الأحد، 13 أكتوبر 2024

معانــي ودلالات الأمــر في القرآن الكريم

 

بقلم أ.د. محمد أمحزون 

معانــي ودلالات الأمــر في القرآن الكريم

ان الأمر متشعب المسالك متعدد الوجوه، ولذلك جاءت معانيه في القرآن الكريم كثيرة، وعلى العموم، فإن الأمر يشمل: الأمر القدري الكوني، والأمر الشرعي التكليفي، أو ما أراده الله عز وجل بنا، وما أراده منا.

فالمسلم أولا مطالب بالوقوف عند الأوامر الشرعية والتزام ما هو مطلوب منه والعمل به قدر وسعه وطاقته.

أما ما وراء ذلك من الأوامر الكونية التي قدرها الله عز وجل بمشيئته المطلقة وحكمته الباهرة، فالمطلوب تفويض الأمر فيها إلى الله جل ذكره والتسليم له، لأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم.

فالله تقدست أسماؤه أعلم أين ومتى يهب نصره وفتحه لمن يستحق ذلك من عباده. فالعبد ليس له تجاه الأوامر الكونية إلا الإيمان بها والتسليم لها. وتوسم المقدمات والنتائج المرتبطة بها، دون أن يقعده لك عن مهمته التي كلفه بها ربه عز وجل، ووظيفته التي ألزمه بها، بمقتضى الأوامر والشرعية التي توضح له هذه المهمة وترسم له حدود هذه الوظيفة().

على أن كل أمر: ولله عاقبة الأمور [الحج: 41]، يجري بحسب سنته تعالى في خلقه ونظامه الذي ربط به الأسباب بالمسببات، كارتباط الفقر بإعلان المنكر والخطايا والكبائر والذنوب، والإسراف والتبذير، وضياع السلطان بالاستعلاء والتكذيب والجحود والمعصية والظلم والبغي على الناس، وارتباط الثروة بحسن التدبير والادخار في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم ومآربهم الخاصة()، والاتحاد والقوة بالتحاور والمشاورة واتفاق الآراء، والتصدع وذهاب الريح بالاختلاف في الدين ومخالفة الحق، والتنمية بالتعليم والعزم والإرادة والمثابرة والتوكل على الله ، والذل والمهانة بالجبن.

ولا ريب أن الأمة التي تأخذ بالأسباب المشروعة التي جعلها الله  مقدمة لعمارة الأرض وبناء العمران (الحضارة)، فلن يسلب الله جل ثناؤه نعمتها مادامت ملتزمة بدينه الحق، وعهده ووصيته، وطاعة أوامره ونواهيه، والسير على طريقته ومنهاجه، واقتفاء آثار النبوة التي تعصم من الزيغ والضلال.

لكن إذا فارقت الأمة أمر الله تعالى، بتركها منهجه سبحانه وتعالى، وتنكبها عن صراطه المستقيم، ذهبت سعادتها وسؤددها ومجدها ومنعتها وقوتها، وسلط الله  عليها العقوبة والعذاب والهلاك، واستبدل عزتها ذلا، وكثرتها قلة؛ ونعيمها شقاء، وراحتها غناء، وسلط عليها الظالمين بالحرب والقتال والاستنزاف، فلا يجديها البكاء، ولا يفيدها ما بقي من صور الأعمال ومظاهرها، ولا يستجاب منها الدعاء()

على أن الهدي الصحيح هو طاعة أمر الله تعالى، وهو ما جرى سلف الأمة عليه: إرادة وقصدا، وعلما وعملا، بينما المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر تخلت عن إسلامها حقيقة وواقعا، فلم تعد تبالي بأوامر الله تعالى ولا تلتفت إلى نواهيه، ولا ترفع بذلك رأسا، ولا تقيم وزنا لنظام السنن الكونية الصارم، معرضة عن هدى الله تعالى في ذلك. 

ومردّ ذلك أنها غُيبت عن العقيدة الصحيحة، ففصلت الدين عن الحياة، ولم تعد تدرك بأن الله  هو الخالق المالك المتصرف في الكون، وهو صاحب الأمر الذي ينبغي الخضوع له في كل شأن وأمر: ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين [الأعراف: 54].

وهذا الانحراف في التصور العقدي يعود إلى الأمراء والعلماء، وهما صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة، فهما لا يقومان بالوظيفة المنوطة بهما وهي: تطبيق الشريعة بالنسبة للأمراء، والتوجيه والتزكية بالنسبة للعلماء. ويمكن القول بأن الأمراء (الحكام) همشوا دور العلماء ولا يسمحون لهم إلا بتوجيهٍ شكلي وصوري لا يخدم بناء الأمة على كافة الصعد، ومنعوهم من حرية إبداء الرأي في قضايا المسلمين المصيرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسير بالأمة قدما نحو تحقيق المشروع النهضوي الإسلامي.

 

وفي الختام لابد من ربط التقدم والرقي والسؤدد والمجد والعزة والكرامة، بالأمر والنهي، والجهد والعمل، والتخطيط والتنظيم، وفق سنة الله التي لا تحابي ولا تجامل فردا على حساب آخر، أو مجتمعا على حساب مجتمع آخر. بل إن النتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيمانا وأشدهم ورعا وتقوى، سوف يجنيها أكثر الكافرين كفرا وأشدهم فسقا وفجورا إذا وافقوا المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربطوا الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المسلمون المعاصرون ارتكازا على إيمانهم وحده، دون أن يطلبونها من مقدماتها التي خلقها الله  طريقا إليها، فأنى يستجاب لهم !!().

- محمد عبد الهادي المصري، أهل السنة والجماعة، ص 252 (بتصرف).

تحميل


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق