هزيمة أم انتصار؟!
تبدو هزيمة، فمن سيقتنع بأن موت ما يقرب من أربعين ألف شهيد، وسقوط حوالي تسعين ألف جريح، وتدمير أكثر من ثمانين بالمئة من البنايات والشوارع والبنية التحتية، سيكون انتصارا؟ إنها ليست هزيمة عادية، بل هي هزيمة مدوية.
لكن مهلا يا صاحبي، إنك قست قياسا ماديا واحدا، ونظرت إلى الأمر من زاوية واحدة، واسمح لي أن أقيس الحكم بأكثر من قياس، وأنظر إلى الأمر من أكثر من زاوية، وتعال نصل إلى النتيجة معا.
على الصعيد العسكري، لأول مرة يسقط من العدو الصهيوني أكثر من (2500) قتيل، وهذا الرقم يساوي عشرة أضعاف ما قتلته الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل على مدى ثلاثة أرباع قرن؛ أي منذ عام 1948م إلى اليوم، ثم وقوع حوالي (250) أسيرا من العدو في أيدي المقاومة، بعضهم جنرالات وقيادات كبيرة في الجيش الإسرائيلي، ما كانوا يظنون للحظة أن يحصل لهم ذلك على يد مجموعة صغيرة كادت تنسى من المسلحين.
ثم إن أكثر من أربعة آلاف جندي وضابط احتياط رفضوا الانصياع للأوامر بالقتال في غزة، خوفا من الموت على أيدي أبطالنا، هذا غير الذين ينتحرون منهم حين يعودون من غزة، لهول ما يرون من بسالة المقاومة، وغير ثمانية آلاف عادوا من هناك مرضى نفسيين ومعاقين، فأصبح الجيش الإسرائيلي جيش المعاقين..
ولأول مرة تسقط مقولة (الجيش الذي لا يُقهر) سقوطا حقيقيا، وصار ما فعله المقاومون في السابع من أكتوبر، يقول: هذا الجيش يمكن أن يقهر، ويمكن أن تؤسر قياداته، ويمكن أن يهزم هزيمة نكراء.
أما على الصعيد الاستخباراتي، فإن نجاح اقتحام السابع من أكتوبر يعد فشلا استخباريا للعدو، ولأول مرة يجد العدو عورته مكشوفة، فالصندوق الأسود للموساد، وكنز من المعلومات صار بأيدي المقاومة، وصار يمكن أن تصور طائرات المقاومة أدق المخابئ والمواقع العسكرية والاقتصادية في المدن الكبرى في حيفا ويافا وتل أبيب.
أما على الصعيد العالمي، فإن عقل العالم اليوم قد نظف مما حشي به من الترهات الكثيرة، نظف من أكذوبة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، فقد شاهد العالم الحر كله كيف يُقتل الأطفال وتُذبح النساء وتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها العزل، وتحرق الخيام بمن فيها من أحياء، وصار العالم يدرك أن دولة الكيان هي الأكثر كذبا في الكيانات الاستعمارية الإحلالية، وجيشها هو الأبشع سلوكا على مستوى سلوكات الجيوش في الحروب منذ عهد القياصرة.
أما على صعيد الحركات الطلابية، فقد كسبنا بسبب السابع من أكتوبر عددا لا يمكن تصوره من الذين انحازوا إلى قضية فلسطين العادلة، خرجوا بالملايين يملؤون الشوارع عن بكرة أبيها، ويسدون ساحات المدن الكبرى في أمريكا وأوروبا وغيرها من الدول التي لا تدين بديننا ولا تنطق بلساننا، وهم يهتفون: “فلسطين حرة”، ولولا السابع من أكتوبر لما سمعتْ هذه الملايين المملينة من الطوفانات البشرية بهذه القضية من الأساس، ولما انتصرت لها بوسائل يصعب تصديقها.
أما على الصعيد السياسي، فقد جعل السابع من أكتوبر بعض زعماء العرب المهرولين إلى التطبيع مع الكيان الغاصب يتعثرون في هرولتهم، ويسقطون، وتنتهي بذلك أحلامهم، أو تتأجل إلى أجل غير مسمى، وإعاقة عملية التطبيع المسرعة هو إنهاض للقضية بعد أن كادت تموت؛ هذا من جانب العرب، أما من جانب الغرب، فقد اضطر عدد من تلك البلدان إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وما كان ذلك ليكون لولا هذه الحرب التي أعترف معك بأنها ثقيلة صعبة ملعونة، ولكنها على الضفة الأخرى مجنونة كاشفة فاضحة صادقة.
أما على صعيد المجتمع الصهيوني، فقد أدى السابع من أكتوبر إلى زيادة الشرخ بين فئات المجتمع، ونهضت نزاعات وشقاقات كثيرة بسبب ذلك.. لماذا لا يقاتل الحريديم ولا يدخلون في التجنيد العسكري مثل غيرهم؟ شروخات أخرى مجتمعية أظهرت أن النسيج الاجتماعي الصهيوني هش، ويمكن أن يتفكك لأدنى الأسباب، هذا غير ما أدخلت الحرب من رعب في نفوس هذا المجتمع الصهيوني، فغادر أكثر من نصف مليون صهيوني البلاد من غير رجعة عائدين إلى بلادهم التي جاؤوا منها، ومن كان يدرك أن ذلك ممكن إلا بسبب من هذا السابع المجيد؟!
أما على الصعيد الإعلامي، فقد سقطت الرواية الصهيونية، والسردية الاحتلالية، وبان عوارها وزيفها أمام حقائق الواقع، وأظهرت كاميرات الإعلام الحر، وكاميرات الناس الذين ينقلون الأخبار والصور والمشاهد الرواية الحقيقية؛ هذا أكثر جيوش العالم لا أخلاقية، وآخرها أو أكثرها وضوحا ما كان يطلقه من الكلاب البوليسية المفترسة على النساء والعجائز.
كان هذا، وغيره كثير.. لقد أعاد السابع من أكتوبر الأمل إلى قلوب ملايين من الناس التواقين إلى الحرية، وإلى تخليص فلسطين من قبضة العدو المجرم. نعم، زرع الأمل فاخضرت القلوب اليابسة، وأينعت الصدور الخاوية، فهل اطمأننت إلى أن السابع من أكتوبر كان انتصارا؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق