الدروس العملية المستفادة من عمارة المسجد النبوي!
يُعدّ بناء المسجد النبوي في المدينة، بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها، حدثا فريدا في تاريخ العمارة الإسلامية؛ فهو يعد أول بناء خالص يمكن أن يُطلق عليه صفة "إسلامي"، ومن خلاله يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أسس عمارة المساجد، ويعطينا العديد من المفاهيم المعمارية والدروس العملية المهمة، التي لا غنى للمسلمين عنها في كل عصر وفي كل مصر.
وفيما يلي نبذة عن بناء المسجد النبوي، وبعض من تلك الدروس:
إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على شراء الأرض التي بنى عليها المسجد من أصحابها، رغم أنّ أصحابها هؤلاء كانوا يريدون التنازل عنها في سبيل الله سبحانه وتعالى برضاهم واختيارهم، دون أي إحراج، ودون أي ضغطٍ أو إكراه
نبذة عن بناء المسجد النبوي
كان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وصوله إلى المدينة مهاجرا إليها -كما هو معروف- بناء المسجد، وذلك في المكان الذي بركت فيه ناقته القصواء؛ فقد كان هذا المكان مِربدا، أي موضعا لتجفيف التمر، وكان مملوكا لغلامين يتيمين من بني النجار، فأخذه الرسول صلى الله عليه وسلم منهما بثمنه، وكان يوجد في هذا المربد أشجار نخيل وغرقد وبعض قبور دارسة للمشركين.
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالنخل فقُطع، وبالقبور فنبشت ونقلت، وبالخراب فسوّيت، وحفر الأساس ثلاثة أذرع، وجعل طول المسجد مئة ذراع، وبنيت جدرانه باللبن، وجُعلت عضادتاه من الحجارة، وأعمدته من جذوع النخل، وسقفه الجريد، وفراشه الرمال والحصباء، واشترك الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في جميع مراحل البناء. وعلى هذا النحو من البساطة كان المسجد النبوي عند تأسيسه في السنة الأولى للهجرة.
هذا عن بناء المسجد النبوي، وأما أهم الدروس التي يعلمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم من بناء المسجد النبوي، والتي لا غنى لأي مجتمع إسلامي عنها، فسنذكر بعضها، وذلك على النحو التالي:
تزامنت مرحلة إعداد الأرض لبناء المسجد مع مرحلة تجهيز الطوب كسبا للوقت. وهو نفسه الأسلوب المتبع في العصر الحديث عند وضع الجداول الزمنية المتعلقة بمراحل تنفيذ المشروعات
اختيار الأراضي لبناء المساجد
فالدرس الأول من تلك الدروس هو إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على شراء الأرض التي بنى عليها المسجد من أصحابها، رغم أنّ أصحابها هؤلاء كانوا يريدون التنازل عنها في سبيل الله سبحانه وتعالى برضاهم واختيارهم، دون أي إحراج، ودون أي ضغطٍ أو إكراه، وبذلك وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة مهمة عند اختيار الأراضي التي تُبنى عليها المساجد، وهي أن هذه الأراضي إذا كانت ملكية خاصة، فيجب أن تُشترى من أصحابها بالمال، وأن يتم تقدير ثمنها بالعدل دون بخس لهذا الثمن، أو أن يتمّ تعويض أصحابها عنها بأرض في مكان آخر تعادل قيمتها، وبعد ذلك يتم البناء، فإن الله سبحانه وتعالى طيّبٌ لا يقبل إلا طيبا.
تجهيز الموقع وإعداد مواد البناء
والدرس الثاني يظهر من الأسلوب الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند تجهيز الموقع للبناء، وإعداد المواد اللازمة للبناء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينتظر حتى يتم الانتهاء من إعداد الأرض وتسويتها للبناء تماما، ليبدأ بعد ذلك في تجهيز الطوب، والذي يحتاج إلى بعض الوقت لإعداده، ثم لفترة زمنية أخرى حتى يجف ويصبح صالحا للاستعمال، بل تزامنت مرحلة إعداد الأرض مع مرحلة تجهيز الطوب كسبا للوقت.
وهو نفسه الأسلوب المتبع في العصر الحديث عند وضع الجداول الزمنية المتعلقة بمراحل تنفيذ المشروعات، حيث يتم عمل مرحلتين أو أكثر في وقت واحد – إن أمكن- أو أن يشتركا في جزء من الوقت، ما يوفر في الفترة الزمنية الإجمالية اللازمة لتنفيذ المشروع.
اللهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
مشاركة الرسول الكريم في البناء
ودرس آخر يعطينا إياه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشاركته بنفسه في بناء المسجد، إذ كان يحمل اللبنات والأحجار على كاهله، ويجهد ويكافح كأحد الصحابة رضوان الله عليهم، ويكره أن يتميّز عليهم، الأمر الذي رفع الروح المعنوية للصحابة، وضاعف من حماسهم في العمل وتداعيهم للإقبال عليه بهمةٍ ونشاط دون خمول أو تكاسل، فارتجز أحد الصحابة رضوان الله عليهم، قائلا:
لئن قعدنا والرّسول يعمل .. لذاك منّا العمل المضلّل
وكانوا رضوان الله عليهم، يروّحون عن أنفسهم من عناء الحمل والنّقل والبناء بهذا الدعاء:
اللهمّ لا عيش إلا عيش الآخرة .. فاغفر للأنصار والمهاجرة
استخدام المواد المتوافرة في البيئة
ودرس آخر نتعلمه من بناء المسجد النبوي، وبخاصة في بناء المساجد والمباني الأخرى في البيئات الفقيرة، فقد بنيت حوائط هذا المسجد باللبن، وكانت أعمدته جذوع النخل، وكان سقفه جريد النخل. وكل هذه المواد مأخوذة من البيئة المحيطة بالمدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
وفي هذا البناء البسيط المتواضع، ربّى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام: ملائكة البشر، ومؤدبي الجبابرة، وملوك الدار الآخرة، حيث كان يؤمهمّ بالقرآن، ويتعهّدهم به طرفا من النهار وطرفا من الليل. وهذا في حد ذاته رد على أولئك الذين يطلبون من الأغنياء، أن يتبرعوا لهم لإقامة مسجد هنا، أو مدرسة هناك، ويجعلون إقامة هذا المسجد أو تلك المدرسة منوطا بمدى توافر تلك التبرعات، فإن لم تتوافر التبرعات، يحجمون عن بناء المسجد ويظلون منتظرين من يمنّ عليهم بالمال للبناء.
عندما ازداد سكان قرطبة زيادة عظيمة في القرن الرابع الهجري، وعجز الجامع عن استيعاب كل المصلين، وخاصة يوم الجمعة، عزم الحاجب المنصور سنة 377هـ على توسيعه، فقام بتعويض كل أصحاب الدور المحاذية للمسجد
توسعة المنصور لجامع قرطبة
عندما فتحت قرطبة عام 93هـ، شاطر الفاتحون المسلمون النصارى فيها كنيستهم العظمى، فبنوا في شطرهم مسجدا جامعا متواضعا، ثم إن عبد الرحمن الداخل الذي استقل بحكم الأندلس سنة 138هـ، اشترى الشطر الآخر من النصارى، وسمح لهم ببناء كنيسة في ضواحي قرطبة عوضا عن هذه الكنيسة، وبنى في الشطرين معا مسجد قرطبة الجامع، الذي لم يكن في بلاد الإسلام أعظم منه، والذي لا يزال قائما حتى اليوم.
وبعد ذلك، عندما ازداد سكان قرطبة زيادة عظيمة في القرن الرابع الهجري، وعجز الجامع عن استيعاب كل المصلين، وخاصة يوم الجمعة، عزم الحاجب المنصور سنة 377هـ على توسيعه، فقام بتعويض كل أصحاب الدور المحاذية للمسجد، والتي كان لا بُدّ من إلحاقها بالمسجد حتى تتم التوسعة.
وكان المنصور يجلس بنفسه ويأتي إليه أصحاب تلك الدور واحدا واحدا، فيقول لكل منهم: "إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها لجماعة المسلمين من مالهم"، فإذا ذكر له مالك الدار أقصى الثمن، أمر المنصور أن يُضاعف له، وأن تُشترى له بعد ذلك دارٌ عوضا عنها، حتى جاءته امرأة لها دارٌ بجوار المسجد فيها نخلة، فقالت: "لا أقبل عوضا إلا دارا بنخلة". فحقق المنصور شرطها واشترى لها دارا بنخلة، وبولغ في ثمنها. وبعد ذلك باشر البنّاؤون والمهندسون العمل في توسعة الجامع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق