الثلاثاء، 16 يونيو 2020

"مات سجينا".. من الخليفة عثمان إلى الرئيس مرسي سلاطين خُلعوا بالقوة وقضوا في سجون المنقلبين

"مات سجينا".. 

من الخليفة عثمان إلى الرئيس مرسي سلاطين خُلعوا بالقوة وقضوا في سجون المنقلبين


عز الدين عمر
"الخلافة بعد مُنْقَرَضِ [الخلفاء] الأربعة الراشدين شابتها شوائبُ الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحقُّ المحضُ في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة مُلْكاً عضوضا"؛ تلك خلاصة تاريخية وفقهية مركّزة ومعبِّرة سطّرها الإمام الجويني (ت 478هـ) في كتابه ‘غياث الأمم‘ لتتبرز إحدى كبريات الحقائق التي انْبَنى عليها تاريخنا الإسلامي بحقبه المتطاولة ودوله المتعاقبة، وعلى أساس منها صارت عبارة "مات في السجن" ونظرائها دارجةً في بطون كتب التاريخ والتراجم تلقاك وأنت تبحث في سيرة فقيه أو معارض سياسي. فالموت في السجن من العقوبات التي تواترت في تاريخنا كثيرا؛ لكن العجيب أن تجد ذلك يتكرر عند تتبع سِيَر خلفاء وملوك وسلاطين حكموا ف تاريخ المسلمين.
قبل عام بالضبط من الآن (17 يونيو/حزيران 2019م)؛ أعلـِنت وفاة الرئيس محمد مرسي -وهو أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر- داخل مجمع سجون طرة بجنوب القاهرة الخاضعة لسلطة المنقلبين عليه، بعد أن قضى خمس سنين متقلبا بين "محاكمات" في عدد من القضايا تحت ظروف مطعون فيها عدليا وإنسانيا بشهادة منظمات حقوقية دولية، وهو ما تُجدد ذكراه السنويةُ سيرةَ شجون سجون السياسة في تاريخنا.
فقراءة قصص موت السلاطين المخلوعين في سجونهم وتاريخ السجناء السياسيين عموما تعطي فرصة مثلى للتعرف على جانب آخر من التاريخ السياسي الإسلامي، وإطلالة معرفية لتفحّص تاريخ المشروعية الدستورية ليس عبر الفقه السياسي فقط، بل ومن خلال قصص الخلع من السلطة عقب السطوة والنفوذ، وعتمة الزنازين بعد رفاهية الملك وأبهة السلطة.
كانت العرب تقول إن "المُلْك عقيم"، أي قاطع للرحم الأسَري والأخلاقي طلبا للاستبداد بالملك وثمراته. والحقيقة أن أحوال التداول على الملك بالتغلب كانت قاطعة للمثُـل والقيم الإسلامية قبل أن تقطع القيَم الرَّحِمِية؛ إنه جانب شديد الضعف في تاريخنا ويجب أن نسلم به كأثر بالغ الأثر لغياب مبدأ تداول السلطة شرعيا وسلميا، ومن مظاهره قتل السلاطين المخلوعين بالموت البطيء في السجون وما في حكمها من إقامة جبرية أو حصار خانق لسلطان أعزل.
في هذا المقال لا نعتمد المقايسات ومقارنة الملابسات بالملابسات أو الشخصيات بالشخصيات، فلكل حدث أو سجن حديثه الخاص وظرفه المشتق من بيئته وإن تطابقت الدوافع وتشابهت الآليات، ثم إن هؤلاء السلاطين -بغض النظر عن طريقة وصولهم للسلطة- كانوا متفاوتين في الأهلية للحكم والرشدية في ممارسته. لكننا هنا نطرح فكرة دوران السلطة بين الحكام في تاريخ المسلمين في ظل غياب الشرعية الدستورية، وسيادة إهدار مبادئ الشورى والعدالة؛ لنرى متى بدأت هذه الظاهرة المؤلمة؟ وما هي السياقات التاريخية التي تكررت فيها؟ وكيف تناولها المؤرخون والفقهاء بالدرس والتحليل؟
سابقة خطيرة
رغم أن الإسلام جاء ليؤسِّس نظاما سياسيا قائما على البيعة والشورى واحترام شرعية الأمة، وطاعة قيادتها المختارة طالما ظلت مستمسِكَة بالحق ومنطلِقة منه؛ فإنه سرعان ما افترقت الأُسس والأخلاق السياسية عن الواقع، وظل التباعد بين الطرفين يتزايد حتى اتسع الخَرق على الراقع في العصور الحديثة. وكان من نتائج هذا التباعد ظاهرة قتل الخلفاء والأمراء والسلاطين المخلوعين؛ ومن أقسى صور هذه الظاهرة ما يكون منها أحيانا بعد القدرة على "الحاكم المخلوع"، فيقضي نحبه وهو في سجن -أو مقر إقامة جبرية- تابع لخصمه الذي أطاح به، وهو من بني جلدته ومنتسبي دينه!
لقد كان مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ) -رضي الله عنه- محاصَرًا ببيته في وضعية السجين أولى صور هذه الظاهرة في تاريخ الإسلام؛ ذلك أن الخارجين على عثمان قد حاصروه لأسباب سياسية محضة. وفي ذلك يقول الطبري (ت 310هـ) -في تاريخه- إن هؤلاء المعارضين "جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتُب يضعونها في عيوب وُلاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يُظهرون، ويُسرّون غير ما يُبدون".
وكان من مطالبهم إقصاء عثمان لأقاربه الذين اتهموه بمحاباتهم بالوظائف على حساب المسلمين، كما زعموا ابتعاده في تسيير الشأن العام عن طريقة صاحبيْه أبي بكر الصديق (ت 13هـ) وعُمر بن الخطاب (ت 23هـ). لقد فنّد كبارُ الصحابة -مثل علي وطلحة والزبير رضي الله عنهم- هذه الاتهامات، وبالتالي فشلت خطة المحاصرين برفض عثمان لمبدأ التنازل عن الحكم حتى لا يؤسس بذلك سابقة لمن بعده "فتكون سُنّةً: كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم قتلوه"؛ كما أورد الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) في كتابه ‘فضائل الصحابة‘.
شدد المحاصِرون الطوق على بيت الخليفة لأسابيع كان فيها بمثابة السجين قبل مقتله في النهاية؛ ولم يقبل عثمان أي دفاع مُسلَّح عنه حتى لا تُهرق دماء المسلمين بسببه فتكون تلك سنةً جارية في الأجيال اللاحقة. فابن ابن عساكر (ت 571هـ) يروي -في ‘تاريخ دمشق‘- أن الحسن بن علي (ت 49هـ) -رضي الله عنهما- دخل بسلاحه على الخليفة عثمان، فقال له: "يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا بين يديك فمُرني بأمرك؛ فقال له عثمان: يا ابن أخي وصَلتك رحِمٌ، إن القوم ما يريدون غيري، ووالله لا أتوقّى بالمؤمنين ولكن أُوقِي المؤمنين بنفسي".
ثم زاد المحاصرون التضييق عليه إلى أن بلغ حد منع الطعام والشراب عنه؛ حتى إن علي بن أبي طالب (ت 40هـ) وقف فيهم يوما -حسب الطبري- فقال: "يا أيها الناسُ، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين! لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة (= الطعام والشراب)، فإن الروم وفارس لتأْسِر فتُطعِم وتُسْقي، وما تعرَّض لكم هذا الرجل، فَبِمَ تستحلون حصره وقتله؟!". لقد كان القوم "يدًا واحدةً في الشرّ" -كما يصفهم ابن سعد (ت 230هـ) في ‘الطبقات الكبرى‘- فقتلوا عثمان (ض) حبيسا في مقر "إقامته الجبرية"، حيث أدخلوا عليه أحدهم "فخنقه وخنقه قبل أن يضربـ[ـه] بالسيف"؛ طبقا لرواية خليفة بن خياط البصري (ت 240هـ) في تاريخه. 
انفراط مبكر
هكذا قضى الخليفة عثمان نحبه دفاعًا عن حق الأمة في بقاء شرعيتها الدستورية قائمةً ولو قُتل رمزها. ورغم ذلك كان مقتله رضي الله عنه "من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرّقت الأمة إلى اليوم"؛ كما يذكر ابن تيمية (ت 728هـ) في ‘مجموع الفتاوى‘. وكان من آثار هذا التفرق معارك الجمل وصِفِّين بعد انقسام عميق بين الصحابة والتابعين إلى معسكرين، أحدهما بقيادة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب والآخر بزعامة أمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ)، ثم مقتل الخليفة علي سنة 40 من الهجرة.
كان "عام الجماعة" سنة 41هـ لحظة فارقة في ذلك الانقسام الخطير؛ فقد تنازل فيه الحسن بن علي عن المطالبة بالخلافة وسلّمها إلى معاوية شريطة أن يعود الأمر شورى إلى الأمة بعد معاوية، ليختاروا لحكمهم من يرونه الأفضل والأرشد لذلك. لكن معاوية -بمرور الوقت- قرر إبقاء السلطة في بيته الأموي بتوليته ابنه يزيداً ولاية العهد، وقد علل ابن خلدون (ت 808هـ) ذلك -في ‘المقدمة‘- بقوله إن "الذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد -دون مَن سواه- إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس، واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة؛ إذ بنو أميّة يومئذٍ لا يَرضون سواهم وهم عصابة قريش -وأهلِ الملّةِ أجمع- وأهلُ الغلَب منهم".
وبغض النظر عن مدى سلامة تعليل ابن خلدون هذا؛ فإن ارتقاء يزيد -بعد وفاة أبيه سنة 60هـ- إلى منصب الخلافة لم يكن بموافقة جميع الصحابة، بل عارضه مشاهير منهم مثل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ) والحسين بن علي (ت 61هـ) وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق (ت 58هـ). ولذلك شهد عهدُه أحداثًا ساخنة كان على رأسها استشهاد الإمام الحسين -رضي الله عنه- مطلع سنة 61هـ في كربلاء، ثم وقعة الحَرَّة بالمدينة المنورة حين ثار أهلها سنة 63هـ لإسقاط حكم يزيد.
وفي أثناء ذلك؛ جاء إعلان عبد الله بن الزبير خروجه على حُكم الأمويين، ثم قرر اللجوء إلى مكة المكرمة حيث "جمَع.. إليه وجوهَ أهل تِهامة والحجاز، فدعَاهم الى بيعته فبايعوه جميعًا، وامتنعَ عليه عبد الله بن عباس (ت 68هـ) ومحمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ)… [ثم] أمرَ بطرْد عُمال يزيد من مكة والمدينة، وارتحل [والي المدينة] مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ) من المدينة بولده وأهل بيته حتى لحق بالشام"؛ طبقا لرواية أبي حنيفة الدينوَري (ت 282هـ) في ‘الأخبار الطوال‘.
ومن هنا انطلقت شرارة معركة صراع على الشرعية ستستمر تسع سنوات (64-73هـ) بين ابن الزبير الذي استطاع السيطرة على الجزيرة العربية والعراق واليمن، والأمويين -بدءا من يزيد بن معاوية (ت 64هـ) وانتهاء بعبد الملك بن مروان (ت 86هـ)- المسيطرِين على الشام ومصر، لكن في النهاية استولى الأمويون على العراق سنة 71هـ، وحوصر ابن الزبير في مكة المكرمة سبعة أشهر كاملة كان طوالها في حكم السجين.
شرعية واقعية
وقد أثار صموده خلال هذه الفترة الطويلة إعجاب حتى خصومه الأمويين؛ فقد نقل ابن الأثير (ت 630هـ) -في كتابه ‘الكامل‘- أن طارق بن عمرو (ت 84هـ) -وهو والي الأمويين على المدينة المنورة وأحد المحاصرين لمكة المكرمة مع جيش الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)- قال: "ما ولدت النساءُ أذكرَ من هذا! فقال الحجاج: أتمدحُ مخالِفَ أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذرُ لنا، ولولا هذا لما كان لنا عُذرٌ، إنّا محاصرُوه منذ سبعة أشهر وهو في غير جُند ولا حِصنٍ ولا مَنَعَةٍ فينتصفُ منّا، بل يفضُلُ علينا؛ فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقًا".
لقد كان مقتل عبد الله بن الزبير (ت 73هـ) وصلْبِه من قِبل الحجاج مشهدًا مكتملاً وواضحًا من مشاهد الصراع على الشرعية في ذلك التاريخ المبكر، وبحسمه لصالح الأمويين فـُتِح الطريقُ لترسخ شرعية "الأمر الواقع" التي صارت معها شهوة التغلب والقوة راجحة الكفة على منطق الحق التام القاضي بإخضاع المسألة السياسية والقوة العسكرية للشورى العامة، وحق الأمة في الاختيار؛ إذ عُد ذلك مستحيلا من الناحية العملية بعد استحكام نزعة التغالب واعتمادها وسيلة حصرية للوصول إلى السلطة. ولذلك نرى مؤرخ الأفكار الشهرستاني (ت 548هـ) يقول -في كتابه ‘الملل والنحل‘- إن "أعظم خلاف بين الأمة خلافُ الإمامة، إذ ما سُلَّ سيفٌ في الإسلام على قاعدةٍ دينية مثل ما سُلّ على الإمامة في كل زمان".
وهكذا دخلت الأمة في طور "التغلب" فأصبحت ظاهرة التخلص من الحكام والأمراء والسلاطين -وهم في سجونهم- أمرًا عاديًا لكل من أطاح بخصمه من سدة الملك، ولم تحمله نفسه على "العفو عند المقدرة"؛ لا سيما أن شرعية "الأمر الواقع" التي اعتُمدت أساسا للحكم في الدولتين الأموية والعباسية -القائمتين على مبدأ توارث السلطة- فتحت الباب لوجود منافسين آخرين، حاولوا -معتمدين على القوة المجردة- الاستقلالَ عن السلطة المركزية للأمويين بدمشق والعباسيين ببغداد.
ففي نهاية عصر الأمويين؛ دعا الشاعر الثائر عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب (ت 129هـ) إلى البيعة لنفسه خليفة، مستغلا الاضطراب الذي كان يعيشه الأمويون جراء صراعهم على السلطة، فسيطر بالقوة على مناطق واسعة من فارس وجنوب العراق. ثم إنه -كما يروي ابن عساكر- "بويع له بالخلافة بأصبهان في سنة سبع وعشرين ومئة في خلافة مروان بن محمد (ت 132هـ وكان آخر حكام الدولة الأموية)..، وكثر تَبَعُه وجَبَى الأموال.. وقوِي أمرُه، وكانت بينه وبين عُمّال مروان وقائع وحروب كثيرة. ولم يزل هناك إلى أن جاءت الدولة العباسية، ثم حاربه مالك بن الهيثم (الخزاعي المتوفى بعد 137هـ) صاحب أبي مسلم (الخراساني المتوفى 137هـ)، فظفر به.. فحبسه وقتله، ويقال بل مات في سجنه".
وينقل أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ) -في كتابه ‘مقاتل الطالبيين‘- عن "بعض أهل السِّيَر أنه (= عبد الله بن معاوية) لم يزل محبوسًا حتى كتبَ إلى أبي مسلم رسالته المشهورة التي أولها: ”مِن الأسير في يديه المحبوس بلا جرم لديه…“ فلما كَتب إليه بذلك أمر بقتله". والغريب أن هذا الثائر العلوي كان قبل طلبه الملك شاعرا مشهورا يمدح الأمراء والولاة، وهو -كما يقول أبو نعيم الأصفهاني (ت 430هـ) في ‘تاريخ أصفهان‘- صاحبُ البيتين السائرين
أَأَنتَ أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ 
                   فإن عَرَضتْ أيقنتُ أنْ لا أخا ليا؟!

كِلانا غنِـــيٌّ عن أخيه حيــاتَه 
                        ونحــــن إذا مِتْــــنا أشـــــدُّ تغانيا!!

خطوة مغامرة
جاء العباسيون إلى السلطة على متن ثورة مسلحة عارمة ومحكمة التنظيم، فأسسوا بدورهم شرعيتهم على التغلب والتخلص من المنافسين، حتى ولو كانوا أبناء عمومتهم ومشاركين لهم في الثورة على الأمويين، وكان أول ضحاياهم في ذلك -كما رأينا- عبد الله بن معاوية الهاشمي العلوي الذي قضى نحبه في سجنهم.
على أن العباسيين شرعوا -منذ الخليفة المأمون (ت 218هـ) ثم أخيه الخليفة المعتصم (ت 227هـ)- في استجلاب العناصر التركية ليكونوا حرسهم الخاص، والنواة الأبرز والأقوى في جيوش الخلافة فيما بعد، إقصاءً منهم لسُلطة العرب والفُرس الذين كانوا قد بلغوا القوة والغاية في مفاصل الدولة؛ لكن الذي حدث -كما يقول رشيد رضا (ت 1935هـ) في كتابه ‘الخلافة‘- هو أنه صار "جُند الترك في العباسيين كجُند الانكشارية في العثمانيين، كان قوةً لهم ثم صار قوةً عليهم ومُفسِداً لملكهم"!
ونتيجة لسطوة النخبة العسكرية التركية وسيطرتها شبه المطلقة لهم على مقاليد السياسة والإدارة ومفاصل الدولة العباسية؛ برزت ظاهرة القبض على الخلفاء العباسيين وقتلهم أو حبسهم حتى يموتوا في غياهب الزنازين، بداية من مقتل الخليفة المتوكل (ت 247هـ) على يد ابنه المنتصر (ت 248هـ) وأعوانه من جند الترك، ومرورا بالمعتز بالله (ت 255هـ) الذي أطاح به القادة الأتراك متذرعين بضعفه وعدم قدرته على دفع رواتب العسكر. ويحدثنا الطبري عن النهاية البشعة للمعتز هذا فيقول إنه "دُفِع إلى مَن يعذبه، ومُنع الطعامَ والشراب ثلاثة أيام، فطلَبَ حُسْوَةً مِن ماء البئر فمنعوه، ثم جصَّصوا سِرداباً بالجِصّ الثخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا"!!
وفعَل العسكر الأمر ذاته مع خلفه المهتدي بالله (ت 256هـ) الذي حاول وضع حدّ لاستضعاف الخلفاء عبر تشتيت الأتراك وضرب بعضهم ببعض، وفي سبيل تحقيق ذلك "جعل يركب في بني هاشم، ويدورُ في الأسواق ويسأل الناسَ النصرة، ويقول: هؤلاء الفُسّاق يقتلون الخلفاء.. وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه"؛ حسبما يرويه الطبري. لكن دعوته لم تلْقَ صدىً؛ فقبض عليه الأتراكُ وأخضعوه للإقامة الجبرية وطلبوا منه الاستقالة فـ"أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديْهِ ورجليه مِن كفيه وقدميه… حتى مات".
وبالتزامن مع هذه الحالة من استضعاف النخبة العسكرية التركية للخلفاء في بغداد؛ كانت أطراف العالم الإسلامي تستغل أوضاع الاضطراب في مركز الخلافة لتكوين كيانات ودول مستقلة، أو توسيعها على حساب الجيران ولو كانوا مسلمين، وشرعت هي الأخرى في استخدام مبدأ "التغلب"، كما حدث بين عمرو بن الليث الصَّفّار (ت 289هـ) أمير الدولة الصَّفّارية في فارس خراسان (= معظم إيران وأفغانستان)، وإسماعيل بن أحمد الساماني (ت 295هـ) أمير السامانيين في إقليم ما وراء النهر (= أوزباكستان وما حولها).
وفي نهاية المطاف؛ دارت بينهما معركة فاصلة انتهت بهزيمة ساحقة للصفّار "فأسروه فخيّره إسماعيلُ بين بقائه عنده والتوجيه إلى باب المعتضد بالله (العباسي المتوفى 289هـ) فاختار التوجيه. فبعثَه إلى باب الخلافة..؛ فوصل في أول جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين ومئتين…، وأركبه جملا وحملَه من المصلّى وشقَّ به بغداد من بِاب خراسان؛ وكان في حالِ إشهاره تدمعُ عيناه وهو رافع يديه يدعو، فرقَّ الناسُ له! وأمر المعتضدُ بحبسْه في القصر، فحُبِس إلى أن توفي في السجن" سنة 289هـ؛ وفقا لرواية ابن أيبَك الدَّوَادَاري (ت بعد 736هـ) في ‘كنز الدرر وجامع الغرر‘.
استضعاف متكرر
وفي العراق بقي استضعاف الخلفاء ظاهرةً تضرب أطنابها في أرجاء العاصمة المتأرجح مقرها بين بغداد وسامَرّاء؛ فقد خاف كبار القادة الأتراك من الخليفة القاهر بالله العباسي (ت 322هـ) لسماعهم شائعات تفيد بأنه يريد الفتك بهم، ويروي لنا أبو علي بن مسكويه (ت 421هـ) -في ‘تجارب الأمم وتعاقب الهمم‘- مشهد القبض على هذا الخليفة التعِس سنة 322هـ، حيث يقوله إنه "لمّا علم القاهرُ بحصول الغلمان في الدار (= قصره)؛ انتبه من سُكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دَور الحرم (= الحريم) فاستَتر فيه..، فدخلوا فوجدوه.. وفى يده سيف مُجرّد، واجتهدوا به -على سبيل الرفق- أن ينزل إليهم.. فأقام على الامتناع من النزول، إلى أن فَوَّقَ (= سدّد) إليه واحد منهم بسهم، وقال: إن لم تنْزِل وضعتُه في نحرك؛ فنزل حينئذ وقبضوا عليه.. وصاروا به إلى موضع الحبوس.. وحبسوه فيه".
وأخرج القادة الأتراك أحد أمراء البيت العباسي من سجنه وهو محمـد بن الخليفة المقتدر ولقّبوه "الراضي بالله" (ت 329هـ)، الذي أراد أن يسبغ على المشهد الانقلابي الذي تم بالقوة غُلالةَ شرعيةٍ قانونيةٍ شكليةٍ، فأرسل جماعةً من كبار القضاة إلى سجن الخليفة المخلوع القاهر بالله ليشهدوا عليه بخلع نفسه من الخلافة لكنه رفض الاستقالة، وحينها قال أحد هؤلاء القُضاة -حسبما يرويه مسكويه- مقولةً تُلخّص جدلية السلطة منذ ذلك العهد: "بِنا (= القضاة) لا تُعقد الدولُ وإنّما يتمّ [ذلك] بأصحاب السيوف، ونصلحُ نحن ونُراد لشهادةٍ واستيثاقٍ" فقط!
وبالفعل تدخّل العسكر وأنزلوا العقوبة بالخليفة المخلوع القاهر بالله، فـ"سُمِلت (= فُقِئَتْ) عيناه.. حتى سالتا جميعا فعَمِي، وارتُكب منه أمر عظيم لم يُسمَع بمثله في الإسلام..، وبقي القاهرُ محبوسًا في دار السلطان إلى سنة ثلاث وثلاثين [وثلاثمئة]..، فكان تارة يُحبس وتارة يخلى" حتى "توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة (= 339هـ)"؛ وفقا لما يرويه ابن الجوزي (ت 597هـ) في تاريخه ‘المنتظم‘.
ثم تكرر الأمر ذاته مع الخليفة الذي جاء بعد وفاة الراضي بالله وهو المتقي لله (ت 357هـ) الذي تميز عهده بالصراعات المتلاحقة بين القادة العسكريين من العرب والترك؛ ففي سنة 333هـ تمرد "أمير الأمراء" التركي توزون (ت 334هـ) على هذا الخليفة وهو خارج العاصمة، فدبّر له حيلة حتى "قبض.. عليه وسَمَلَهُ وأدخِل بغدادَ أعمى..، [ثم] توفي المتقي في السجن" بعد 24 سنة قضاها سجينا؛ كما يروي الذهبي في ‘السِّيَر‘.
جاءت سيطرة البويهيين على مقاليد السلطة العباسية ببغداد سنة 334هـ حلقة جديدة من حلقات التغلب وسيطرة سطوة القوة العسكرية وثقافة "الاستيلاء" على منطق الحق؛ لقد وافق الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ) على استقدامهم من إيران ليقضي بهم على تسلط الأتراك، لكنه لم يكن يدري أنه بخطوته تلك صار "كالمستجير من الرمضاء بالنار" لأنه سيكون أول ضحاياهم.
ويقول أبو الحسن الهمذاني (ت 521هـ) -في ‘تكملة تاريخ الطبري‘- إن القائد البويهي معز الدولة (ت 356هـ) دخل على الخليفة "المستكفي بالله فَقبّل الأرض وَجلسَ على كرْسِي…، وَتقدم نفسان (= شخصان) إلى المستكفي، فظنّ أنهما يريدان تقبيل يده فمدّها؛ فجذباه وطرحاه إلى الأرض وحملاه إلى دار معز الدولة". وظل المستكفي بالله معتقلا فيها أربع سنوات بعدما فُقئت عيناه وأُعمِي، "فمات هناك بنفث الدم في هذه السنة (= 338هـ)"؛ حسبما يرويه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘.
مبادرة توفيقية
ومرة أخرى تدخل الشرعية الحاكمة -التي قامت مع الأمويين والعباسيين والجامعة بين التغلب والقُرشية وضرورة "الأمر الواقع"- في طور جديد بتوالي الدول السلطانية، بويهيةً كانت أم سلجوقية أم مملوكية أم عثمانية. وهو ما جعل "أقضى القضاة" الإمام الماوردي الشافعي (ت 450هـ) يخرج -في كتابه ‘الأحكام السلطانية‘- بنظرية "وزارة التفويض"، التي قصد بها "أن يستوزر الإمامُ (= الخليفة) مَن يفوِّض إليه تدبيرَ الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده"، موضحا أنه ما دام الدافع لذلك هو ضرورة سلطة الأمر الواقع فإن "وزارة التفويض تصح في إمارة الاستيلاء (= القوة والاضطرار)، ولا تصح في إمارة الاستكفاء (= قدرة الخليفة على تولية الأكفأ)".
كان دافع الماوردي لطرح نظريته تلك تصحيح الوضع المختل في العلاقة بين خليفة يدعي الشرعية بـ"قوة الحق" وسلطان يمتلك واقعا "حقَّ القوة". ويبدو أن تكييفه للعلاقة بين الخلفاء المستضعَفين والسلاطين المتغلبين كان تمهيدًا لدخول السلاجقة بغداد في عام 447هـ قبل وفاة الماوردي بثلاث سنوات، بل وبإسهام منه في قدومهم حين قاد المفاوضات بينهم وبين الخليفة حينها القائم بأمر الله (ت 467هـ) "فراسلهم القائم بأمر الله بقاضي القضاة أبي الحسن الماوردي"؛ كما يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ) في ‘سير أعلام النبلاء‘.
ورغم ذلك؛ بقيت ظاهرة الحجر وقتل الخلفاء والأمراء المستقلين جلية في أرجاء العالم الإسلامي؛ كما وقع سنة 441هـ مع أمير الموصل قرواش بن مقلد العقيلي (ت 444هـ) حين "وثب على قرواش ابنُ أخيه بركةُ، وقبضَ عليه وسجنه في هذه السنة، وتملّك [مكانه] فمات في سنة ثلاث، فمَلَك بعده أبو المعالي قريش ابن بدران (ت 453هـ).. فذبح قرواش بن مقلَّد صبراً، وقيل بل مات في سجنه"؛ كما يخبرنا الذهبي في ‘العبر في خبر من غبر‘.
ويروي الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن الأمير قرواش هذا قصصا تكشف جانبا مما كان عليه كثير من سلاطين تلك العصور من استهانة بالمحرمات وفي صدارتها الدماء؛ فقال إنه "كان على سَنَن العرب (= الأعراب)، فورد أنّه جمع بين أختين فلاموه، فقال: خبِّروني ما الذي نستعمل من الشَّرع حتّى تتكلموا في هذا الأمر؟! وقال مرّةً: ما في رقبتي غير دمِ خمسةٍ أو ستةٍ من العرب قتلْتُهم، فأمّا [أهل] الحاضرة فما يعبأ اللَّه بهم"!! كما كان قرواش شاعرا بارعا، وقد حكم أبو سعد السمعاني -في ‘الأنساب‘- بأن "لشعره ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة"، ومن مُستجاد شعره:
للهِ دَرُّ النائبــــــــــاتِ فإنها * صدأُ اللـــئامِ وصَيْقَلُ الأحرارِ
مـا كنتُ إلا زُبْرَةً فَطَبَعْنَنِي * سَيْفاً وأطلقَ صرفُهُنَّ غِرارِي
نماذج أندلسية
وكما سادت في الشرق الإسلامي ظاهرةُ تصفية السلاطين جسديا بالموت البطيء في السجون بعد خلعهم، فإنها تكررت بصور شتى في مصر وعموم منطقة الغرب الإسلامي. فحين تفككت عُرَى الدولة الأموية بالأندلس نهائيا سنة 422هـ مفسحة المجال لبداية عصر "ملوك الطوائف" الذين توزعوا حواضر البلاد بالغلبة والاستيلاء؛ كانت العاصمة قرطبة والمناطق التبعة لها استثناء من ذلك، إذ حكمتها أسرة "آل جَهْوَر" -ذات الأصول الفارسية- بتراضٍ من أهلها.
ويحدثنا الذهبي -في ‘السِّيَر‘- أنه في سنة 435هـ مات الأمير المؤسس جهور بن محمد، فآلت السلطة إلى ابنه أبي الوليد محمد (ت 462هـ) "فحكم على قرطبة..، فقصده [المعتمد] بن عباد (اللخمي أمير أشبيلية المتوفى 488هـ) وقهره وأخذ البلد (منه سنة 462هـ)، ثم سجن أبا الوليد في حصن..، فبقي في سجن ابن عباد إلى أن مات". هذا رغم أن ابن جهور كان -ويا للمفارقة- استنجد بابن عباد لحماية مملكته من جاره المسلم الآخر ملك طليطلة المأمون بن ذي النون (ت 467هـ)!!
وما هما إلا عقدان ويلقى المعتمد بن عباد المصير نفسه الذي أذاقه لابن جهور. فحين قضى أمير دولة المرابطين يوسف بن تاشفين (ت 500هـ) على دويلات الطوائف في الأندلس سنة 484هـ، في تدخل المرابطين الثالث لإنقاذ الأندلس من اجتياحات القائد المسيحي ألفونسو السادس (ت 502هـ) المدمرة؛ قبض على المعتمد -وقد صار كبير ملوك الأندلس- بعد نقضه للطاعة ونكثه بالاتفاق المبرم بينه وبين المرابطين. وفي ذلك يقول المقّري التلمساني (ت 1041هـ) -في ‘نفح الطيب‘- إن ابن تاشفين "نقله إلى [بلدة] أغمات قُرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمئة، واعتقله هنالك إلى أن مات" في محبسه بعد أربع سنوات.
وقد روى لنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘ نقلا عن المؤرخ والعالم الأندلسي أبي يحيى إليسع بن حزم الغافقي الجياني (ت 575هـ)- ما يوضح جانبا من سياق المصير الذي آل إليه الملك ابن عباد؛ فقد خوّفه مستشاروه من الاستنجاد بالمرابطين (تدخلهم الثاني سنة 481هـ)؛ فأجابهم بأن "رَعْيَ الجمال [لابن تاشفين] خيرٌ من رَعْيَ الخنازير" لألفونسو! لكنه في آخر أمره تحالف مع المسيحيين ضد المرابطين –في تدخلهم الثالث والنهائي لإنقاذ الأندلس سنة 483هـ- فكان ذلك ذريعة لهم للإطاحة به وتقويض ملكه إلى الأبد.
وقد علق قاضي القضاة المؤرخ ابن خلكان (ت 681هـ) -في ‘وفيات الأعيان‘- على نهاية ابن عباد المؤلمة قائلا: "ومن النادر الغريب أنه نودي في جنازته بـ‘الصلاة على الغريب‘، بعد عِظَم سلطانه وجلالة شانه!! فتبارك من له البقاء والعزة والكبرياء"! وقبل ابن خلكان؛ كان ابن عباد نفسه أول من أدرك مأساته التي إليها آل حاله بعد زوال ملكه العريض، فقال في قصيدته الطنانة بمناسبة حلول أحد الأعياد:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا ** وكان عيدُك باللـــــذاتِ معمورا
وكنتَ تحسب أن العيدَ مَسْـــــعـَدةٌ ** فساءَكَ العيدُ في أغماتَ مأسورا
ترى بناتـِك في الأطــــمار جائعةً ** يَغْزِلْنَ للناس ما يَمْلِكْنَ قِـطميرا!
عادة مملوكية
وبالعودة لمنطقة المشرق الإسلامي؛ نجد أن الدولة الأيوبية (567-647هـ) -التي حكمت مصر والشام والحجاز واليمن- لم تكن استثناء من محيطها السياسي في آلية الوصول إلى السلطة، رغم التاريخ الجهادي العظيم لمؤسسها صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ). ولذلك رأينا هذه الظاهرة تتكرر مع عدد من أمرائها الصغار وأحد سلاطينها الكبار، وعلى رأسهم الملك العادل الثاني بن الكامل الأيوبي (ت 645هـ) الذي تولى سلطنة مصر بين عاميْ 635 و637هـ.
فقد اشتُهر العادل الثاني بتهوّره ولهوه وعدم تقديره للمسؤولية الملقاة على عاتقه، واستطاع أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ) القبض عليه وسجنه؛ ليرتقي خلفًا له إلى عرش السلطنة بمصر. يقول ملك حماة المؤيد الأيوبي (ت 732هـ) في تاريخه ‘المختصر في أخبار البشر‘: "وكان [العادل الثاني] مسجوناً من حين قُبض عليه ببلبيس إلى هذه الغاية (= سنة 645هـ)، فكان مدة مُقامه بالسجن نحو ثمان سنين، وكان عُمره [يوم مات في حبسه] نحو ثلاثين سنة".
وفي عصر المماليك (648–923هـ) -الذي تأسست السلطة فيه من أول يوم على جُرُفٍ هارٍ من القوة والصراع- برزت هذه الظاهرة على سطح الأحداث السياسية بجلاء تام، وذلك بالقبض على السلاطين الضعفاء وسجنهم وقتلهم فيها.
فقد كان السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير (ت 709هـ) من جملة قتلى السجون؛ وسبب ذلك اضطهاده للسلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ) في سلطنة الأخير الثانية (698–708هـ)، حتى إنه اضطره إلى الخروج من مصر إلى الكَرَك -التي تقع اليوم جنوبي الأردن- يشتكي إلى الأمراء الموالين له في الشام ما "كان فيه من ضيق اليد وقلة الحُرمة، وأنه لأجل هذا ترك مُلك مصر وقنع بالإقامة في الكرَك"؛ حسبما يذكره المقريزي في ‘السلوك لمعرفة دول الملوك‘.
أعلن بيبرس الجاشنكير -بتأييد من أمراء المماليك بمصر- توليه السلطنة، لكن الناصر قلاوون عاد -بعد أقل من سنة- مسنودا بدعم عارم من أمراء الشام، فدخل مصر وقبض على الجاشنكير فأودعه في سجن البرج الكبير بقلعة الجبل في القاهرة. ويصف المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) -في ‘النجوم الزاهرة‘- لحظات نهاية السلطان الجاشنكير -وهو مخلوع مودَع في السجن- قائلا: "جاء السلطانُ الملك الناصرُ [إلى السجن] فخنق [بيبرس] بين يديه بـِوَتَرِ [قوْسٍ] حتى كاد يتلف، ثم سيَّبه حتى أفاق وعنّفه وزاد في شتمه، ثم خنقه ثانيا حتى مات"، فكان ثأره منه تعذيبًا وقتلا!!
نكبة عائلية
ولئن قـَتل الناصر قلاوون خصمَه الجاشنكير؛ فإن المصير ذاته آل إليه بعض ولده من بعده، وأولهم السلطان المنصور أبو بكر بن محمـد بن قلاوون (ت 742هـ). فقد ارتقى المنصور هذا سدة العرش بوصية من أبيه عند وفاته سنة 741هـ، ولكن حكمه لم يطُل نظرا لصغر سنه إذ كان في العشرين من عمره، ولتنازع الأمراء من حوله واستخدامهم له في الصراع على النفوذ والإقطاع، ثم إنه كان منهمِكا في "اللهو وشرب الخمور وسماع الملاهي، فشق ذلك على الأمير قوصون (الساقي الناصري المتوفى 742هـ) وغيره لأنه لم يُعْهَد مِن مَلِك قبْلَه شُربُ خمرٍ"؛ كما يقول المقريزي (ت 845هـ) في ‘السلوك‘.
حاصر الأميرُ قوصون الناصري -الذي كان حينها أحدَ كبار الأمراء ومدبرَ الدولة بوصية من الناصر قلاوون- السلطانَ المنصور في قلعة الجبل بالقاهرة، ولما أيقن الجميع بقوة قوصون ومساندة الأمراء له صدر القرار بنفي المنصور إلى مدينة قوص في صعيد مصر تحت "الترسيم" أي الإقامة الجبرية، وبعدة مدة قليلة صدر قرار التخلص منه وهو في سجنه. ويقول ابن تغري بردي -في ‘النجوم الزاهرة‘- إنه "دَسَّ عليه قوصون [الأميرَ] عبد المؤمن متوليّ قوص؛ فقتله [بمقرّ إقامته الجبرية] وحمل رأسه إلى قوصون سرّا..، وكتموا ذلك عن الناس". وكان هدف قوصون من ذلك القضاء على منافسه السلطان المخلوع مخافة أن يرجع إلى عرشه من جديد!
واللافت أن قوصون -الذي صار مدبرَ أمر السلطنة وقائد الجيش فيها- عَيّن طفلا صغيرًا من أطفال الناصر قلاوون اسمه كُجُك (ت 746هـ) سلطانا يلقب بـ"الأشرف" وهو لا يزال في السابعة من عُمره، وبذلك أضحى الأمير قوصون السلطان الحقيقي للبلاد فـ"سكن بدار النيابة التي بالقلعة، وتصرّف في أمور المملكة بما يختار"؛ وفقا لتعبير ابن إياس الحنفي (ت 930هـ) في ‘بدائع الزهور‘. وقد عبر أحد شعراء مصر حينها -كما يرويه ابن تغري بردي في ‘النجوم الزاهرة‘- عن هذا الواقع المضحك المبكي بقوله:
سلطانـُنا اليومَ طفلٌ والأكابرُ في ** خـُلْفٍ، وبينَهم الشيــطانُ قد نـَـزَغا
فكيف يَطمع من تــُـغْشيه مَظلمةٌ ** أنْ يَبلُغَ السُّؤْلَ والسلطانُ ما بلغا؟!
وبعد تمكنه من السلطة؛ عمل قوصون على إقصاء واضطهاد منافسيه من كبار الأمراء والقبض عليهم، ولذلك قرروا الانتقام منه فحاصروه في القلعة وقبضوا عليه وأرسلوه إلى سجن الإسكندرية شمالي مصر. ويقول ابن تغري بردي إن قوصون "استمرّ.. بسِجن الإسكندرية.. حتى حضر الملك الناصر أحمد [ابن قلاوون (ت 745هـ)] من الكَرَك، وجلس على كرسي المُلك بقلعة الجبل…، واتّفق آراء الأمراء على قتل قوصون فجهّزوا لقتله [الأمير الشامي] شهاب الدين أحمد بن صُبح (الكردي المتوفى بعد 759هـ) إلى الإسكندريّة فتوجّه إليها وخنق قوصون [في سجنه]" حتى مات.
وبمقتله على تلك الحالة؛ شرب قوصون من كأس الاغتيال التي سقى منها غيره، كما شرب منها بعده الناصر أحمد حين عزله المماليك ونصبوا مكانه السلطان الصالح إسماعيل ابن قلاوون (ت 746هـ)، الذي جند جيوشا لمحاصرته بالكرك سنتين فقبضوا عليه وسجنوه، ثم أرسل من احتزّ له رأسه هناك وجاء به إليه وهو في القاهرة!
بل إن السلطان الأشرف كُجُك -وهو ذلك الطفل الذي وافق اسمُه مسمّاه (كُجُك küçük بالتركية معناها: صغير) فلم يكن يدرك ولا يعلم ما يجري حوله!- قرر الأمراء الكبار خلعه، فعزلوه ووضعوه تحت الإقامة الجبرية في "الدُّور السلطانية تحت كنف والدته، وهو ووالدته في ذُلّ وصَغار وهوان" داخل قلعة الجبل، وظل بها حتى قرر السلطان الكامل شعبان (ت 747هـ) التخلص منه بعد أربع سنوات من تلك الإقامة الجبرية. ويقول المقريزي -في ‘السلوك‘- إن كُجُك مات "عن اثنتي عشرة سنة، واتُّهِم السلطان [الكامل] [بـ]ـأنه بعث مَن قتله في مضجعه على يد أربعة خُدّام". ولم يكن التخلص من هذا السلطان المخلوع -وهو لم يبلغ الحُلم- إلا خوفًا على العرش!!
إرث مستمر
وحين انتصر العثمانيون على المماليك في معركتيْ مرج دابق شمال حَلب سنة 922هـ ثم الريدانية بالقاهرة في العام التالي 923هـ، بعد سلسلة من معارك الفر والكر؛ سقط السلطان المملوكي الأخير طومان باي (ت 923هـ) في الأسْر، وتوجّهوا به إلى السلطان العثماني سليم شاه الأول (ت 926هـ) الذي أمر بسجنه في "خيمة، فأقام بها وأحاط به الإنكشارية بالسيوف لأجل الحفظ"؛ كما يذكر ابن إياس في ‘بدائع الزهور‘، وهو المؤرخ الشاهد على أحداث تلك المرحلة الفاصلة. ثم أنزِلت بطومان باي عقوبة الإعدام خلال نحو ثلاثة أسابيع من أسره، ليكون بذلك آخر سلاطين المماليك وتتبع مصر للعثمانيين -حقيقة أو شكلا- منذ ذلك التاريخ (923هـ/ 1517م) وحتى إعلانها سلطنة مستقلة سنة 1914م.
وحين استولت البحرية العثمانية بقيادة سنان باشا (ت 1004هـ) على تونس سنة 981هـ، وطردوا منها الاحتلال الإسباني الذي خضع له نفرٌ من آخر سلاطين الحفصيين؛ كان "مصير محمـد بن الحسن الحفصي [-وهو آخر سلطان حفصي- أنْ] حملَه معه سِنان باشا إلى إسطنبول، واعتُقل هناك خشية فِراره واستنجاده بالإسبان مرّة أخرى، وظلَّ في اعتقاله هناك إلى وفاته"؛ كما يقول محمد العروسي المطوي في كتابه ‘السلطنة الحفصية‘.
ولقد شهدت الدولة العثمانية ذاتها أحداثًا مشابهة مثلما وقع مع السلطان عثمان الثاني (ت 1031هـ)؛ فقد حاول هذا السلطان الشاب أن يُدخل في بنية الدولة إصلاحات جذرية أملتها الضرورة حينذاك، بما فيها إقامة نظام عسكري جديد تكون نواته فرقة عسكرية من غير جنود الإنكشارية الذين أصبحوا عبئا على الدولة، وتقاعسوا عن أداء واجبهم في بعض الحملات العسكرية.
لكن الإنكشارية عرفوا بالأمر فحاصروا عثمان الثاني، وفي نهاية الأمر أخذوه "من أورطة (= ثُكنة) جامع في السليمانية وتوجهوا به إلى [سجن] يدي كولة (= الأبراج السبعة Yedi kule)، وهناك حمل عليه عشرة جلادين، ورغم أنه كان أعزل [فقد] قتل ثلاثة منهم، ثم قُتل خنقًا بخيط من حرير، وذلك مساء يوم 22 مايو/أيار [1622م]"؛ وفقا لما أورده يلماز أوزتونا في ‘تاريخ الدولة العثمانية‘. ونصب الإنكشارية من بعده عمه السلطان مصطفى الأول (ت 1049هـ) -الذي عُرف بالجنون والخرف- مما أتاح لهم أن يحكموا من وراء ستار إلى حين.
بين رؤيتين
وفي ختام هذا الرصد التاريخي لظاهرة قتل الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء في سجونهم وإقاماتهم الجبرية، إما بالفعل المباشر أو بالإهمال ليعانوا موتا "طبيعيا" بطيئا؛ يمكننا أن نرى -في استمرارية هذه الظاهرة المؤلمة التي وقفنا على بعض نماذجها الشهيرة دون استقصاء مستوعِب- سيادةً لمبدأ القوة وهيمنته المطلقة على مبدأ احترام الشرعية الدستورية للأمة، في جميع أنحاء الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي، وعبر هذا التاريخ الطويل الذي بدأ مع الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ض) وحتى نهايات عصر العثمانيين. كما نستطيع رؤية أن مصير كثير من هؤلاء السلطين إنما كان "جزاءً وفاقا" لما فعلوه هم بسلاطين آخرين خلعوهم بالقوة واحتلوا السلطة بعدهم إلى حين!
ورغم ترسخ هذه الظاهرة الغريبة؛ فإنه جدير بالذكر الإشارة إلى أن هؤلاء السلاطين -سواء الغالب منهم والمغلوب- ظلوا حتى نهاية عصر العثمانيين يحكمون في دول خاضعة -ولو شكليا- لشريعة الإسلام ونظمها ومقاصدها العليا، ومُقرّين لمبدأ التقاضي إليها، ومشاركة النخبة المدنية من الفقهاء في الحكم وإدارة المؤسسات العلمية والتعليمية والعدلية، وإن اعتُبر قبول "التغلب" أمرًا أملته ضرورة احتكام ذوي السلطة إلى القوة فإنه لم يُسلَّم فقهاً بصوابيته من حيث المبدأ؛ وهو ما يباين القطيعة الكبيرة مع الإقرار بالمرجعية الحصرية لأحكام الإسلام في الدولة الحديثة.
والحق أن النخبة المدنية من الفقهاء والعلماء كانت شاهدة على تلك الأحداث في عصر المماليك وما سبقه ولحقه من عهود سادتها الانقلابات العسكرية المسماة بلغة الفقهاء "التغلب" و"الاستيلاء". ويبدو أن الفقه السياسي في تلك الأزمنة اتخذ -في مساره الأعم- منحىً شديد الواقعية عبّر عنه قاضي القضاة في مصر بدر الدين ابن جماعة الشافعي (ت 733هـ) -في عبارة واضحة- حين رأى "شرعية اضطرارية" لمنطق التغلب في صورته المملوكية، وذلك بقوله -في كتابه ‘تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام‘- إنه "إذا انعقدَت الإمامةُ بالشوكة والغلبة لواحدٍ ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده، انعزل الأول وصار الثاني إمامًا؛ لما قدّمنا من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم".
على أنه ظل يوجد في صفوف العلماء من يرفض شرعية "الأمر الواقع" لسلاطين التغلب، مهما قال بها بعضهم وخضع له الناس ضعفا و"ارتكابا لأخف الضررين"؛ فهذا الإمام الزمخشري الحنفي (ت 538هـ) يسمّي هؤلاء السلاطين "اللصوص المتغلبة"، ويقول عنهم في تفسيره ‘الكشاف‘: "لمّا أمَرَ [الله] الولاةَ بأداء الأمانات إلى أهلها وأن يحكموا بالعدل، أمر الناس بأن يطيعوهم وينزلوا على قضاياهم…، والمراد بـ«أولي الأمر» منكم: أمراء الحق.. كالخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان…، وأمراء الجور لا يؤدون أمانة ولا يحكمون بعدل..، إنما يتبعون شهواتهم..، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحقُّ أسمائهم: اللصوصُ المتغلبة"!!
المصدر : الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق