جحيم غزة.. من هم صانعوه؟
شيرين عرفة كاتبة
صحفية وباحثة سياسية
“رأيت طفلاً يبلغ من العمر 6 سنوات، كان ملقى على الأرض في غرفة الطوارئ، ولم يكن أي من عائلة الطفل حوله، فقد أُخبِرنا بأنهم قُتلوا جميعا! كان الطفل يعاني من حروق مؤلمة للغاية، وجروح مفتوحة في منطقة الصدر.. نظرت حولي بحثا عن أطباء أو عمال تمريض يساعدونني، فلم أجد، كانت الحالات والإصابات الحرجة، التي تأتي على مدار الساعة طلبا للعلاج، لا يستوعبها حجم العاملين في المشفى، أخذتُه على الفور إلى منطقة الإنعاش، وأتممت له الإجراءات الطبية اللازمة على الأرض، حيث لا توجد أسرة أو نقالات كافية، لكن الأفدح من كل ما سبق أنه لا توجد مسكنات للآلام تساعد هذا المسكين في التخفيف من معاناته”.
ما قرأتَه للتو، كان جزءا من شهادة البروفيسور الدكتور “نيك ماينارد”، الطبيب البريطاني الذي عمل في مستشفى “شهداء الأقصى” بغزة لمدة أسبوعين، من نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023 وحتى 9 يناير/ كانون الثاني 2024، بمبادرة من لجنة الإنقاذ الدولية ومنصة العون الطبي للفلسطينيين، وذلك في حوار صحفي له مع أطباء آخرين، نشرته وكالة الأناضول في 21 يناير/ كانون الثاني 2024.
وأشار “ماينارد” إلى أنه كان يجتمع مع الموجودين في غزة منذ بداية الهجمات الإسرائيلية، وكان يُعِدّ نفسه لما سيراه، ومع ذلك يقول: “إن ما رأيته كان أسوأ بكثير مما توقعت، في مستشفى شهداء الأقصى رأيت أفظع الإصابات التي لم أتخيل أن أشاهدها في حياتي المهنية، لقد اضطررت في كثير من الأحيان إلى علاج الجرحى دون معدات طبية، ولم يكن هناك حتى ماء، فكنا نضطر إلى تنظيف أيدينا باستخدام المواد الكحولية فقط، كما لجأنا لعمليات مروعة لبتر الأطراف دون مخدر، لقد كانت غزّة بالنسبة لنا جحيما على الأرض”.
وتحدث طبيب الطوارئ “جيمس سميث”، الذي عمل في عدة مناطق تشهد صراعات وأزمات، وذكر أنه كان واحدًا من فريق أطباء مكون من 9 أشخاص يعملون في غزة، وأشار إلى أن معظم المستلزمات الطبية الأساسية كانت غير متوفرة، وقال: في أحد الأيام نفد الشاش الذي كنا نستخدمه لتضميد الجروح، وفي اليوم التالي نفد المورفين الذي كنا نستخدمه للأشخاص الذين يعانون من آلام خطيرة.. لقد عملت لدى العديد من المنظمات الإنسانية، وشاهدت المرضى في العديد من مناطق الصراعات لسنوات، لكن لم يسبق لي أن رأيت إصابات مؤلمة بهذا الحجم وهذه الخطورة، لقد كانت تجربة غزّة حقًا أعظم حدث مررت به على الإطلاق.
وفي لقاء مصور له، ظهر “سميث” مؤخرا ليعلق على هجوم الجيش الإسرائيلي الدامي على مخيم النصيرات لاستعادة 4 أسرى إسرائيليين مخلفا مئات القتلى والجرحى، فقال إنه شاهد العديد من الإصابات الجماعية أثناء فترة عمله السابقة في قطاع غزة، لكنها تعتبر ضئيلة بالمقارنة بما أوردته التقارير عما حدث في مخيم النصيرات (حيث تقول وزارة الصحة في غزة إن 274 شخصا، بينهم 64 طفلا و57 امرأة، قُتلوا في الهجوم الإسرائيلي على المخيم المكتظ بالسكان، بالإضافة إلى إصابة وجرح مئات المدنيين).
ونوه “سميث” إلى أن أعداد القتلى والجرحى التي تم الإعلان عنها، تعني أن القطاع الطبي في غزة قد انهار بالكامل، وأن الوضع أسوأ بكثير مما شاهده في الفترة التي عمل بها بتلك المستشفيات، ثم تساءل متعجبا: كيف سُمح لتلك الهمجية بالاستمرار طوال هذه المدة؟! وهنا يبدو سؤال سميث هو السؤال المنطقي الذي ينخر في عقل كل إنسان يتابع الأحداث المأساوية في قطاع غزة، منذ بداية الحرب الإسرائيلية الوحشية عليها في أكتوبر الماضي، منذ ما يقرب من 9 أشهر.
كيف سمح العالم باستمرار هذا الجحيم الإسرائيلي، المنافي لكل قواعد الحرب، والقوانين الدولية والمواثيق، وإعلانات المنظمات الأممية لحقوق الإنسان؟! الجحيم الذي يقدم لأهل غزة، كل صنوف الموت والعذاب والهوان، ما بين الموت قصفا أو حرقا أو قنصا أو جوعا أو عطشا أو مرضا، جحيم يتابعه المليارات حول العالم، لحظة بلحظة وعلى مدار الأشهر.. ويجيب على هذا السؤال اعتراف مسؤول أمريكي لشبكة “سي إن إن” الإخبارية، بأن قوات أمريكية شاركت في الهجوم على النصيرات، حيث قال المسؤول إن الخلية الأمريكية هي عبارة عن فريق موجود لدعم إسرائيل منذ 7 أكتوبر، يقوم بجمع المعلومات حول الرهائن، وتقديم الدعم اللوجيستي.
هذا يأتي بالإضافة إلى أن الدور الأمريكي في غزة اتضح منذ اللحظات الأولى للحرب، بإرسال إدارة بايدن لحاملة الطائرات وآلاف الجنود الأمريكان إلى شرق البحر المتوسط، بالإضافة إلى كونها المورد الأول للأسلحة المتوجهة إلى الإسرائيليين، حيث كشفت صحيفة “إسرائيل اليوم” في تقرير لها في مارس/ آذار هذا العام، عن وصول نحو 35 ألف طن من الأسلحة والذخائر، إلى إسرائيل، غالبيتها من الولايات المتحدة، على متن أكثر من 300 طائرة ونحو 50 سفينة، منذ أكتوبر الماضي، كما صادق الكونجرس على عشرات الصفقات لتوريد الأسلحة إلى إسرائيل، وقد شملت الذخائر الموجهة بدقة، والقنابل والصواريخ الخارقة للتحصينات، وأنظمة الدفاع الجوي، إلى جانب المعدات العسكرية والطائرات المقاتلة.
إلا أن اعتراف الإدارة الأمريكية بالمشاركة في هجوم وُصِف بأنه أحد أبشع المجازر التي ارتكبتها إسرائيل ضد قطاع غزة منذ بداية الحرب، يوضح لك حجم السقوط الأمريكي الشنيع في مستنقع تلك الحرب الدموية المرعبة، ناهيك بالطبع عن تصريحات مسؤوليها، التي تبدو أحيانا أشد تطرفا وقسوة من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين.
وعن الدور الاستخباراتي في عملية النصيرات، نقل موقع نيويورك تايمز عن مسؤول إسرائيلي قوله إن فرق جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية من أمريكا وبريطانيا كانت متواجدة في إسرائيل طوال الحرب، وإنها ساهمت بقوة في تحرير الأسرى الأربعة الإسرائيليين.
لكن يبدو أن المشاركة البريطانية في حرب غزة، لا تتوقف على فِرَق جمع المعلومات والاستخبارات، التي تساعد الإسرائيليين على تحديد أهدافهم بدقة، ممن يريدون قتلهم من الفلسطينيين، بل تتجاوزها لإمداد إسرائيل بالأسلحة والقنابل التي تفتك بأجساد الفلسطينيين. ففي بيان لها، صدر أول أمس الثلاثاء، 11 يونيو/ حزيران، اتهمت منظمة المساعدة الإنسانية الدولية “أوكسفام” الحكومة البريطانية بـ”المساهمة في تأجيج الصراع” من خلال الاستمرار في بيع الأسلحة لإسرائيل، ونددت المنظمة بمنح الحكومة البريطانية أكثر من 100 تصريح بيع أسلحة ومعدات عسكرية لإسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ومصادقتها على استمرار مئات التصاريح الحالية؛ وذلك وفقًا للبيانات الصادرة عن وزارة العمل والتجارة البريطانية.
يمكننا القول إننا أمام حرب إسرائيلية أمريكية بريطانية، تدعمها دول غربية عديدة، تتقدمها ألمانيا وإيطاليا، مع تواطؤ كامل من أنظمة عربية، لا يقتصر دورها على الصمت والموافقة على استمرار تلك الحرب الوحشية، والمساعدة في إحكام الحصار على القطاع، بل يتعدّى ذلك إلى تقديم الدعم المادي من أغذية ووقود للمحتل الإسرائيلي، ويصل إلى آفاق لا يتصورها عقل، كتلك التي جاءت في تقرير موقع أكسيوس الأمريكي، الذي كشف عن اجتماع سري عُقد في المنامة عاصمة البحرين، في وقت سابق من هذا الأسبوع، وحضره رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “هيرتسي هاليفي”، والجنرال الأمريكي ميشيل “إريك” كوريلا، بالإضافة إلى قادة جيوش دول عربية، هي مصر والسعودية والبحرين والإمارات والأردن، لمناقشة التعاون الأمني والعسكري فيما بينهم.
وهنا يتضح لنا، أن الجحيم في غزة، له صناع كثيرون.. {والله غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمون}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق