مراجعة كتاب: سلام ما بعده سلام ولادة الشرق الأوسط
مؤمن سحنون
أرجو أن أكون من الساعين لأن ننال يوما الحرية، الحرية بمعناها الشامل لأمة تعرف رسالتها.
حين يتجول الفكر في عالمنا الإسلامي، يتعثر مع كل انتقال داخل المشهد بتلك الخطوط المرسومة على خدود الصحاري والأراضي المتباعدة في الخريطة، ويقف في لحظة وراء سلك شائك ممتد وبوابة جمركية يفصلان بين بلدين يتقاسمان نفس الدين واللغة والتاريخ، ولعلهم يتقاسمان نفس المعاناة، ويتكرر المشهد أينما وجدت هذه الجدران الفاصلة،.
لتثور بعدها أسئلة في مقدمتها: من رسم هذه الحدود؟ وعلى أي أساس وضعت؟ كيف اكتسبت شرعيتها؟ وكيف كان المشهد قبلها؟ هذا ما يجيب عليه كتاب سلام ما بعده سلام للمؤرخ الأمريكي ديفيد فرومكين الذي نشر ﻷول مرة في صيف سنة 1989، والذي غاص في أعماق السياسة الاستعمارية بين الحربين، هذه المرحلة التي شهدت أحداث غيرت وِجهة أمة من الأمم وأعادت صياغة شكلها وبعثرت مضمونها.
أدى التنافس الاستعماري إلى نشوء عدة تحالفات بين الدول الغربية مع تغير خريطة هذه التحالفات كلما تغيرت الظروف والمصالح، بريطانيا التي دفعتها مخاوف حول تمكن منافسيها فرنسا و روسيا من قطع الطرق التي توصل إلى مستعمراتها، سعت لتبني سياسة دعم الممالك الإسلامية المتهاوية لدحر المطامع الروسية والفرنسية ثم في وقت لاحق الألمانية حين دخلت ألمانيا الصاعدة اقتصاديًا الى مسرح الأحداث في اسطنبول، كما ساهم الجهل بحقيقة الشعوب الإسلامية والدوافع المحركة لها في البداية الى تبني سياسات استعمارية مبنية على تصورات خاطئة.
في الإمبراطورية العثمانية انتشرت الجماعات التي استلهمت أسلوب عملها السري من طريقة الكاربوناري الإيطالية، منهم خلية تطورت إلى حزب تركيا الفتاة المعروف سابقًا باسم جمعية الاتحاد والترقي يرأسه وزير الداخلية العثماني محمد طلعت، نظمت هذه الجمعية ثورة في مدينة السالونيك العثمانية، أفادت التقارير التي رفعت لبريطانيا حول ما يجري في السالونيك بأن يهود الدونمة والماسونية مصدر إلهام جمعية الاتحاد والترقي، فضلًا عن اعتبار أن مجموعة من اليهود تمسك بزمام السلطة السياسية في الإمبراطورية العثمانية، وحمل التقرير حسب رأي الكاتب الحكومة على الأخذ بأفكار خاطئة أدت إلى سياسيات ذات عواقب هامة. لعل من أهمها صدور وعد بوطن قومي لليهود داخل الشرق الأوسط فيما بعد.
كانت مكة حسب الموسوعة البريطانية تتمتع بقدر من الحكم الذاتي بحكم بُعدها عن القسطنطينية، محصولها الدائم من التمر والحج مصدر دخلها الأساسي، وكان سعي الحكومة العثمانية إلى توفير الحماية للحجاج من مضايقات قبائل البدو، بينما كان الحسين طامحًا لمنصب شريف مكة وأن يتوارث أبناؤه هذا اللقب من بعده فعمل على استقلالها مع بقاء موالاته للسلطان لكنه على خلاف مع حكومة حزب تركيا الفتاة لسعيها للحد من سلطته، فعمل الحسين على إثارة الاضطرابات الأهلية، وكان له ابنان نشطان سياسيًا لكن مختلفان في تأييدهم، فعبد الله مؤيد لمقاومة الحكومة التركية وفيصل معارض لذلك.
وقد مثل الحسين وابناه ورقة هامة بالنسبة لبريطانيا، فكتشنر القائد البريطاني الحاكم في مصر سابقًا، أراد السيطرة على الإسلام عن طريق الحسين، وكانت طبيعة الشعوب الإسلامية مجهولة بالنسبة لسياسيي الغرب كما تقدم، فاعتقدوا أن هذه الشعوب يرحبون بالسيطرة البريطانية ويمقتون الحكم العثماني، وبما أن مكة مركز حيوي للمسلمين، اتجهت بريطانيا إلى استمالة الحسين الذي لم يدخر جهدًا في تخذيل دعوة الجهاد التي أعلنتها تركيا ضد بريطانيا، بينما أرسل ابنه عبد الله إلى كتشنر ليخبره بتحالفهم سرا، وقد نجحت بريطانيا في تحييدهم عن الصراع.
السياسة الاستعمارية في الشرق الأوسط
لتحديد أهدافها في الشرق الأوسط كوّنت بريطانيا لجنة وزارية عينت مارك سايكس كممثل لكيتشنر فيها، قررت اللجنة تحديد أسماء للمناطق التي ستقسمها، فاتخذوا من المؤلفات الإفريقية واللاتينية مرجعًا لهم، فأطلقوا اسم بلاد الرافدين على المناطق الأسيوية الناطقة بالعربية شمال شرق شبه الجزيرة، وسوريا على الغرب والقسم الجنوبي من سوريا، وأطلقوا اسم فلسطين وهو تحريف لكلمة فلستيا أي الشريط الساحلي وتعود التسمية إلى ما قبل المسيح بألف عام، واقترحت اللجنة بقيادة سايكس إنشاء خمس ولايات تتمتع بالحكم هي سوريا وفلسطين والأناضول والجزيرة–العراق.
بعد تراجع العثمانيين عن قيادة الجيش، وقد كانت ألمانيا حليفة الامبراطورية، تخلى الأتراك عن قيادة الجيش العثماني وسلموها للقيادات العسكرية الألمانية، الذين عينوا الضابط التركي مصطفى كمال المعجب بأوروبا والمزدري للوضع العثماني، فحقق بعض المكاسب العسكرية أمام بريطانيا، التي سعت بعد هزيمتها في الدردنيل الى دعم الأمراء الناقمين على العثمانيين، وكان هذا سبب إرسال مارك سايكس في رحلة إلى الشرق الأوسط والتي استمرت نصف عام، رأى بعدها ضرورة إنشاء إمبراطورية مصرية يحكمها خليفة عربي من الجنوب كالشريف حسين في مقابل أن تكون سوريا بريطانية وإعطاء فرنسا دولة أخرى في شمال إفريقيا، وأصبحت القاهرة مركز لصنع السياسة البريطانية الشرق أوسطية.
دعا سايكس الحكومة في تقريره إلى ضرورة غزو الجيش البريطاني في مصر لفلسطين وسوريا لتبدأ الثورة العربية بانحياز العرب للحلفاء، وبما أن لفرنسا أطماع في سوريا ولبنان، استدعى سايكس المندوب الفرنسي جورج بيكو إلى لندن للمفاوضات التي تمخضت عنها اتفاقية سايكس-بيكو-سازانوف.
وعندما فشلت ثورة الحسين وجد البريطانيون أنفسهم في ورطة، هنا ظهر لورنس وهو عامل بالقسم الجغرافي في المكتب العربي بالقاهرة، حيث قام برحلة لجدة استقبله فيها أبناء الحسين، فكسب ودهم ومال أكثر لفيصل فقرر أن يكون هو قائد ثورة الحجاز، وذلك عبر المبادرة الجديدة التي تقدم بها لورنس إلى حاكم السودان وينغيت لاستخدام رجال القبائل التابعين للشريف حسين في حرب عصابات بريطانية يكون فيصل زعيمها، في خطوة بريطانية جديدة لكسب ود الشعوب العربية الذي فشلت فيه لسنوات طوال، فكانت ثورة الحسين هي الفرصة الوحيدة لكسب الحرب. لكن ثورة الحسين لم يكن لها وزن في الواقع ما دفع بريطانيا إلى التدخل واحتلال سواحل مكة.
ومع تغير الاتجاهات السياسية سعت القوى الاستعمارية إلى دعم الأقليات واتخاذ قضاياهم ذريعة وغطاء لإضفاء الشرعية، فكان الروس يعتبرون أنفسهم حماة الأرثوذكس في المنطقة، وفرنسا حامية الطائفة المارونية ذات الموقع الاستراتيجي في لبنان، فسعت بريطانيا إلى إيجاد جماعة تمكنها من ادعاء حق مماثل، فتبنت قضية إعادة أرض الميعاد إلى اليهود والزعم أنها أداة الله في إعادة اليهود إلى الأرض المقدسة.
صهيونية السياسة الغربية ووعد بلفور
في أمريكا كان الصهيونيان بن غوريون وبن زفي يعملان على إنشاء جيش يهودي، وفي عام 1918 شكلا فرقة داخل الجيش البريطاني المعد لمواجه للإمبراطورية العثمانية.
بينما حمل الصهيوني هرتزل على عاتقه فكرة إنشاء وطن يهودي فتواصل مع حكومات مختلفة كان من بينها السلطان العثماني الذي رفض اقتراحاته، في مقابل الترحيب الذي لقيته هذه الاقتراحات في بريطانيا من بلفور ولويد جورج المتبنيان للقضية الصهيونية ما مهد لصدور أول بيان رسمي عرف بوعد بلفور الأول، خاصة وقد كان أمناء السر الثلاثة في مجلس الوزراء الحربي البريطاني وليم اورمبيسي وايميري وسايكس من أنصار الصهيونية.
كما عمل سايكس وبيكو على الاتصال بزعماء الحركة الصهيونية لتجنب عدائهم، فعرضوا على الحاخام سوكولوف مشروع استيطان في فلسطين، وفي مارس 1917 أصدر لويد جورج قرار الحرب على فلسطين مع إرسال كل من سايكس ويكو للقاهرة لمصاحبة الحملة. وفي شهر ديسمبر صدر من رئاسة الوزراء البريطاني وعد بلفور بوطن قومي يهودي في فلسطين.
كما عمل سايكس على تكوين لجنة صهيونية يرأسها حاييم وايزمان لإرسالها إلى الشرق تمهيدًا لإعلان بلفور، رتب خلالها لقاء بين وايزمان وفيصل الذي شجع قيام دولة يهودية في فلسطين، لكن سرعان ما فقد فيصل أهميته عند المستعمرين مقابل أمير نجد ابن سعود، لتتعدد الأوراق المطروحة أمام البريطانيين.
التسوية الشرق أوسطية لعام 1922 وعبثية تقسيم الدول
عين تشرشل كوزير للمستعمرات البريطانية، وكانت استراتيجيته تنصب في تقليص النفقات، فدعا لعقد مؤتمر في القاهرة يحضره كل من يهمه شأن الشرق الأوسط، تمخض عنه تعيين فيصل أميرًا على بلاد الرافدين وتصوير ذلك على أنه مطلب شعبي لأهل البلد، وبناء قواعد عسكرية للحفاظ على الوجود العسكري البريطاني، مع بقاء منطقة الأكراد مستقلة مؤقتًا.
كما منح تشرشل مشاريع كهربائية مائية في وادي العوجة ووادي نهر الأردن لمهندس يهودي روسي، وأنشأ اليهود عصابات مسلحة عرفت بالهاجانا، وفي نوفمبر من نفس السنة قرر المجلس التركي عزل السلطان العثماني محمد الخامس فخرج الى المنفى وانتهت الإمبراطورية وقامت دولة قومية تركية على الطابع الأوروبي.
كانت تسوية سنة 1922 محصلة لمرور الأقدام الاستعمارية الأوربية على أرض المسلمين، ونتيجة مجموع الأحداث والتراكمات التي بدأت من غزو نابليون في حملته على مصر إلى مؤتمر الصلح، الذي أنتج سلام ما بعده سلام! لترسم الحدود الجديدة لبعض الدول وتولد كيانات سياسية وممالك لم تكن موجودة من قبل، ما يوضح عبثية التقسيم الاستعماري، إذْ أقيمت دولة قومية تركية مقتصرة على الناطقين بالتركية نتيجة اقتراع بإجماع أصوات المجلس الوطني التركي في نوفمبر 1922، وتقاسمت فرنسا وبريطانيا ما تبقى من الممتلكات العثمانية، حصلت فرنسا على انتداب سوريا ولبنان من عصبة الأمم التي منحت بريطانيا في العام نفسه الانتداب على فلسطين وشرق الأردن.
كما ضمنت معاهدة عام 1922 لبريطانيا تثبيتا لانتداب تحكم بموجبه العراق الذي خرج حديثًا إلى حيز الوجود بالحدود الحالية وأجلست فيصل على عرشه. وجعلت من مصر محمية بريطانية على عرشها فؤاد بموجب وثائق تعود إلى 1922كما فرضت أحكام الانتداب على فلسطين.
وأصبح شرق الأردن كيان سياسي منفصل عن فلسطين يعرف اليوم بالأردن وتقرر أن يكون عبد الله الذي عينته بريطانيا على رأسه بصفة دائمة بموجب قرار تم فرضه على السكان سنة 1922 وعينوا له نائبًا بريطانيًا. وفي غرب الأردن وعد اليهود بوطن قومي ووعد غيرهم بحقوق كاملة.
ولم يتحقق استقلال الأكراد الذي كان على جدول الأعمال سنة 1921 ليختفي من جدول أعمال تسوية سنة 1922 لذلك لم توجد كردستان حينها، وفي العام نفسه فرضت بريطانيا اتفاقيات حدودية على ابن سعود أقيمت بموجبها الحدود بين ما أصبح اسمه المملكة السعودية والعراق والكويت.
وبهذا الشكل قسمت بريطانيا الدول التي تحت نفوذها شأنها شأن فرنسا وروسيا، إلى دويلات وحققوا بهذا التقسيم ما أرادوه منذ زمن بعيد، وهو الإمساك بمصائر شعوب الشرق الأوسط، ومع هذا التقسيم حولت أوروبا دول الشرق الأوسط إلى بلدان ذات أشكال أوروبية وإدارة حكومية على النمط الغربي بموجب قوانين ومفاهيم غربية، محطمة بذلك تاريخًا حضاريًا عريقًا مرتبطًا بعقائد متجذرة في سكان المنطقة.
تعليق
لم تغب تسوية سنة 1922 وما سبقها من تقسيم وتشتيت للإمبراطورية العثمانية والشرق الأوسط بأيدي الدول الاستعمارية الغازية وعملائهم في البلاد الإسلامية، لم تغب عن واقع الصراعات والتقلبات السياسية والحركات التحررية والتوجهات الثورية على مدى التاريخ حتى يومنا هذا.
ليُطرح السؤال في كل حدث يقع في هذه التقسيمات الجديدة، ما مدى شرعية الحدود الاستعمارية عند الجماهير الإسلامية، وهل يعتبر الانبعاث المتزامن للشعوب في كل مرة والذي منها ما تعيشه الأمة الإسلامية من ثورات تخطت الحدود وألهبت شعور المأسورين خلف هذه البوابات الجمركية والأسلاك الشائكة، كانت الثورة المنتقلة من بلد لبلد في مضمونها ضد هذه الدول القومية المحدثة بالتخطيط الأجنبي، ومعادية لكيانات سياسية قرر مصيرها المستعمر،
إن وحدة الشعور التي يعيشها العالم الإسلامي والتي تعبر عليها الشعوب في مناسبات مختلفة، يعطي إجابة عن القوة الكامنة خلف مفهوم الأمة الواحدة، التي إن حطمت أغلال القيود التي تفصل شرايين الجسد الواحد بعضه عن بعض، ستعود من جديد إلى ريادة الأمم، وهذا المفتاح الحقيقي للتغيير. وبدايته هو إعادة هذه الخطوط الاستعمارية لقيمتها الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق