الجمعة، 4 أكتوبر 2024

كيف نقسم قلوبنا بين مذابح الوطن؟

 كيف نقسم قلوبنا بين مذابح الوطن؟

نور الدين العلوي


نجلس في زاوية مجهولة من زوايا الوطن، ونتابع أخبار المذابح الدموية ولا نغفل عن المذابح السياسية، ونشعر بواجب بث الأمل في الناس، ولكننا نعيا في توليف الجمل المناسبة، نهرب من مناحات مظفر النواب وخيبات الشعراء، فلا نفلح في نقض تشاؤمهم بقصيد فرح، نود أن ننصح للمقاتلين على الجبهات، فنتذكر أننا من القاعدين فنخجل من تعالمنا. نسأل القدر عن مصير هذه الأجيال المنكوبة جيلا بعد جيل فلا يجيب، وكيف يجيب القدر الجاهلين بالقدر؟ من أين نهرب من الوطن وليت الهروب بالجسد يحرره من همومه، فيكون ميلادا بلا وطن ولا هموم، رغم ذلك، ما زلنا هنا ومضطرين للوقوف في وجه المحارق.

المشهد في الشرق ينذر بحرب طويلة

في حمى الأخبار المتسارعة من لبنان، تبدو غزة كأنما دخلت في النسيان، لولا أن العدو ما زال يمارس القتل للمتعة، والثمن ما زال يرتفع، وضربات المقاومة تتباعد. يصدمك مشكك قاعد مثلنا باستنتاج حاسم "لقد قضوا عليهم، لقد قلنا لكم"، فكأنما تسمعه المقاومة هناك، فتصل إلينا أخبار ضربة نوعية متأنية مدبرة بحرص وموجعة للعدو. الذين يضربون بهذا الأسلوب القتالي المحكم، يتصرفون في وقتهم بطريقة ذكية، ويقتصدون في سلاحهم لضربات نوعية، ولا شك أن النسق يبين عن تفكير استراتيجي أيقن قبلنا بطول المعركة وضرورة ترتيب الفعل المقاوم في الزمن. لا موجب لتكرار التفجّع على غزة، إنها تواجه مصيرها بصبر، لقد صمدت لعام كامل أمام آلة قتل كونية، وهذا انتصار لم يبلغ نهايته بعد.

تفكير استراتيجي أيقن قبلنا بطول المعركة وضرورة ترتيب الفعل المقاوم في الزمن. لا موجب لتكرار التفجّع على غزة، إنها تواجه مصيرها بصبر، لقد صمدت لعام كامل أمام آلة قتل كونية، وهذا انتصار لم يبلغ نهايته بعد.


على جبهة لبنان، تنكشف المعركة؛ الأرض لأصحابها والسماء للجبناء، المناوشات الأولى تنذر بغزة أخرى أقوى وأصلب أرضا وأكثرا تسليحا. لم يتأخر العدو في حساب خسائره، لكنه يعوض بالرجم من السماء. هذا كان شأن الأمريكي في أفغانستان، بذل بارودا كثيرا وهزمته الأرض. قال كل الخبراء؛ إن الطيران لا يحسم المعارك، الصورة تبدو قابلة للتكرار في لبنان، هنا أيضا تنفتح معركة طويلة لا تبدو نهايتها ممكنة. لقد فشلت الدبلوماسية الاستباقية في منعها فانطلقت؛ ولأن طرفا في المعركة متغطرس لا يتراجع، فإن نذر التوتر ستطول وتؤثر وتغير في مجرى التاريخ. لن نستبق بغير علم، لكن الكشف النوراني للشيخ ياسين ما زال يشد أزرنا.

المشهد التونسي لا ينذر باستقرار

تعيدنا الأخبار إلى مربعنا القُطري، بعد يومين تفتح صناديق الاقتراع في تونس، غابت مظاهر الفرح والحماس، لا شيء يدل على مناخ انتخابات بعد خمسين ساعة. البؤس مخيم على المشهد والوجوه موزعة بين الحيرة والذهول، هل هذه تونس التي خاضت ثلاث انتخابات رئاسية صاخبة، اشتعلت فيها الشوارع بالهتافات والاجتماعات؟ ماذا أصاب البلد والناس؟

توجد حالة نفسية أقرب إلى المرض سماها الظرفاء بحالة "المشاطعة"، وهي كلمة مصاغة بأسلوب إميل حبيبي في "المتشائل"؛ نصف مع المشاركة بغير يقين ونصف مع المقاطعة بغير يقين. قد يكتب للفظ الخلود، هذا التشاطع هو عنوان اللحظة وما يليها.

لا شك أن هناك توجها يتسع مع الساعات للتصويت ضد الرئيس الحالي دون إيمان بالرئيس القادم، وهو تصويت قائم على اجتناب الأسوأ وقبول السيئ، وهذا عامل غير محفز للذهاب إلى الصندوق إلا بخطى ثقيلة.

حالة العبث بالقانون والقضاء هزت صورة التونسيين عن أنفسهم، فلطالما افتخروا بأنهم قوم منظمون، وأن عندهم لكل معضلة حل قانوني، فصار القانون عندهم محل تقدير، وهناك على الأقل خمس كليات متخصصة في تدريس القانون. لكن ما يجري حطم الصورة وبدل الفخر بمهانة، وزاد الأمر سواء أن العابثين بالقانون قضاة ومحامون وأساتذة قانون.

كيف يذهب الناس إلى التصويت وهم على يقين بأن الرئيس القائم سيُسقط نتائج تصويتهم بواسطة ما أعد من تعديلات على القانون الانتخابي، وبواسطة هيئة أثبتت ولاءها التام لشخصه وقبلت مناوراته. أكثر الناس صبرا يقول الآن؛ إنه تصويت لصناعة كتلة معارضة متجانسة تتجاوز الخلافات القديمة، وتستعد بعد إسقاط أصواتها إلى التحرك في الشارع وراء رئيس سجين، هذا هو ثقب الإبرة الوحيد الباقي لديها.

ثقب الإبرة هل يصير نافذة كبيرة؟

ماذا يبقى للنخب التونسية (وكثير منها مغرور ومعتز بتونسيته) من كرامة إذا تم إسقاط أصواتها وأُبقي على مرشحها سجينا؟ هل تستفيق لتدافع عن كرامتها المهدرة، وتعيد فتح الشوارع للاحتجاج السلمي؟


إذا ولج الجمل في سم الخياط كانت المعجزة. يوجد مؤشرات عليها، لكنها ثقيلة الخطو ومترددة، لقد تسرب في الحديث اليومي، وصف الإسلاميين بالتيار المحافظ، واختفى تقريبا اصطلاح إسلام سياسي وخوانجية. نعد ذلك بداية خفوت التصنيفات الاستئصالية التي دمرت التجربة الديمقراطية التونسية، فهل يُبنى على هذا موقف واسع يغض الطرف عن أسباب الفرقة، ويجمّع خلف الحق في الصندوق؟

السؤال الذي سيُطرح بعد يوم الأحد: ماذا يبقى للنخب التونسية (وكثير منها مغرور ومعتز بتونسيته) من كرامة إذا تم إسقاط أصواتها وأُبقي على مرشحها سجينا؟ هل تستفيق لتدافع عن كرامتها المهدرة وتعيد فتح الشوارع للاحتجاج السلمي؟ أم تتلقى الضربة وتدخل في سبات لمدة خمس سنوات، وليتها تكون خمسا لا عشرا؟

إن ما عاينّاه من تردد وتوجس ويأس (ونفض يد من السياسة) لا يسمح لنا بوضع توقعات عن المستقبل، لذلك واحتراما لقارئ قد يقع على هذا المكتوب نقول: راقب معنا الوضع ولا تشفق علينا، فكثير مما يحصل لنا صنعناه بأنفسنا. مازال عندنا وقت لأكل أيدينا ندما على ما فرطنا.

سأختم بانتظار معجزة ولوج الجمل في سم الخياط، وأقدم عبارات التعاطف لزملائي مدرسي القانوني في كلياته، عسى أن يفلحوا في ستر عورة القانون أمام طلبتهم.

آه نسيت أمرا، من يدري لعل حروب الشرق تصل شظاياها إلى تونس، فنجمع شظايا قلوبنا الموزعة بين بيروت وغزة، وغيرهما من محارق أمة تتكالب عليها الأمم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق