الجمعة، 11 أكتوبر 2024

لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية

لينينغراد وغزة: بين جنون العظمة وتطلعات الحرية

أدهم أبو سلمية
باحث 




هتلر، المنتحر، المندحر والمهزوم، دخل التاريخ كرمز للعناد والجشع العسكري..


في واحدة من أكثر قراراته جنونًا، أطبق الحصار على لينينغراد (سان بطرسبرغ حاليًا) خلال الحرب العالمية الثانية، طامعًا في كسر رمزية المدينة وروحها المعنوية، وهي التي كانت قلب الاتحاد السوفييتي ونبضه الصناعي والسياسي. في تلك الفترة، كان جيشه غارقًا في وحل الجبهات الغربية، خاصة في بريطانيا. ورغم التحذيرات التي قدمها قادته العسكريون من خطورة الحصار الطويل، فإنه أبى واستكبر، ليشهد حصار لينينغراد واحدة من أقسى التجارب الإنسانية التي خاضتها مدينة في مواجهة حرب إبادة وتجويع جماعية.


هذا الطموح الأعمى والمغرور هو ذاته الذي يقود اليوم العديد من القوى الكبرى في تعاملها مع غزة..


بدأ العدوان في سبتمبر 1941، واستمر لما يقرب من 900 يوم.. حاصر هتلر لينينغراد، وجعل من المدينة سجنًا ضخمًا لسكانها. اعتمدت القوات النازية على استراتيجية التجويع كوسيلة لإجبار المدينة على الاستسلام، حيث تم قطع جميع طرق الإمداد، ولم يبقَ للمدينة سوى الاعتماد على ما توفره بحيرة لادوجا المجمدة في الشتاء. كانت الإمدادات تصل عبر طريق محفوف بالمخاطر، لكن السكان لم يتوقفوا عن المقاومة.


خصص الألمان للنساء والأطفال والشيوخ 125 غرامًا فقط من الخبز يوميًا، وللعمال 200 غرام. كان هذا الخبز، الذي غالبًا ما كان مصنوعًا من خليط غير صالح للأكل، قوت الناس لمئات الأيام، حتى تقرر في نهاية المطاف أنه لا خبز بعد اليوم، فمات الناس جوعًا، لكن روح المدينة لم تُكسر.


في النهاية، استطاع السوفييت فتح طريق عبر البحيرة المتجمدة، وتمكنوا من كسر الحصار جزئيًا قبل أن يُرفع بالكامل في يناير 1944.. كانت لينينغراد رمزًا للمقاومة والصمود رغم كل المحاولات النازية لإخضاعها.


واليوم، ترى جنون العظمة ذاته يتجسد في صورة إسرائيل، بقيادة نتنياهو، ومن خلفه أمريكا والغرب، الذين يعيشون حالة من الهوس العسكري. وكأن الحصار الإسرائيلي على غزة امتداد لذلك التاريخ المأساوي!. حقًا، ما أشبه هذا الحصار بما فعله هتلر في لينينغراد! وما أشبه قرار إلغاء الخبز من قائمة الطعام وحيدة الصنف بما فعلت إسرائيل قبل أيام، عندما قصفت آخر مخبز في جباليا المحاصرة، وبما تفعله في غزة منذ 17 عامًا عبر التجويع والحصار الممنهج! وكأن التاريخ يعيد نفسه، وإن كان بأسماء مختلفة وفي أماكن أخرى.


لكن غزة- مثل لينينغراد- لا تنكسر.. على مدار أكثر من عقد ونصف، تعرضت لحصار بري وبحري وجوي، ومع ذلك لم تفقد المدينة كرامتها وشرفها. أهل غزة اليوم- كما كان أهل لينينغراد بالأمس- يعيشون يومهم تحت الحرب والقتل والحصار، ولكنهم لا يستسلمون.


يُحكى أن أهل لينينغراد ركبوا البحر هربًا فتجمّد، وكذلك هم أهل غزة، حتى وإن قرروا مغادرتها، فهي لا تغادرهم! أما بحر غزة فمعتدل الحرارة، لكن أرضها دائمًا ما تحترق تحت أقدام من يطؤها لؤمًا، ولا مقياس لحرارة المعسكر والشمال.


وعلى جانب آخر من التاريخ، يُحكى أن والدة بوتين كانت لينينغرادية، تعرضت للاضطهاد خلال الحصار، وربما ترك ذلك أثرًا عميقًا في وعي بوتين وعدائه للغرب. أما في غزة، فإن فراعنة هذا الزمان لا يعرفون أن الغزيين لا يثأرون لآبائهم فقط، بل يثأرون للمسجد وشيخ المسجد، لسجادة الصلاة والحي الذي تربوا فيه.. يثأرون للشجر، للبحر، وللبيوت التي دُمّرت، للتلفاز القديم الذي شاهدوا من خلاله كم يبدو العالم ظالمًا متوحشًا، وحتى لحذاء المسجد العمري الكبير، الذي يروي قصصًا أطول من عمر الاحتلال ذاته.


إنه لأمر مفروغ منه أن هذا الكيان ينتظر نهايته بفارغ الصبر، لكن النهاية لا تأتي سريعًا كما يتخيل البعض!. نهاية الاحتلال ليست في الانتصار العسكري الحاسم، بل في قدرة الشعب المحاصر على الصمود والتمسك بحقوقه رغم كل شيء.. في حروب الصمود والاستنزاف، يكون التعويل دائمًا على قوة النفس وصبر الناس لا المحتل.. قد تموت الأجساد، لكن الروح لا تُقهر، ولا تُكسر.


هذا ليس مجرد شعار أجوف أو تشويه للواقع، كما تزعم الأبواق الإعلامية، بل هي بديهيات لا تمثّل غزة وحدها.. هي الثورات، حيث التوق للحرية أقوى من التوق للخبز!. الحصار قد يستمر، والقصف قد يزداد ضراوة، لكن النهاية ستكون لصالح من يقاتل بروحه، وليس بالسلاح فقط.


وكما كان حصار لينينغراد بداية النهاية للغزو النازي وزواله، ليس فقط عن لينينغراد بل عن وجه البشرية جمعاء، فإن الحصار والحرب على غزة، مهما طالت، ستكون بداية النهاية للاحتلال الإسرائيلي وقوى الشر في العالم، وعلى رأسها أمريكا، وما معركة طوفان الأقصى إلا نقطة الانكسار نحو هذا الزوال الحتمي القريب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق