استنزاف وخسائر وتدمير لسمعة الجيش..
مخاطر وسيناريوهات التورط المصري في ليبيا
قبل أيام ألقى الجنرال عبدالفتاح السيسي خطاباً متشنجاً ومتوتراً من المنطقة العسكرية الغربية بمدينة سيدي برّاني القريبة من الحدود الغربية مع ليبيا، هدّد فيه بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا وذلك إذا ما تقدّمت قوات حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السرّاج باتجاه مدينة سرت وقاعدة الجفرة العسكرية، واللتين اعتبرهما السيسي خطاً أحمر لا يجب تجاوزه. ولعلها المرة الأولى التي يهدّد فيها السيسي صراحة بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا، وذلك من أجل حماية الأمن القومي المصري والعربي حسب ادعائه.
لفهم خلفية تصريحات السيسي الأخيرة يجب ربطها بعدة أمور؛ الأمر الأول يتعلق بالانهيار العسكري لقوات وميليشيات أمير الحرب اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حليف السيسي، والمرتزقة الروس المتحالفة معه، أمام قوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والمدعومة من الأمم المتحدة، وفشل الحملة العسكرية التي قادها حفتر على طرابلس منذ أبريل/نيسان عام ٢٠١٩. فقد نجحت قوات حكومة الوفاق، بدعم من تركيا، بقلب الطاولة على حفتر وتحرير طرابلس وغيرها من مدن الغرب الليبي المهمة مثل ترهونة وبني وليد، فضلاً عن السيطرة على قاعدة الوطية العسكرية التي كانت تنطلق منها الضربات الجوية لقوات حفتر على العاصمة طرابلس طيلة العام الماضي. والأمر الثاني هو الدور التركي في ليبيا والذي يراه السيسي تهديداً استراتيجياً ليس بالضرورة لمصر وإنما لنظامه السياسي بالأساس. فالدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق قلب المعادلة على الأرض وساهم في تحقيق التفوق العسكري لقواتها على حساب قوات حفتر. ومن الواضح أن أنقرة ترى ليبيا كمنطقة نفوذ جديدة لها في شمال إفريقيا، لذا فإن رؤيتها تقوم على تطوير شراكة استراتيجية واقتصادية طويلة المدى تتجاوز الصراع الحالي. وليس أدل على ذلك من زيارة وفد تركي رفيع المستوى إلى ليبيا ضم وزيري الخارجية مولود جاويش أوغلو والمالية براءت البيرق، ومدير المخابرات هاكان فيدان، والمتحدث باسم الرئاسة إبراهيم قالن. أما الأمر الثالث فهو الخوف من الإسلام السياسي الذي يمثل عقدة ورهاباً شخصياً للسيسي الذي جاء للسلطة بعد انقلاب على حكم جماعة الإخوان المسلمين عام ٢٠١٣. حيث يخشى السيسي أن تؤدي انتصارات حكومة الوفاق إلى تقوية تيار الإسلام السياسي ليس فقط في ليبيا، وإنما أيضاً في المنطقة. وأخيراً، رغبة السيسي في الحفاظ على التحالف الاستراتيجي مع الإمارات وذلك من خلال رعاية مصالحها هناك وهي التي تعتبر ليبيا إحدى مناطق نفوذها المتزايد في المنطقة.
كيف يرى السيسي الأمن القومي؟
يدّعي السيسي أن التدخل العسكري في ليبيا هو بهدف حماية الأمن القومي المصري والعربي. ولكن ثمة خلل كبير في رؤية السيسي لهذه المسألة. صحيح أن مصر لديها أطول حدود برية مع ليبيا، والتي تتجاوز ألف كلم، إلا أن هذه الأخيرة لم تكن يوماً مصدراً مهدداً للأمن القومي المصري، وذلك باستثناء ما حدث في عهد السادات من مناوشات عسكرية مع نظام العقيد معمر القذافي في يوليو/تموز عام ١٩٧٧ نتيجة لاعتراض الأخير على رؤية السادات بالنسبة للسلام مع إسرائيل. بل على العكس، تعد الحدود الغربية لمصر من أكثر الحدود أماناً مقارنة بالأخطار القادمة من الحدود الشرقية والجنوبية. فالأولى كانت، ولا تزال، تمثل شوكة في خصر الدولة المركزية المصرية. وقد كانت هذه الحدود هي بوابة الغزو والاحتلال الأجنبي لمصر وكان آخرها الاحتلال الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء عام ١٩٦٧. كما أن التهديدات الحالية من الجماعات والتنظيمات المتطرفة مثل تنظيم ولاية سيناء تمثل خطراً وجودياً على الأمن والاستقرار في مصر. وحتى الآن فشل الجيش المصري في إخماد التمرد الذي تقوم به هذه التنظيمات رغم الإمكانيات العسكرية الكبيرة التي يتمتع بها. أما الحدود الجنوبية فتشهد توترات بين الفينة والأخرى مع السودان بسبب الخلاف حول مثلث حلايب وشلاتين. من ناحية أخرى، فإن أكبر خطر وجودي تواجهه مصر حالياً يأتي من الجنوب، وذلك فيما يتعلق بسد النهضة الإثيوبي والذي سوف يؤثر ملؤه وتشغيله في شهر يوليو/تموز المقبل، وتأثير ذلك على شريان الحياة في مصر وهو نهر النيل.
وهنا يتضح الفرق بين الأمن القومي لمصر، كدولة وشعب، والأمن الخاص بالنظام السياسي الذي يقوده السيسي. فالتهديدات في سيناء خاصة من الجماعات والتنظيمات المتطرفة، والمخاطر التي تحيط بمياه نهر النيل هي تهديدات حقيقية وجدّية بالنسبة لمصر. بينما التهديد المحتمل القادم من الحدود الغربية فهو مرتبط فقط بمخاوف السيسي على نظامه وبقائه في السلطة. لذا لم يكن غريباً أن يقارن كثير من المصريين، باستغراب، بين خطاب السيسي الخشن والمتوتر بخصوص احتمالات التدخل العسكري في ليبيا، وضعفه وتردده فيما يخص ملف سد النهضة ومياه النيل. لذا يحاول السيسي إعادة تعريف الأمن القومي حسب هواه ومصالحه وليس حسب مصالح الشعب المصري.
هل سيتورط السيسي في ليبيا بشكل مباشر؟
من الصعب تصديق أن نظام السيسي غير متورط بشكل أو بآخر في ليبيا. فمنذ ظهور حفتر على الساحة الليبية وسيطرته على مدينة بنغازي في شرق ليبيا، والسيسي، ومن خلفه الإمارات والسعودية، يدعمونه بشكل كبير سواء عسكرياً أو دبلوماسياً أو مادياً أو لوجيستياً. وثمة مصالح مشتركة بين ثلاثي الثورة المضادة (السيسي وبن زايد وبن سلمان) في تحطيم التجربة السياسية في ليبيا وذلك من أجل استئصال تيار الإسلام السياسي وذلك على الرغم من عدم تأثيره الكبير في ليبيا. فهناك العديد من التقارير الصحفية التي تتحدث عن الدعم اللوجيستي الذي قدمه الجيش المصري لقوات وميليشيات حفتر من حيث التدريب والتأهيل سواء في القاهرة أو في القاعدة العسكرية المصرية على الحدود الغربية مع ليبيا. كذلك تتحدث بعض التقارير عن وجود أسلحة مصرية سواء دبابات أو مدفعية أو طائرات في صفوف ميليشيات حفتر. لذا فإن إعلان السيسي بالتدخل العسكري في ليبيا ما هو إلا تأكيد لواقع موجود بالفعل وليس استحداثاً له. وحسب بعض التقارير فإن الخطاب المصري الجديد بشأن ليبيا يستهدف "تغييرات عدة في طريقة التعامل مع الملف والمساهمة في فرض واقع جديد على الأرض، منها شرعنة وإعلان الضربات الجوية التي كانت تشنها مصر والمساعدات العسكرية التي كانت تقدمها لميليشيات شرق ليبيا طوال الأعوام الثلاثة الماضية والتمهيد لتكثيفها خلال الفترة المقبلة. كذلك تشير هذه التقارير إلى أن الهدف من خطاب السيسي هو "تكثيف الدعم العسكري المتوقع لقوات حفتر وذلك من دون التورط في التدخل البري، وذلك بهدف تأمين المنطقة الممتدة من الحدود إلى محور سرت-الجفرة كمنطقة عازلة لا تدخلها قوات الوفاق أو تركيا إلى حين انتهاء الصراع في ليبيا، وبالتالي ضمان مشاركة مصر مع غيرها من الدول التي تسعى إلى تقاسم السيطرة على ليبيا المستقبل وجهود إعادة الإعمار، وعدم ترك المنطقة الشرقية لروسيا والقوى الغربية التي ظهرت نياتها في وقائع سابقة، ولا سيما بُعيد مؤتمر برلين، لاستنساخ النموذج السوري في ليبيا، وأنها لا تمانع التنسيق مع تركيا على هذا الأساس، وبالتالي لن تقبل مصر خروجها من المعادلة بهذه الصورة".
مخاطر التورط العسكري في ليبيا
ثمة مخاطر عديدة للتدخل العسكري المصري المباشر في العمق الليبي خاصة في منطقتي سرت والجفرة. فمن جهة قد يؤدي ذلك إلى تورط طويل المدى للجيش المصري قد ينتج عنه خسائر عسكرية وفي الأرواح، مما قد يهدّد تماسك نظام السيسي داخلياً. ومن جهة ثانية، لا يمكن للجيش المصري خوض معركتين في آن واحد، إحداهما في الشرق في مواجهة تنظيم "ولاية سيناء" والثانية في الغرب بليبيا. مما قد يؤدي إلى استنزافه بشكل كبير. ومن جهة ثالثة، ستكون هذه هي المرة الأولي في تاريخ العسكرية المصرية أن يقاتل جنود مصريون إلى جانب ميليشيات وقوات مرتزقة من روسيا والسودان وتشاد. وهو من شأنه الضرر بسمعة الجيش المصري على المدى الطويل. ومن جهة رابعة، سوف يتم استنزاف القوات المصرية من خلال الانخراط في حرب أهلية ليبية معقدة وقد يقع ضحايا كثيرون نتيجة لهذه الحرب وذلك على غرار ما حدث مع التدخل العسكري المصري في اليمن أوائل الستينيات. وأخيراً، سوف يدخل السيسي في صدام مباشر مع حكومة الوفاق ومن يدعمها خاصة تركيا. وبذلك يفقد مصداقيته الكاملة باعتباره وسيطاً بين الفرقاء الليبيين في أية عملية سياسية مستقبلية.
سيناريوهات التدخل العسكري المصري في ليبيا
بالرغم مما سبق، من الصعب توقع حدوث تدخل عسكري مصري في ليبيا خاصة في منطقتي الوسط والغرب من خلال إرسال قوات وحشود عسكرية هناك وذلك لأسباب عديدة منها مخاطر التدخل غير المحسوب في العمق الليبي (في سرت والجفرة)
لذا فإن سيناريوهات التدخل العسكري المصري في ليبيا تتراوح بين ثلاثة سيناريوهات: الأول هو تنفيذ ضربات جوية سريعة خاصة في منطقة سرت والجفرة بحيث يمنع سيطرة قوات الوفاق على هاتين المنطقتين الاستراتيجيتين. وهذا ما حدث بالفعل خلال الأسابيع الماضية حيث عطلت القوات الجوية المصرية عبر طلعات لطائرات "رافال" تقدّم القوات ودمرت عدداً من الآليات العسكرية وذلك حسب بعض التقارير الإخبارية. وهذا السيناريو هو الأقرب للواقع. أما السيناريو الثاني فهو تقديم دعم عسكري خاصة على مستوى الدفاع الجوي لقوات حفتر بحيث تتم تقوية خطوط دفاعاتها في مواجهة قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا وبحيث يتم تثبيت الوضع الراهن في سرت والجفرة. والسيناريو الثالث هو تسليح أبناء القبائل الليبية وإعدادهم عسكرياً بحيث يتم تشكل فرق عسكرية منهم تكون نواة لجيش موالٍ لمصر، ودعمهم بحيث يخوضون الحرب في مواجهة قوات حكومة الوفاق. وهذا ما دعا إليه السيسي صراحة في خطابه قبل أيام.
في ضوء ما سبق، فلن يُقدم السيسي على التورط الثقيل في ليبيا مهما حدث، وإنما سوف يستخدم التهديد بذلك من أجل ضمان الحصول على مقعد على طاولة التفاوض بشأن مستقبل ليبيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق