطورة، وبدأ قطار التنوير يشقّ طريقه وسط الأدغال، يقوده في ميدان العلم: جاليليو وكوبرنيكس، ثم بيكون ومَنْ تَلَاه، ويقوده في ميدان الفكر: دانتي والإكويني، ثم لوك ومن تلاه، فَلَيْتَهُ إذْ انطلق وجد على الطريق أمّة القرآن تمده وترفده، لكنْ ليس كل ما نرجوه ندركه، لقد جرت المقادير على خلاف ما يشتهيه الواقع البشريّ؛ لحكمة يعلمها الله، فكانت النتيجة أنْ خرجت أوروبا من أسر الخرافة القديمة لتقع بمحض إرادتها في أسر خرافات “حديثة!”.
حضارة عرجاء
لقد تمددت الحضارة المعاصرة في جانبها الماديّ، وتوسعت وتعمقت، وبلغت آمادًا أبعد من أن يلامس الخيالُ القديم تخومَها، لكنّها في جانبها الإنسانيّ سقطت في جبّ الخرافة وتسربلت بدروع الأساطير من تراقيها إلى أخمص قدميها، والمذهل المدهش أنّ كل هذه الخرافات “ميتافيزيقة” في عالم يَعُدُّ الرفض للميتافيزيقا أول دعائم المنهج العلميّ! فالقول بأنّ الإنسان سيد الطبيعة بدلًا عن القول بأنّه خليفة لله في أرض الله، هذا القول خرافةٌ وأسطورةٌ “ميتافيزيقية”، لا وجود لها في العالم الفيزيائيّ؛ إذ كيف يكون سيدًا لها؟ وهي لم تزل كل يوم تفاجئه بأسرارها؛ فتقلب نظريّاته رأسًا على عقب، ولا يزال هو يرهبها ويفرّ من غضبها مذعورًا إذا ضربته بعاصفة أو زلزال أو نيزك أو بركان، ونظريةُ التطور التي قضت على إنسانيّة الإنسان وأسقطت الفوارق البيولوجيّة بينه وبين الحيوان؛ هي الأخرى خرافةٌ وأسطورة، وخرافة “النُّدْرة” التي أطلقها (مالثس) تجذرت بـ”البلطجة” الأكاديمية في الحياة الاقتصاديّة؛ فأحدثت من الكوارث أكثر مما أحدثته خرافة ميلاد الإمبراطور المغوليّ نتيجة زواج سعيد بين السماء والأرض، ثم جاءت خرافة “أمريكا الأرض الموعودة”، لتتلوها على الفور خرافة الصهيونيّة؛ فيا للهول!
إرهاصات الانقلاب الكونيّ
لكنْ ما كان للخرافة أن تدوم؛ فها هي إرهاصات الثورة تبدأ من أروقة العلم، ولقد تعالت في الغرب الأصوات المندِّدة بالخرافة، فتأَمّل -مثلًا- قول (لورين إيزلي) عن نظرية التطور: “بعد أن أمضى العلماء عصورًا طويلة يعيبون على رجال الدين اعتقادهم بالغيبيات، وجد العلماء أنفسهم في وضع لا يُحْسَدون عليه؛ فاضْطُروا إلى اختراع خرافتهم الخاصة بهم”، ثم استمع لعالم الفيزياء (ل.ا.بينيت) وهو يصرخ: “إنّ الإيمان بأنّ خالقًا حكيمًا أبدع الكون من العدم وسيّره لبلوغ غاية واضحة أمرٌ يقبله العقل، أمّا الذي لا يقبله العقل فهو الإيمان بأنّ كل ما نراه في الكون ليس إلا تراكمًا لمجموعة لا نهائيّة من الصدف العمياء”، وهكذا؛ مئاتٌ من هذه الصيحات تتردد اليوم هناك.
وهناك ثورة على نظرية “النُّدرَة”، فَبِحَسَبِ كتاب (صناعة الجوع) “الإحصائيات العالميّة تؤكد أنّ 25% فقط من الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد النامية هي التي تُزرَع، وأنَّ الكثير من المنزرع فيها لا يلبي حاجة الجوعى، وأنَّ 36 دولة من الأربعين الأكثر تعرُّضًا للجوع تُصَدِّر مواد غذائيّة ترفيهيّة لأمريكا”؛ فأين هي النُّدْرَةُ التي لا يزال كبار الأكاديميين -حسب كتاب “نظام التفاهة”- يلقنونها للأجيال ممزوجة بنظريّة “التقاطر إلى الأسفل” التي تعني أنّ الأثرياء كلّما ازدادوا ثراءً تقاطر ثراؤهم على المجتمع، لقد أدرك الفكر الغربيّ الجديد أنّ الإمبرياليّة تصوغ الأوهام وتصنع الأصنام.
جيلٌ أَفزَعَ الكَهَنَة
والآن تدُبُّ الحياة في ساحات الجامعات، الآن نشهد حركة واعدةً بين الطلبة؛ تَنشُد التحرر من قيود الأساطير المعاصرة، وتقتبسُ من غَزَّةَ المثالَ المُلهِم، لم تَعُدْ أمريكا مهد الحريّة وحصن الإنسانيّة؛ إنّها بوليسيّة بالغة القسوة، تقمع وتفرض الإمبرياليّة بالقوة، وتمارس الإرهاب بنفسها وبأذرعها الضالعة في الإجرام، أمّا الصهيونيّة فهي صنمٌ بغيضٌ يَحُوطُهُ سدنةٌ قابعون في المؤسسات العتيقة؛ فيا لها من أيام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق