"مات سجينا"..
من الخليفة عثمان إلى الرئيس مرسي سلاطين خُلعوا بالقوة وقضوا في سجون المنقلبين
عز الدين عمر
"الخلافة بعد مُنْقَرَضِ [الخلفاء] الأربعة الراشدين شابتها شوائبُ الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحقُّ المحضُ في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة مُلْكاً عضوضا"؛ تلك خلاصة تاريخية وفقهية مركّزة ومعبِّرة سطّرها الإمام الجويني (ت 478هـ) في كتابه ‘غياث الأمم‘ لتتبرز إحدى كبريات الحقائق التي انْبَنى عليها تاريخنا الإسلامي بحقبه المتطاولة ودوله المتعاقبة، وعلى أساس منها صارت عبارة "مات في السجن" ونظرائها دارجةً في بطون كتب التاريخ والتراجم تلقاك وأنت تبحث في سيرة فقيه أو معارض سياسي. فالموت في السجن من العقوبات التي تواترت في تاريخنا كثيرا؛ لكن العجيب أن تجد ذلك يتكرر عند تتبع سِيَر خلفاء وملوك وسلاطين حكموا ف تاريخ المسلمين.
قبل عام بالضبط من الآن (17 يونيو/حزيران 2019م)؛ أعلـِنت وفاة الرئيس محمد مرسي -وهو أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر- داخل مجمع سجون طرة بجنوب القاهرة الخاضعة لسلطة المنقلبين عليه، بعد أن قضى خمس سنين متقلبا بين "محاكمات" في عدد من القضايا تحت ظروف مطعون فيها عدليا وإنسانيا بشهادة منظمات حقوقية دولية، وهو ما تُجدد ذكراه السنويةُ سيرةَ شجون سجون السياسة في تاريخنا.
فقراءة قصص موت السلاطين المخلوعين في سجونهم وتاريخ السجناء السياسيين عموما تعطي فرصة مثلى للتعرف على جانب آخر من التاريخ السياسي الإسلامي، وإطلالة معرفية لتفحّص تاريخ المشروعية الدستورية ليس عبر الفقه السياسي فقط، بل ومن خلال قصص الخلع من السلطة عقب السطوة والنفوذ، وعتمة الزنازين بعد رفاهية الملك وأبهة السلطة.
كانت العرب تقول إن "المُلْك عقيم"، أي قاطع للرحم الأسَري والأخلاقي طلبا للاستبداد بالملك وثمراته. والحقيقة أن أحوال التداول على الملك بالتغلب كانت قاطعة للمثُـل والقيم الإسلامية قبل أن تقطع القيَم الرَّحِمِية؛ إنه جانب شديد الضعف في تاريخنا ويجب أن نسلم به كأثر بالغ الأثر لغياب مبدأ تداول السلطة شرعيا وسلميا، ومن مظاهره قتل السلاطين المخلوعين بالموت البطيء في السجون وما في حكمها من إقامة جبرية أو حصار خانق لسلطان أعزل.
في هذا المقال لا نعتمد المقايسات ومقارنة الملابسات بالملابسات أو الشخصيات بالشخصيات، فلكل حدث أو سجن حديثه الخاص وظرفه المشتق من بيئته وإن تطابقت الدوافع وتشابهت الآليات، ثم إن هؤلاء السلاطين -بغض النظر عن طريقة وصولهم للسلطة- كانوا متفاوتين في الأهلية للحكم والرشدية في ممارسته. لكننا هنا نطرح فكرة دوران السلطة بين الحكام في تاريخ المسلمين في ظل غياب الشرعية الدستورية، وسيادة إهدار مبادئ الشورى والعدالة؛ لنرى متى بدأت هذه الظاهرة المؤلمة؟ وما هي السياقات التاريخية التي تكررت فيها؟ وكيف تناولها المؤرخون والفقهاء بالدرس والتحليل؟
سابقة خطيرة
رغم أن الإسلام جاء ليؤسِّس نظاما سياسيا قائما على البيعة والشورى واحترام شرعية الأمة، وطاعة قيادتها المختارة طالما ظلت مستمسِكَة بالحق ومنطلِقة منه؛ فإنه سرعان ما افترقت الأُسس والأخلاق السياسية عن الواقع، وظل التباعد بين الطرفين يتزايد حتى اتسع الخَرق على الراقع في العصور الحديثة. وكان من نتائج هذا التباعد ظاهرة قتل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين؛ ومن أقسى صور هذه الظاهرة ما يكون منها أحيانا بعد القدرة على "الحاكم المخلوع"، فيقضي نحبه وهو في سجن -أو مقر إقامة جبرية- تابع لخصمه الذي أطاح به، وهو من بني جلدته ومنتسبي دينه!
رغم أن الإسلام جاء ليؤسِّس نظاما سياسيا قائما على البيعة والشورى واحترام شرعية الأمة، وطاعة قيادتها المختارة طالما ظلت مستمسِكَة بالحق ومنطلِقة منه؛ فإنه سرعان ما افترقت الأُسس والأخلاق السياسية عن الواقع، وظل التباعد بين الطرفين يتزايد حتى اتسع الخَرق على الراقع في العصور الحديثة. وكان من نتائج هذا التباعد ظاهرة قتل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين؛ ومن أقسى صور هذه الظاهرة ما يكون منها أحيانا بعد القدرة على "الحاكم المخلوع"، فيقضي نحبه وهو في سجن -أو مقر إقامة جبرية- تابع لخصمه الذي أطاح به، وهو من بني جلدته ومنتسبي دينه!
لقد كان مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ) -رضي الله عنه- محاصَرًا ببيته في وضعية السجين أولى صور هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام؛ ذلك أن الخارجين على عثمان قد حاصروه لأسباب سياسية محضة. وفي ذلك يقول الطبري (ت 310هـ) -في تاريخه- إن هؤلاء المعارضين "جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتُب يضعونها في عيوب وُلاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يُظهرون، ويُسرّون غير ما يُبدون".
وكان من مطالبهم إقصاء عثمان لأقاربه الذين اتهموه بمحاباتهم بالوظائف على حساب المسلمين، كما زعموا ابتعاده في تسيير الشأن العام عن طريقة صاحبيْه أبي بكر الصديق (ت 13هـ) وعُمر بن الخطاب (ت 23هـ). لقد فنّد كبارُ الصحابة -مثل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم- هذه الاتهامات، وبالتالي فشلت خطة المحاصرين برفض عثمان لمبدأ التنازل عن الحكم حتى لا يؤسس بذلك سابقة لمن بعده "فتكون سُنّةً: كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه"؛ كما أورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) في كتابه ‘فضائل الصحابة‘.
شدد المحاصِرون الطوق على بيت الخليفة لأسابيع كان فيها بمثابة السجين قبل مقتله في النهاية؛ ولم يقبل عثمان أي دفاع مُسلَّح عنه حتى لا تُهرق دماء المسلمين بسببه فتكون تلك سنةً جارية في الأجيال اللاحقة. فابن ابن عساكر (ت 571هـ) يروي -في ‘تاريخ دمشق‘- أن الحسن بن علي (ت 49هـ) -رضي الله عنهما- دخل بسلاحه على الخليفة عثمان، فقال له: "يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا بين يديك فمُرني بأمرك؛ فقال له عثمان: يا ابن أخي وصَلتك رحِمٌ، إن القوم ما يريدون غيري، ووالله لا أتوقّى بالمؤمنين ولكن أُوقِي المؤمنين بنفسي".
ثم زاد المحاصرون التضييق عليه إلى أن بلغ حد منع الطعام والشراب عنه؛ حتى إن علي بن أبي طالب (ت 40هـ) وقف فيهم يوما -حسب الطبري- فقال: "يا أيها الناسُ، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين! لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة (= الطعام والشراب)، فإن الروم وفارس لتأْسِر فتُطعِم وتُسْقي، وما تعرَّض لكم هذا الرجل، فَبِمَ تستحلون حصره وقتله؟!". لقد كان القوم "يدًا واحدةً في الشرّ" -كما يصفهم ابن سعد (ت 230هـ) في ‘الطبقات الكبرى‘- فقتلوا عثمان (ض) حبيسا في مقر "إقامته الجبرية"، حيث أدخلوا عليه أحدهم "فخنقه وخنقه قبل أن يضربـ[ـه] بالسيف"؛ طبقا لرواية خليفة بن خياط البصري (ت 240هـ) في تاريخه.
انفراط مبكر
هكذا قضى الخليفة عثمان نحبه دفاعًا عن حق الأمة في بقاء شرعيتها الدستورية قائمةً ولو قُتل رمزها. ورغم ذلك كان مقتله رضي الله عنه "من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرّقت الأمة إلى اليوم"؛ كما يذكر ابن تيمية (ت 728هـ) في ‘مجموع الفتاوى‘. وكان من آثار هذا التفرق معارك الجمل وصِفِّين بعد انقسام عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسكرين، أحدهما بقيادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، ثم مقتل الخليفة علي سنة 40 من الهجرة.
هكذا قضى الخليفة عثمان نحبه دفاعًا عن حق الأمة في بقاء شرعيتها الدستورية قائمةً ولو قُتل رمزها. ورغم ذلك كان مقتله رضي الله عنه "من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرّقت الأمة إلى اليوم"؛ كما يذكر ابن تيمية (ت 728هـ) في ‘مجموع الفتاوى‘. وكان من آثار هذا التفرق معارك الجمل وصِفِّين بعد انقسام عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسكرين، أحدهما بقيادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، ثم مقتل الخليفة علي سنة 40 من الهجرة.
كان "عام الجماعة" سنة 41هـ لحظة فارقة في ذلك الانقسام الخطير؛ فقد تنازل فيه الحسن بن علي عن المطالبة بالخلافة وسلّمها إلى معاوية شريطة أن يعود الأمر شورى إلى الأمة بعد معاوية، ليختاروا لحكمهم من يرونه الأفضل والأرشد لذلك. لكن معاوية -بمرور الوقت- قرر إبقاء السلطة في بيته الأموي بتوليته ابنه يزيداً ولاية العهد، وقد علل ابن خلدون (ت 808هـ) ذلك -في ‘المقدمة‘- بقوله إن "الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد -دون مَن سواه- إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس، واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يَرضون سواهم وهم عصابة قريش -وأهلِ الملّةِ أجمع- وأهلُ الغلَب منهم".
وبغض النظر عن مدى سلامة تعليل ابن خلدون هذا؛ فإن ارتقاء يزيد -بعد وفاة أبيه سنة 60هـ- إلى منصب الخلافة لم يكن بموافقة جميع الصحابة، بل عارضه مشاهير منهم مثل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ) والحسين بن علي (ت 61هـ) وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 58هـ). ولذلك شهد عهدُه أحداثًا ساخنة كان على رأسها استشهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه- مطلع سنة 61هـ في كربلاء، ثم وقعة الحَرَّة بالمدينة المنورة حين ثار أهلها سنة 63هـ لإسقاط حكم يزيد.
وفي أثناء ذلك؛ جاء إعلان عبد الله بن الزبير خروجه على حُكم الأمويين، ثم قرر اللجوء إلى مكة المكرمة حيث "جمَع.. إليه وجوهَ أهل تِهامة والحجاز، فدعَاهم الى بيعته فبايعوه جميعًا، وامتنعَ عليه عبد الله بن عباس (ت 68هـ) ومحمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ)… [ثم] أمرَ بطرْد عُمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل [والي المدينة] مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ) من المدينة بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام"؛ طبقا لرواية أبي حنيفة الدينوَري (ت 282هـ) في ‘الأخبار الطوال‘.
ومن هنا انطلقت شرارة معركة صراع على الشرعية ستستمر تسع سنوات (64-73هـ) بين ابن الزبير الذي استطاع السيطرة على الجزيرة العربية والعراق واليمن، والأمويين -بدءا من يزيد بن معاوية (ت 64هـ) وانتهاء بعبد الملك بن مروان (ت 86هـ)- المسيطرِين على الشام ومصر، لكن في النهاية استولى الأمويون على العراق سنة 71هـ، وحوصر ابن الزبير في مكة المكرمة سبعة أشهر كاملة كان طوالها في حكم السجين.
شرعية واقعية
وقد أثار صموده خلال هذه الفترة الطويلة إعجاب حتى خصومه الأمويين؛ فقد نقل ابن الأثير (ت 630هـ) -في كتابه ‘الكامل‘- أن طارق بن عمرو (ت 84هـ) -وهو والي الأمويين على المدينة المنورة وأحد المحاصرين لمكة المكرمة مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)- قال: "ما ولدت النساءُ أذكرَ من هذا! فقال الحجاج: أتمدحُ مخالِفَ أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذرُ لنا، ولولا هذا لما كان لنا عُذرٌ، إنّا محاصرُوه منذ سبعة أشهر وهو في غير جُند ولا حِصنٍ ولا مَنَعَةٍ فينتصفُ منّا، بل يفضُلُ علينا؛ فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقًا".
وقد أثار صموده خلال هذه الفترة الطويلة إعجاب حتى خصومه الأمويين؛ فقد نقل ابن الأثير (ت 630هـ) -في كتابه ‘الكامل‘- أن طارق بن عمرو (ت 84هـ) -وهو والي الأمويين على المدينة المنورة وأحد المحاصرين لمكة المكرمة مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)- قال: "ما ولدت النساءُ أذكرَ من هذا! فقال الحجاج: أتمدحُ مخالِفَ أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذرُ لنا، ولولا هذا لما كان لنا عُذرٌ، إنّا محاصرُوه منذ سبعة أشهر وهو في غير جُند ولا حِصنٍ ولا مَنَعَةٍ فينتصفُ منّا، بل يفضُلُ علينا؛ فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقًا".
لقد كان مقتل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ) وصلْبِه من قِبل الحجاج مشهدًا مكتملاً وواضحًا من مشاهد الصراع على الشرعية في ذلك التاريخ المبكر، وبحسمه لصالح الأمويين فـُتِح الطريقُ لترسخ شرعية "الأمر الواقع" التي صارت معها شهوة التغلب والقوة راجحة الكفة على منطق الحق التام القاضي بإخضاع المسألة السياسية والقوة العسكرية للشورى العامة، وحق الأمة في الاختيار؛ إذ عُد ذلك مستحيلا من الناحية العملية بعد استحكام نزعة التغالب واعتمادها وسيلة حصرية للوصول إلى السلطة. ولذلك نرى مؤرخ الأفكار الشهرستاني (ت 548هـ) يقول -في كتابه ‘الملل والنحل‘- إن "أعظم خلاف بين الأمة خلافُ الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان".
وهكذا دخلت الأمة في طور "التغلب" فأصبحت ظاهرة التخلص من الحكام والأمراء والسلاطين -وهم في سجونهم- أمرًا عاديًا لكل من أطاح بخصمه من سدة الملك، ولم تحمله نفسه على "العفو عند المقدرة"؛ لا سيما أن شرعية "الأمر الواقع" التي اعتُمدت أساسا للحكم في الدولتين الأموية والعباسية -القائمتين على مبدأ توارث السلطة- فتحت الباب لوجود منافسين آخرين، حاولوا -معتمدين على القوة المجردة- الاستقلالَ عن السلطة المركزية للأمويين بدمشق والعباسيين ببغداد.
ففي نهاية عصر الأمويين؛ دعا الشاعر الثائر عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب (ت 129هـ) إلى البيعة لنفسه خليفة، مستغلا الاضطراب الذي كان يعيشه الأمويون جراء صراعهم على السلطة، فسيطر بالقوة على مناطق واسعة من فارس وجنوب العراق. ثم إنه -كما يروي ابن عساكر- "بويع له بالخلافة بأصبهان في سنة سبع وعشرين ومئة في خلافة مروان بن محمد (ت 132هـ وكان آخر حكام الدولة الأموية)..، وكثر تَبَعُه وجَبَى الأموال.. وقوِي أمرُه، وكانت بينه وبين عُمّال مروان وقائع وحروب كثيرة. ولم يزل هناك إلى أن جاءت الدولة العباسية، ثم حاربه مالك بن الهيثم (الخزاعي المتوفى بعد 137هـ) صاحب أبي مسلم (الخراساني المتوفى 137هـ)، فظفر به.. فحبسه وقتله، ويقال بل مات في سجنه".
وينقل أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ) -في كتابه ‘مقاتل الطالبيين‘- عن "بعض أهل السِّيَر أنه (= عبد الله بن معاوية) لم يزل محبوسًا حتى كتبَ إلى أبي مسلم رسالته المشهورة التي أولها: ”مِن الأسير في يديه المحبوس بلا جرم لديه…“ فلما كَتب إليه بذلك أمر بقتله". والغريب أن هذا الثائر العلوي كان قبل طلبه الملك شاعرا مشهورا يمدح الأمراء والولاة، وهو -كما يقول أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ) في ‘تاريخ أصفهان‘- صاحبُ البيتين السائرين
أَأَنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ
فإن عَرَضتْ أيقنتُ أنْ لا أخا ليا؟!
كِلانا غنِـــيٌّ عن أخيه حيــاتَه
ونحــــن إذا مِتْــــنا أشـــــدُّ تغانيا!!
خطوة مغامرة
جاء العباسيون إلى السلطة على متن ثورة مسلحة عارمة ومحكمة التنظيم، فأسسوا بدورهم شرعيتهم على التغلب والتخلص من المنافسين، حتى ولو كانوا أبناء عمومتهم ومشاركين لهم في الثورة على الأمويين، وكان أول ضحاياهم في ذلك -كما رأينا- عبد الله بن معاوية الهاشمي العلوي الذي قضى نحبه في سجنهم.
جاء العباسيون إلى السلطة على متن ثورة مسلحة عارمة ومحكمة التنظيم، فأسسوا بدورهم شرعيتهم على التغلب والتخلص من المنافسين، حتى ولو كانوا أبناء عمومتهم ومشاركين لهم في الثورة على الأمويين، وكان أول ضحاياهم في ذلك -كما رأينا- عبد الله بن معاوية الهاشمي العلوي الذي قضى نحبه في سجنهم.
على أن العباسيين شرعوا -منذ الخليفة المأمون (ت 218هـ) ثم أخيه الخليفة المعتصم (ت 227هـ)- في استجلاب العناصر التركية ليكونوا حرسهم الخاص، والنواة الأبرز والأقوى في جيوش الخلافة فيما بعد، إقصاءً منهم لسُلطة العرب والفُرس الذين كانوا قد بلغوا القوة والغاية في مفاصل الدولة؛ لكن الذي حدث -كما يقول رشيد رضا (ت 1935هـ) في كتابه ‘الخلافة‘- هو أنه صار "جُند الترك في العباسيين كجُند الانكشارية في العثمانيين، كان قوةً لهم ثم صار قوةً عليهم ومُفسِداً لملكهم"!
ونتيجة لسطوة النخبة العسكرية التركية وسيطرتها شبه المطلقة لهم على مقاليد السياسة والإدارة ومفاصل الدولة العباسية؛ برزت ظاهرة القبض على الخلفاء العباسيين وقتلهم أو حبسهم حتى يموتوا في غياهب الزنازين، بداية من مقتل الخليفة المتوكل (ت 247هـ) على يد ابنه المنتصر (ت 248هـ) وأعوانه من جند الترك، ومرورا بالمعتز بالله (ت 255هـ) الذي أطاح به القادة الأتراك متذرعين بضعفه وعدم قدرته على دفع رواتب العسكر. ويحدثنا الطبري عن النهاية البشعة للمعتز هذا فيقول إنه "دُفِع إلى مَن يعذبه، ومُنع الطعامَ والشراب ثلاثة أيام، فطلَبَ حُسْوَةً مِن ماء البئر فمنعوه، ثم جصَّصوا سِرداباً بالجِصّ الثخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا"!!
وفعَل العسكر الأمر ذاته مع خلفه المهتدي بالله (ت 256هـ) الذي حاول وضع حدّ لاستضعاف الخلفاء عبر تشتيت الأتراك وضرب بعضهم ببعض، وفي سبيل تحقيق ذلك "جعل يركب في بني هاشم، ويدورُ في الأسواق ويسأل الناسَ النصرة، ويقول: هؤلاء الفُسّاق يقتلون الخلفاء.. وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه"؛ حسبما يرويه الطبري. لكن دعوته لم تلْقَ صدىً؛ فقبض عليه الأتراكُ وأخضعوه للإقامة الجبرية وطلبوا منه الاستقالة فـ"أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديْهِ ورجليه مِن كفيه وقدميه… حتى مات".
وبالتزامن مع هذه الحالة من استضعاف النخبة العسكرية التركية للخلفاء في بغداد؛ كانت أطراف العالم الإسلامي تستغل أوضاع الاضطراب في مركز الخلافة لتكوين كيانات ودول مستقلة، أو توسيعها على حساب الجيران ولو كانوا مسلمين، وشرعت هي الأخرى في استخدام مبدأ "التغلب"، كما حدث بين عمرو بن الليث الصَّفّار (ت 289هـ) أمير الدولة الصَّفّارية في فارس خراسان (= معظم إيران وأفغانستان)، وإسماعيل بن أحمد الساماني (ت 295هـ) أمير السامانيين في إقليم ما وراء النهر (= أوزباكستان وما حولها).
وفي نهاية المطاف؛ دارت بينهما معركة فاصلة انتهت بهزيمة ساحقة للصفّار "فأسروه فخيّره إسماعيلُ بين بقائه عنده والتوجيه إلى باب المعتضد بالله (العباسي المتوفى 289هـ) فاختار التوجيه. فبعثَه إلى باب الخلافة..؛ فوصل في أول جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين ومئتين…، وأركبه جملا وحملَه من المصلّى وشقَّ به بغداد من بِاب خراسان؛ وكان في حالِ إشهاره تدمعُ عيناه وهو رافع يديه يدعو، فرقَّ الناسُ له! وأمر المعتضدُ بحبسْه في القصر، فحُبِس إلى أن توفي في السجن" سنة 289هـ؛ وفقا لرواية ابن أيبَك الدَّوَادَاري (ت بعد 736هـ) في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.
استضعاف متكرر
وفي العراق بقي استضعاف الخلفاء ظاهرةً تضرب أطنابها في أرجاء العاصمة المتأرجح مقرها بين بغداد وسامَرّاء؛ فقد خاف كبار القادة الأتراك من الخليفة القاهر بالله العباسي (ت 322هـ) لسماعهم شائعات تفيد بأنه يريد الفتك بهم، ويروي لنا أبو علي بن مسكويه (ت 421هـ) -في ‘تجارب الأمم وتعاقب الهمم‘- مشهد القبض على هذا الخليفة التعِس سنة 322هـ، حيث يقوله إنه "لمّا علم القاهرُ بحصول الغلمان في الدار (= قصره)؛ انتبه من سُكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دَور الحرم (= الحريم) فاستَتر فيه..، فدخلوا فوجدوه.. وفى يده سيف مُجرّد، واجتهدوا به -على سبيل الرفق- أن ينزل إليهم.. فأقام على الامتناع من النزول، إلى أن فَوَّقَ (= سدّد) إليه واحد منهم بسهم، وقال: إن لم تنْزِل وضعتُه في نحرك؛ فنزل حينئذ وقبضوا عليه.. وصاروا به إلى موضع الحبوس.. وحبسوه فيه".
وفي العراق بقي استضعاف الخلفاء ظاهرةً تضرب أطنابها في أرجاء العاصمة المتأرجح مقرها بين بغداد وسامَرّاء؛ فقد خاف كبار القادة الأتراك من الخليفة القاهر بالله العباسي (ت 322هـ) لسماعهم شائعات تفيد بأنه يريد الفتك بهم، ويروي لنا أبو علي بن مسكويه (ت 421هـ) -في ‘تجارب الأمم وتعاقب الهمم‘- مشهد القبض على هذا الخليفة التعِس سنة 322هـ، حيث يقوله إنه "لمّا علم القاهرُ بحصول الغلمان في الدار (= قصره)؛ انتبه من سُكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دَور الحرم (= الحريم) فاستَتر فيه..، فدخلوا فوجدوه.. وفى يده سيف مُجرّد، واجتهدوا به -على سبيل الرفق- أن ينزل إليهم.. فأقام على الامتناع من النزول، إلى أن فَوَّقَ (= سدّد) إليه واحد منهم بسهم، وقال: إن لم تنْزِل وضعتُه في نحرك؛ فنزل حينئذ وقبضوا عليه.. وصاروا به إلى موضع الحبوس.. وحبسوه فيه".
وأخرج القادة الأتراك أحد أمراء البيت العباسي من سجنه وهو محمـد بن الخليفة المقتدر ولقّبوه "الراضي بالله" (ت 329هـ)، الذي أراد أن يسبغ على المشهد الانقلابي الذي تم بالقوة غُلالةَ شرعيةٍ قانونيةٍ شكليةٍ، فأرسل جماعةً من كبار القضاة إلى سجن الخليفة المخلوع القاهر بالله ليشهدوا عليه بخلع نفسه من الخلافة لكنه رفض الاستقالة، وحينها قال أحد هؤلاء القُضاة -حسبما يرويه مسكويه- مقولةً تُلخّص جدلية السلطة منذ ذلك العهد: "بِنا (= القضاة) لا تُعقد الدولُ وإنّما يتمّ [ذلك] بأصحاب السيوف، ونصلحُ نحن ونُراد لشهادةٍ واستيثاقٍ" فقط!
وبالفعل تدخّل العسكر وأنزلوا العقوبة بالخليفة المخلوع القاهر بالله، فـ"سُمِلت (= فُقِئَتْ) عيناه.. حتى سالتا جميعا فعَمِي، وارتُكب منه أمر عظيم لم يُسمَع بمثله في الإسلام..، وبقي القاهرُ محبوسًا في دار السلطان إلى سنة ثلاث وثلاثين [وثلاثمئة]..، فكان تارة يُحبس وتارة يخلى" حتى "توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة (= 339هـ)"؛ وفقا لما يرويه ابن الجوزي (ت 597هـ) في تاريخه ‘المنتظم‘.
ثم تكرر الأمر ذاته مع الخليفة الذي جاء بعد وفاة الراضي بالله وهو المتقي لله (ت 357هـ) الذي تميز عهده بالصراعات المتلاحقة بين القادة العسكريين من العرب والترك؛ ففي سنة 333هـ تمرد "أمير الأمراء" التركي توزون (ت 334هـ) على هذا الخليفة وهو خارج العاصمة، فدبّر له حيلة حتى "قبض.. عليه وسَمَلَهُ وأدخِل بغدادَ أعمى..، [ثم] توفي المتقي في السجن" بعد 24 سنة قضاها سجينا؛ كما يروي الذهبي في ‘السِّيَر‘.
جاءت سيطرة البويهيين على مقاليد السلطة العباسية ببغداد سنة 334هـ حلقة جديدة من حلقات التغلب وسيطرة سطوة القوة العسكرية وثقافة "الاستيلاء" على منطق الحق؛ لقد وافق الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ) على استقدامهم من إيران ليقضي بهم على تسلط الأتراك، لكنه لم يكن يدري أنه بخطوته تلك صار "كالمستجير من الرمضاء بالنار" لأنه سيكون أول ضحاياهم.
ويقول أبو الحسن الهمذاني (ت 521هـ) -في ‘تكملة تاريخ الطبري‘- إن القائد البويهي معز الدولة (ت 356هـ) دخل على الخليفة "المستكفي بالله فَقبّل الأرض وَجلسَ على كرْسِي…، وَتقدم نفسان (= شخصان) إلى المستكفي، فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها؛ فجذباه وطرحاه إلى الأرض وحملاه إلى دار معز الدولة". وظل المستكفي بالله معتقلا فيها أربع سنوات بعدما فُقئت عيناه وأُعمِي، "فمات هناك بنفث الدم في هذه السنة (= 338هـ)"؛ حسبما يرويه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘.
المصدر : الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق