الخميس، 11 يوليو 2024

هل من راية تجمعنا

   هل  من راية تجمعنا ؟

  الدكتور جمال عبد الستار
الأستاذ بجامعة الأزهر والأمين العام لرابطة علماء أهل

لم تكن الأمة بحاجة إلى ضبط بوصلتها وتحديد هدفها كحاجتها لذلك في تلك الأيام العصيبة، ويبدأ الطريق إلى تحديد الهدف بلمحة تاريخية سريعة نؤكد فيها على أن الله تعالى قيض الدولة العثمانية لحماية الأمة قروناً عديدة، حافظت فيها على وحدتها ومقدساتها وهويتها، حتى تمكن المتآمرون بعد جهد جهيد من إسقاطها، فضاعت المقدسات، واغتُصبت الأوطان، وذهبت الوحدة وعمت الفرقة.

نتائج إسقاط الخلافة

ونتج عن إسقاط الخلافة أمران:

الأول: واقع جغرافي جديد يتمثل في تنفيذ خريطة سايكس بيكو على منهجية التتشتيت والتفريق التي ظلت مائة عام واقعا مفروضا على الأمة، حتى تآكلت دعائم دولة سايكس بيكو، وتهاوت مقوماتها، وسقطت معالمها وبَليت قواعدها، وتصدعت جدرانها، فلم تعد تقوى على الاستمرار. ومن هنا فواهم من يعتقد أن تعود اليمن يمناً كما كانت، أو الشام شاماً كما عاشت، أو مصر مصراً، أو العراق عراقاً، أو أن يبقى الخليج خليجاً، لكن يقينا ستبقى الشعوب والجماهير.

الثاني: حركات إسلامية، وتيارات إصلاحية وتنظيمات دعوية ومؤسسات شرعية حافظت على هوية الأمة، وغرست القيم، ودافعت عن معالم الدين ومبادئه منذ إسقاط الخلافة إلى وقتنا هذا. وبمرور الزمن أيضا تآكل الكثير من مقومات تلك التنظيمات، وتصدع الكثير من جدرانها، وضعف في نفوس الناس أثرها، وقل اكتراث الناس بالتوجيه الديني بصفة عامة نظراً للآثار الناتجة عن تعرضهم لكل تلك الكوارث والفواجع، ومنها صدمتهم في كثير من الرموز والمؤسسات والتيارات الإسلامية!! وواهم كذلك من يعتقد أن تعود تلك التنظيمات والتيارات والمؤسسات إلى سابق عهدها وعظيم أثرها، ولكن يقينا سيبقى خيرها، وسيبقى الإسلام والمسلمون.

وهنا أتساءل بكل جدية ووضوح ونحن على أبواب حقبة جديدة نتسلح فيها بالأمل ونتأهب فيها للعمل، ونستشرف فيها آفاق المستقبل:

لم يتبق إلا خيار وحيد نُدفَع إليه مجبرين، يتمثل هذا الخيار في الانحياز الكلي لقضية صلبة أو أرضية مشتركة أو مشروع جامع تتوفر فيه المشروعية المجتمعية، والمظلة الشرعية، والإجماع الشعبي

ماذا نريد؟؟

هل نريد إعادة الأمة الواحدة التي حمت المقدسات وحفظت الأوطان؟

أم نريد إحياء دولة سايكس بيكو التي ألِفنا العيش فيها قرنا كاملا ذقنا فيه مرارة الطغيان وآلام الحرمان، ومذلة التبعية ؟

أم نريد إعادة تنظيمات الحركة الإسلامية بكل ما فيها معتقدين أنها الدين الباقي والرسالة الخالدة؟.

وأعتقد أننا إذا أحسنّا الإجابة على هذا السؤال فإنه من اليسير بعدها أن نخرج من أزمتنا وأن نحدد وجهتنا، وأن نعلن رؤيتنا وأن نُعِد وسائلنا وأدواتنا.

وأؤكد كذلك على أن الأمة مرت بمراحل كثيرة سقطت فيها أنظمة عديدة، وفقدت فيها أوطاناً ورواداً وقادة وعلماء وبقي الخير في الأمة قائما، والدين في الأرض واصباً، فبقاء الأمة لا يرتبط بوجود أحد أو فقده. وأؤكد على أن السعي لإبقاء دويلات سايكس بيكو على قيد الحياة بنفس معالمها ومنطلقاتها عبث فكري، وتخلف عقلي، وانحراف شرعي، وجهل بتاريخ الصراع، ماضيه وحاضره ومستقبله. وأن التيارات والتنظيمات الإسلامية لا تنوب عن الأمة في شيء، وليست هي الأصل في النهوض، ولكن ربما تساعد الأمة في انطلاقها، وتساهم في استنهاض طاقاتها وإمكاناتها، مع التأكيد على أن بقاء الأمة ونجاحها ليس محصوراً ولا مرهوناً بوجود تلك المؤسسات والتيارات من عدمه.

المشروع الجامع الذي يحقق الإجماع الشعبي

ومن هنا لم يتبق إلا خيار وحيد نُدفَع إليه مجبرين، ولا نسير إليه مختارين. يتمثل هذا الخيار في الانحياز الكلي لقضية صلبة أو أرضية مشتركة أو مشروع جامع تتوفر فيه المشروعية المجتمعية، والمظلة الشرعية، والإجماع الشعبي. يتمثل الحل في الانحياز لراية تُرفع، يؤمن الناس بقدسيتها، وتتفق الأمة على نصرتها وتتسابق الأيادي لنجدتها، مع التأكيد التام على أن هذه الأمة لن تموت، وسيبقى الخير فيها إلى يوم القيامة ما بقي الدين وما بقيت الحياة. ومع التأكيد كذلك على أن هذه الأمة لا تنقصها الطاقات والإمكانات ولكنها للأسف عندها فائض في إهدار تلك الطاقات والإمكانات لغياب الرأس والمشروع.

فهل يمكن أن نلتف حول راية نقاتل دونها، ونستضيء بهديها، ونجمع عليها شتاتنا، ونحشد فيها طاقاتنا، ونستثمر فيها جهودنا، ونوحد عليها صفنا؟ فما هي تلك الراية، وما هو ذلك المشروع؟

القتال حول الراية

وفي إطار البحث عن تلك الراية، وتطلعاً إلى تلك الأرض الصلبة التي يمكن أن تُجمع الامة عليها لتجدد انطلاقتها، وتكسر قيودها، فإنني أرى أن التوصل إلى تلك الراية يعرف بعدة وسائل منها:

أولا: راية العدو

يعمد المنتصر غالبا إلى نصب رايته على أنقاض راية المهزوم، ويشيد فسطاطه على أنقاض فسطاطه. والجميع يرى الآن بكل وضوح أن راية الاستبداد العالمي قد تم غرسها على أطلال راية المسلمين، فقد توحدت كل أيادي الغدر والخيانة على زرع كيان لقيط في قلب الأمة الإسلامية، وعلى أنقاض رايتها المسلوبة سموه (إسرائيل).

والعجيب أنك ترى أن أعداء الأمة قد اختلفوا في الكثير من أمورهم ولكنهم اتفقوا على دعم ذاك الكيان ونصرته، فهو لواؤهم الذي نصبوه، ورايتهم التي غرسوها وهو موطن الولاء، والحج إليه مقصد الخائنين، ودعمه سراً وجهراً من وسائل تثبيت أركان الطغاة والمستبدين، وإن نسيت فلن أنسى كم يتودد المرشحون في انتخابات الرئاسة الأمريكية للكيان، وكم يقدمون من خطط لدعمه، أو قرارات لإحكام قبضته على القدس، أو وعود بالقضاء على المقاومة، وكم يسعى خونة العرب لخدمته طمعا في تثبيت أركان أنظمتهم، واستمرار طغيانهم واستبدادهم! ومن هنا فلندرك أن راية الأمة التي يجب رفعها، والبيعة لنصرتها، والاصطفاف لتحريرها ليست إلا القدس الشريف.

ثانيا: كلاب الحراسة

إن دعم الغرب لكثير من الأنظمة العربية والإسلامية يرتبط ارتباطا كبيرا بمدى دعم تلك الأنظمة للكيان، وتطبيع العلاقة معه، وشن الحروب على كل من يقاوم طغيانه، أو يواجه احتلاله، وأن بقاء الأنظمة المستبدة في المنطقة مرهون بمدى دعمهم للكيان الصهيوني، فهم أشبه بكلاب الحراسة، وموت ألف رجل من أهلهم أيسر عليهم وأقل خطرا من موت كلب واحد لسيدهم! لأن هذه الأنظمة لم تأت للحكم عن طريق الاختيار الحر لشعوبها، وإنما أتت وفق ترتيبات الغرب لتحقيق أهدافه، وحراسة رايته ومصالحه.

ثالثا: تاريخ الراية

تسلم النبي صلى الله عليه وسلم في رحلة التمكين والريادة (الإسراء والمعراج) راية الأمّة، حيث صلى بالأنبياء إماما في المسجد الأقصى، فلم تكن الصلاة في مكة أو المدينة رغم عظيم مقامهما ومكانهما، وإنما كانت تلك الصلاة في القدس بمثابة حفل تسليم للراية، حضرها الأنبياء السابقون جميعا ليشهدوا ويشاركوا في تسليمها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُتوّج بالمعراج منها إلى سدرة المنتهى.

رابعا: الطائفة المنصورة

إن بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ببقاء طائفة منها منصورة ترفع الراية وتقوم على الحق، وتقهر العدو، محصورة على من كانوا في بيت المقدس، ومن كانوا في أكنافه ممن يجاهدون من أجله وإن لم يكونوا من أهله. كما جاء في الحديث: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.

فمن لم يكن من أهل بيت المقدس فليكن من أكناف بيت المقدس، وإن كان في أقصى البلاد أو أدناها، فالعبرة بتحققه بتلك الصفات وليس بالسكن والحياة، العبرة بالاستمرار على القيام بالحق، ومقاومة العدو ودحره، دون الالتفات لقوته أو الانصياع لإرادته.

خامسا: النموذج الناجح

إن مشروع المقاومة في القدس وفلسطين يعتبر من أصلب النقاط التي يمكن أن تجتمع الأمة عليها الآن، ومن أنجح التجارب التي دفعت الأمة إلى الثقة بمنهجها، وعظيم المحبة والولاء لرجالاتها وقادتها، لذا فإن مشروع المقاومة هو الوحيد المؤهل للقيادة في مرحلة السيولة الجارفة التي تعيشها الأمة في أزمتها الحاضرة، وهو بالفعل يمثل أملاً من أمالها.

الراية ليست سوريا وحدها، أو مصر، أو العراق، أو مكة مع قداستها، أو المدينة مع سمو مقامها، ولكن الراية تتمثل في القدس المغدور والأقصى الأسير.

سادسا: وحدة الصف

إن الانشقاق المجتمعي الأليم الذي أصيبت الأمة به في الأونة الأخيرة على نحو لم يسبق له مثيل، لا أمل في إصلاحه وإعادة لحمته إلا على تلك الراية، فهي القضية الوحيدة التي أجمع الناس عليها، لما لها من مشروعية دينية، ومشروعية حقوقية وتاريخية وعاطفية، لذا فهي الراية الوحيدة التي تجمع الفرقاء ، والراية الوحيدة التي لا يقف ضدها إلا مفارق لدينه، فهي راية التمايز والفرز الحقيقي .

أخيرا أستطيع أن أقول إن الراية ليست سوريا وحدها مع شرفها وبركتها، أو مصر مع قدمها، أو العراق مع تاريخها، أو مكة مع قداستها، أو المدينة مع سمو مقامها، ولكن الراية تتمثل في القدس المغدور والأقصى الأسير. وإن اجتماع قوى الأمة لتحرير الراية ليس في الحقيقة إلا سعيًا جاداً لتحرير سائر الأوطان، وإن توجيه كل القوى المتاحة لتحرير راية الأمة ليس انصرافاً عن تحرير بقية الأقطار، أو تخلياً عن القضايا الخاصة، أو هروباً من الاستحقاقات المحلية، وإنما ضبطاً للبوصلة، ووقفاً للاستنزاف، ومحافظةً على ما تبقى من سهام.

ولندرك على وجه القطع أن أعداء الأمة عمدوا إلى فتح بؤر استنزاف في المنطقة عن طريق وكلائهم، استنزفت الكثير من ثروتها بقتل مئات الآلاف من شبابها الطاهر، وتدمير الكثير من ثرواتها ومواردها، وزرع اليأس في نفوس أجيالها، وأزعم أن ما أُنفق من أموال وما أُريق من دماء في السنوات الخمس الماضية كان كفيلاً بتحرير راية الأمة ومقدساتها وسائر أقطارها.

سؤال للنقاش

إذا كان الكثير مما يحدث لأمتنا يكمن سره في منع الوصول إلى تلك الراية، ألا يدفعنا ذلك الى التفكير في أن نجعل استخلاص تلك الراية هو القضية الكبرى التي منها تُحرر البلاد من سطوة الطغاة ووكلاء البغاة وكلاب الحراسة؟ وإذا اتفقنا على هذا الطرح فما السبيل لذلك وما كيفيته؟

المصدر

“موقع رابطة علماء أهل السنة” الدكتور جمال عبد الستار، الأستاذ بجامعة الأزهر والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق