الخميس، 11 يوليو 2024

وديني ديني عز لست أدري.. أذلة قومنا من أين جاءوا

 وديني ديني عز لست أدري.. أذلة قومنا من أين جاءوا

محمد إلهامي

محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


طاف بخاطري هذا البيت وأنا أقرأ في مذكرات هرتزل.. وسأحكي لك القصة..

بداية، يجب أن أكرر القول بأن هذه المذكرات مهمة للغاية، بل إن أهم ما ينبغي أن يُقرأ من المذكرات في زماننا هذا وأحوالنا هذه: مذكرات المؤسسين صُناع المشاريع والنهضات ومؤسسي الدول والحركات..

والقصة يا عزيزي القارئ أن هرتزل من قوم أذلة، ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وقطعهم في الأرض أمما..

على أن الله وعدهم بالعودة إلى هذا الأرض في التوراة والإنجيل والقرآن، وأنت مسلم وتقرأ قوله تعالى {فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}..

هم يرونه وعد تكريم وعودة وعصر سعيد لألف سنة، ونحن نراه وعيد تهديد وإفناء {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علو تتبيرا}

وقد جاء في القرآن أيضا {وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب}

وجاء في السنة “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي ورائي”.

ومضت صفحات التاريخ وتدفق نهره حتى تحقق وعد الله ووعيده.. فلا زالوا قبل دولتهم في ذلة ومسكنة، ولا زالوا بعد قيامها في قلق وانزعاج وخوف!

وإذا قرأت قصة النشأة فسترى أن مجهود الصليبيين (لا سيما البروتستانت، أو الإنجليين، أو الصهيونية غير اليهودية) في إنشاء هذه الدولة كان أعظم بكثير وأضخم بكثير وأخطر بكثير من مجهود الصهاينة اليهود أنفسهم!

فهذا هو حبل الناس.. ولولاه ما رفع هؤلاء اليهود رأسا ولا نشأت لهم دولة!

ولقد كان أكثر الخائفين والمنزعجين من مشروع الدولة الصهيونية هم اليهود أنفسهم.. كانوا يرونها مؤامرة لإخراجهم من أوروبا من بعد ما تحسنت أحوالهم فيها بعد دخول أوروبا في الحقبة العلمانية وارتفاع الاضطهاد الكنسي!

وكثيرا ما بدا هرتزل نفسه ساخطا على اليهود، ومستوعبا للتحدي الذي يمثله الرفض اليهودي في العودة إلى فلسطين!

لكن -كما أسلفت- كان المجهود البروتستاني (خصوصا بريطانيا وأمريكا) أعظم من المجهود اليهودي الصرف في إنشاء إسرائيل.

وإذن، عزيزي القارئ الكريم، فلقد كان هرتزل يتحرك في بيئة من الأذلة الخائفين القلقين..

ثم إنه بنى مشروعه الصهيوني على ألا يقوم على أكتاف اليهود أنفسهم، بل على أكتاف القوى الكبرى، فطفق يطوف ويدور ويصعد وينزل ويتشرد ويتسكع في العواصم الكبرى للقاء ملك هنا ووزير هناك وأمير هنالك، ويضرب في كل ناحية بسهم، حتى كانت أحسن حظوظه في بريطانيا البروتستانتية!

وإذا كنت تحب أن تسمع القصة بشكل أكثر تفصيلا، فانظر هنا (لكن انظر بعد أن ننتهي من كلامنا الآن:)


إذا كنت بقيت معي ولم تذهب إلى الحلقة فاعلم أن خطة هرتزل قامت على أن يستخلص إذنا من العثمانيين بقطعة أرض لليهود، برشوة أو بصفقة أو انتزاعا بيد قوة كبرى.. ورفض رفضا مطلقا أن يبدو اليهود كمتمردين على السلطان العثماني أو خارجين عن القانون، ولقد عرضت عليه خطة كهذه لكي يكون اضطهاد السلطان لليهود ذريعة للتدخل الأوروبي لحمايتهم، فرفض بلا نقاش!

وأما إن كنتَ ذهبت واستمعت إلى الحلقة وعدت، فمؤكد أنك سمعت هذا في الحلقة بشكل أكثر تفصيلا 🙂

الجزء الذي أريد أن أقوله الآن هو الآتي:

تأمل معي في رجل يتحرك بين قوم أذلة ضربت عليهم المسكنة، وقامت خطته على أن يتسلل في ظل القوى الكبرى والسلطان المهيمن لا على أساس المواجهة المنفردة والانتزاع..

ثم هو بعد هذا كله، يسجل في خطته، التي كتبها في وقت مبكر من تفكيره، هذه العبارات:

“من هذه الطبقة البروليتارية المثقفة سأجمع الموظفين ونواة الجيش الذي سيبحث ويكتشف ويأخذ البلاد”

“لما قرأ السكرتير علي التقرير الرسمي لوزير الحربية كان كل ما أفكر به هو جيشنا.. يجب المحافظة على الجيش”

“يجب أن أدرب الشباب ليكونوا جنودا، وسيكونون جيشا محترفا. القوة”

“سأعلمهم جميعا أن يكونوا أحرارا، أقوياء، مستعدين أن يتطوعوا للخدمة عند الحاجة. وسيكون التعليم عن طريق الأناشيد الحماسية، والمكابين، والدين، والمسرحيات البطولية والشرف وغيرها”

“في ذلك الوقت سنكون قد تمركزنا هناك، وأصبح لنا جيش وجهاز دبلوماسي”

بل إن هرتزل قبل أن يتجند الشباب اليهودي في جيوش بلدانهم حتى لو كانت بلادا متعادية وستتقاتل، وسيقتل بعض اليهود بعضا من أجل أن يتعودوا الجندية ويتدربوا على القتال.

وثمة فقرات أخرى لا أطيل بنقلها الآن، تزيد في التأكيد على أن هذا الرجل كان يخطط منذ البداية، حتى ضمن خطته تلك، لأن يكون لليهود قوة ذاتية مستقلة عن القوى الكبرى، سواءٌ أكان ذلك باختراق بعض الجيوش عبر الصهاينة المجندين بالفعل، أو بتجنيد اليهود وتكوين مراكز وأندية لتعليم السلاح والتدريب.

ولقد مات هرتزل في 1904.. ولكن خطته نجحت.. بل نجحت نجاحا مدويا، فإن اليهود الذين دربتهم بريطانيا وسلحتهم هم الذين أخرجوها من فلسطين ونفذوا ضدها عمليات تفجير واغتيال مؤثرة (أتمنى لو انبعث أحد لترجمة مذكرات مناحم بيجين لتكون متاحة باللغة العربية، ففيها جانب مهم من هذه القصة).

لقد صارت العصابات اليهودية جيشا مستقلا يعمل وفق أهدافه الصهيونية حتى لو غدرت بأمها البريطانية البروتستانتية.

السؤال الآن: إذا كان هذا تفكير رجل في أمة مستذلة متمسكنة، وضمن خطة هو فيها متستر بالقوى الكبرى.. فمن أين جاء تفكير “السلميين، والدعويين، والمنظرين” في أمتنا المسلمة التي تنطوي في نفسها وروحها وأعصابها على بحر من العزة، مستمد من نصوص القرآن والسنة وتراث طويل من عمل الأماجد الغابرين؟!!

أليس قد صدق ذلك الشاعر لما تعجب وركبه الذهول وهو ينشد:

وديني دين عز لست أدري.. أذلة قومنا من أين جاءوا؟!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق