وقوله “الأمم” جمع، وهو جمع كثرة لا جمع قلة، فإن الاتفاق على ذبحنا يكون بالجمع لا بالمفرد، وأما الأمم الذين كانوا أعداء قبل هذا التداعي فسيصبحون أولياء وأصدقاء في اجتماعهم علينا.
وقوله: “أن تداعى”، والتداعي لا يكون إلا بعد التنادي، فما تداعت هذه الأمم علينا إلا بعد أن نادى بعضهم بعضا: إن ما كان يفرقنا من قبل يجمعنا اليوم، إن عدونا واحد، فلننس خلافاتنا القديمة، ونتألّب على هذا العدو المشترك.
والتداعي لا يكون من جهة واحدة، بل من جهات، وإن أمم الكفر اليوم قد تداعت من الشرق والغرب على أهل غزة، فما بقي من له سلاح وفيه شِرّة إلا وولغ في دمائنا.
وقوله: “كما تداعى الأكلة إلى قصعتها” فيه أمران، الأول: أن هذه الأمم جائعة إلى لحومنا، وعَطِشة إلى دمائنا، فجاءت كأسراب الذئاب حشودا خلف حشود، والثاني: سهولة ما أقدموا عليه، وقلة المقاومة في سبيل ذلك، فما أسهل أن تتناول الطعام! وما أسرعه! ولم يحدث أن قاومت ذبيحة مطبوخة آكلها.
وقوله: “إلى قصعتها” فمعنى ذلك أن كل مرة تتداعى فيها الأمم علينا يكون ذلك إلى قصعة واحدة، لا إلى قصاع متعددة، فهجومهم هذا يكون بتوحيد البؤرة التي يهاجمونها أو يأكلونها، وتأجيل سواها من القصعات إلى حين الانفراد بها قصعة قصعة، وهذا ما يحدث في غزة تماما.
وسؤال قائلهم: “ومن قلة نحن يومئذ؟” هو سؤال المتعجب غير المصدق، ذلك أن السائل تعلّم على يد نبيه صلى الله عليه وسلم أن “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه”، فلما فكر السائل في حديث القصعة وجمعه مع هذا الحديث، أيقن أن الأخوة تقتضي أن لا يسلم المسلم أخاه لعدوه، بل يهُبّ للدفاع عنه، فلما أراد أن يجد لذلك مخرجا فيما ذهب إليه مما هو واجب للمسلم على المسلم، خطر بباله أنه لم يسلمه إلا لشأن عظيم، وقدرة لا يستطيعها، وطاقة لا قبل له بها، فسأل سؤاله الموجع هذا: “ومن قلة نحن يومئذ؟”.
وجاءه الجواب الذي لم يتأخر، لأن النبي يرى بوحي من الله: “بل أنتم يومئذ كثير”. والمسلمون اليوم يشكلون ثلث العالم، فأي كثرة تكاثر هذه؟ وأي مزيد لعدد مثل هذا؟
فزاد ذلك من تعجب السائل، فلم يمهله النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون في ذهنه مزيد من التعجب لأسئلة يبدو أنه لا جواب حاضرا لها عنده، فأردف بعدها: “ولكنكم غثاء كغثاء السيل”، فأي تشبيه أبلغ من هذا؟! فالغثاء هو ما يكون فوق السيل من أوراق يابسة أو أعواد أو فقاقيع تعلو فوق الماء الجاري، وهي التي تتسنم فيه موضع العلو والإمكان، فكم من الذين علوا أمر المسلمين اليوم هم فقاقيع! وكم من أهل الإمكان ليسوا أكثر من ورق يابس!
وقوله: “ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم”، فإن هذه الكثرة التي تكون فوق السيل تجمع إلى قلة تأثيرها وتحكُّم السيل في اتجاهها، استهانة الأعداء بها، فمن سيحسب للفقاقيع حسابا؟!
وقوله: “وليقذفن الله في قلوبكم الوهن؛ فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت”. فأي حب للدنيا وكراهية للموت أكبر مما فيه المسلمون اليوم في موقفهم من حرب غزة؟ إن أهل السلطة يخافون على سلطتهم أن تُنتزع، فلا يحركون ساكنا إلا ما كان ذرًّا للرماد في العيون، وإن أهل الكراسي ليتشبثون بكراسيهم حتى تعود – لطول ما جلسوا عليها أو جلست عليهم– كأنهما شيء واحد. وإن أهل كل ذي عَرض ثقيل في الدنيا من السلطة والجاه والمال ليكرهون الموت؛ لأنهم يوقنون أن الموت سيكون نهاية كل شيء!
فما أوقع نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا اليوم! وسبحان الذي قال عنه في كتابه العزيز: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق