الاثنين، 15 يونيو 2020

نظرات وعبرات العالقون.. دموع بلا ألوان

نظرات وعبرات

 العالقون.. دموع بلا ألوان


محمود عبد الهادي
العالقون“ مصطلح جديد من المصطلحات التي أوجدها فيروس كورونا، يضاف إلى قائمة مصطلحات ”النازحين“ و“المهاجرين“ و“اللاجئين“ و“المشردين“…، ولكنه للأسف لم يدرج بعد في اتفاقيات الأمم المتحدة وقوانين حقوق الإنسان، ولم تنتبه منظمات حقوق الإنسان لهم بعد، ربما لأن مأساتهم لا تصل إلى مأساة الأصناف الأخرى، أو لأنهم لا يستطيعون أن يرفعوا أصواتهم عالياً أمام كاميرات الإعلام، خوفاً على ذويهم أو وظائفهم ولقمة عيشهم.
لم يكن في الحسبان



المطارات كعادتها تعج بالبشر من الموظفين والعاملين والمسافرين والقادمين، ومن المودعين والمستقبلين، لا يعكر صفوها شيء. على باب صالة الدخول، نظرت (س.م.ل) بعينين متوسلتين ينهمر الدمع منهما كالسيل، وهي تودع زوجها: ”أرجوك، انتبه للأولاد، أعرف أن عملك يستغرق منك وقتاً طويلاً، وأن متابعة الأولاد شاقة، لكنني لن أتأخر إن شاء الله، ولولا مرض أبي لما سافرت، من يدري لعلي لا أراه بعدها مرة أخرى… أرجوك، ثلاثة أيام فقط وستجدني بينكم من جديد".



(ع.ع.أ) الذي جاوز الخمسين، يمشي بخطى متثاقلة في طريقه إلى صالة المغادرة، متأبطاً ذراع زوجته التي لا تكف عن الابتسام والتسبيح، تنظر إليه من حين لآخر، وتعاود تكرار العبارات نفسها: ”لا تقلق يا أبا مهدي، إن شاء الله تنتهي العملية على خير وترجع بسلامة الله وأنت بصحة جيدة، وقد زالت عنك جميع الأوجاع. لا تنشغل على الأولاد والبنات، أختهم الكبيرة سارة عمرها ١٢ سنة، وستهتم بهم كما يجب. الحمد لله إن الشركة وافقت على الإجازة المرضية دون أن يخصموها من راتبك، ولولا أن هذا النوع من العمليات غير موجود هنا لما سافرنا وتركنا الأولاد وتحملنا مشقة السفر“.


شدّ (م.ق.و) الحزام على وسطه، استعداداً للإقلاع، وهو يختم حديثه على الموبايل وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة قائلاً: ”هيا بابا، يجب أن أنهي المكالمة لأن الطائرة ستقلع الآن، وإن شاء الله سأشتري لك كل الأشياء التي طلبتها، ستكون عندك نهاية الأسبوع، هيا أعطني قبلة وقل إلى اللقاء“.


الآلاف من الناس، مثل (س.م.ل) و(ع.ع.أ) و(م.ق.و) كانت تعج بهم المطارات بداية شهر مارس/ آذار الماضي، أو كانوا قد سافروا بالفعل، على أمل العودة بعد يومين أو أسبوع أو أسبوعين، لحين قضاء المهمة التي سافروا من أجلها، وقد تركوا وراءهم، نساءهم أو أزواجهم وأطفالهم وأعمالهم وتجارتهم ومصالحهم، وأشواقهم، ولم يدر بخلدهم البتة، أن أمراً ما ينتظرهم لم يكن في حسبانهم، وأن ترتيباتهم ووعودهم والتزاماتهم لن تتم على نحو ما خططوا له، حين بدأت الدول في إغلاق مطاراتها وأجوائها وحدودها، ضمن سلسلة الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها للحد من انتشار وباء كورونا، وقامت الدول بتسيير رحلات خاصة لإعادة مواطنيها إليها من الدول التي يتواجدون فيها، أما المقيمون فيها فستعلّق عودتهم إلى إشعار آخر، وهكذا صار هؤلاء المقيمون (عالقين).


قرار تعسفي جائر


ورغم قسوة الخبر على العالقين، إلا أنهم ظنوا بادئ الأمر، أن هذه الدول قررت ذلك كإجراءات تنظيمية لإعطاء الأولوية في العودة لمواطنيها، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أن الأمر ليس تنظيمياً، وإنما هو قرار حاسم تم اتخاذه من قبل اللجان المختصة المسؤولة عن تحديد الإجراءات الاحترازية لمواجهة الوباء، فألغيت تذاكر عودتهم، وأغلقت في وجوههم مكاتب الطيران، ولم يسمعوا من الجهات القنصلية المختصة للدول التي يقيمون فيها سوى عبارات جافة تخبرهم بأن هذه القرارات جاءتهم من السلطات العليا، وأنهم لا يستطيعون مساعدتهم بشيء، وأن عليهم الانتظار لحين صدور قرار آخر يسمح لهم بالعودة.


لقد كان قراراً تعسفياً جائراً بكل معنى الكلمة، ولا يستند على أي أسباب عملية أو منطقية تقتضي خلق مأساة لعشرات الآلاف من البشر دون أي مبرر. لم يفكر متخذو القرار في الفترة التي سيقضيها هؤلاء العالقون في الدول التي علقوا فيها، وكيف سيدبرون أمر وجودهم فيها لمدة طويلة، ولا بالنفقات المالية المترتبة على ذلك، ولا بالضغوط النفسية التي وضعوهم تحتها، ولا بعائلاتهم وظروفها، ولا بوظائفهم التي سيفقدونها، وأعمالهم التي سيخسرونها


تأخير عودة المقيمين إلى بلدان إقامتهم قرار في منتهى القسوة والظلم واللامبالاة بمعاناة عشرات الآلاف، دون تهديد صحي أو غير صحي يشكلونه على أمن الدولة وسلامة ساكنيها


هؤلاء العالقون يحملون، إقامة سارية المفعول في الدول التي يقيمون فيها، وتركوا فيها أعمالهم وعائلاتهم، وهم لا يختلفون عن المواطنين في شيء من الناحية الصحية، ومن حيث علاقتهم بالفيروس
فكما أن المقيم يمكن أن يكون مصاباً، فإن المواطن معرض لذلك أيضاً
وكما أن المواطن فرض عليه الحجر الصحي المنزلي عند عودته إلى بلده، فإن المقيم ملزم بهذا الحجر كذلك..
وكما أن الدول رفعت شعار (خليك بالبيت) وصار الجميع يزاولون أعمالهم من بيوتهم بعد أن فُرض عليهم الحجر المنزلي، فلا يوجد ما يمنع من خضوع المقيمين العالقين لذلك، ليكونوا في بيوتهم ومع أسرهم، بدلاً من الفنادق والقلق والانتظار.. 


وإذا كانت الدول تجري فحوصاً على الجميع، فلتجرِ الفحص على العالقين قبل دخول الدولة للتأكد من سلامتهم الصحية، وحتى مطالبة كل منهم عند السفر بتقديم شهادة طبية معتمدة بأنه لا يحمل الفيروس.

المواطنون لهم دولة مسؤولة عن أمنهم ومعاشهم وصحتهم، والعالقون يخضعون لمسؤولية هذه الدولة ما داموا يقيمون فيها وفقاً للنظام والقانون، فكيف إذا كانت بيوتهم وأسرهم ومصالحهم موجودة فيها.
كثيرة هي الإجراءات التي يمكن للدول القيام بها لضمان سلامة العالقين وخلوهم من أي شبهة صحية قد تهدد سكانها، لكن أن يكون القرار على هذا النحو، فهو منتهى القسوة والتعسف والإجحاف والغبن واللامبالاة بمعاناة عشرات الآلاف من العالقين وذويهم، دون تهديد صحي أو غير صحي يشكلونه على أمن الدولة وسلامة ساكنيها.
الفيروسات لا تميز بين مواطن ومقيم


ظن العالقون أن الأمر سينتهي في غضون أسبوع أو أسبوعين، وسرعان ما يعودون إلى أسرهم وأعمالهم، ولكن الأسبوع جرّ وراءه آخر، والشهر صار شهرين وثلاثة، وقد يجر وراءه ما لا يعلمه إلا الله، وكلهم في ترقب مستمر. بعض الدول سمحت لبعض الحالات الإنسانية المؤلمة بالعودة الاستثنائية، وبعضها سمح بالعودة لأصحاب مهن معينة فقط، وبعضها سمح لهم بالعودة وفقاً لجدولة معينة قامت بها، وبعضها يرفض عودتهم تماماً، وبعضها حدد تواريخ متأخرة لعودتهم، وبعضها لم يحدد لهم موعداً حتى الآن.


إن إثارة موضوع العالقين، ليس تقليلاً من دور السلطة ومسؤوليتها في الحفاظ على الدولة وسلامة سكانها، ولكن طمعاً في إعادة النظر في القرارات التي صنعت -دون قصد- مأساتهم ومعاناتهم وشكواهم ودموعهم التي ما زالت تجري بلا ألوان، لا يذكرهم لسان، ولا يأبه لشأنهم مسؤول.


ربما غاب عن هذه الدول أن الفيروسات لا تميز بين مواطن ومقيم. 

ربما غاب عن اللجان المختصة التي قررت بشأن العالقين، أنهم لا يشكلون أدنى تهديد صحي أو أمني على الدولة وساكنيها.

وربما غاب عنهم أن هناك خيارات أخرى بالإمكان اتخاذها لتنظيم عودة العالقين غير بقائهم خارج دولة إقامتهم، بعيداً عن أسرهم وأعمالهم. ولكن المؤكد أن اللجان المختصة كانت منشغلة جداً بحماية الدولة ووقاية سكانها من خطر الفيروس، ولم تتعامل مع موضوع العالقين باعتبارهم ليسوا بشراً، أو أنهم بشر من درجة أدنى.
مرة تلو أخرى تتكرر الأحداث التي تعزز الدولة القُطرية (الحدودية) في الوطن العربي، وتكرس التمييز العنصري بين دوله على أساس تلك الهوية القُطرية، دونما اعتبار لكافة المشتركات التي تربط بين الدول العربية وبين أبنائها، أو الثمن الكبير المادي والمعنوي الذي يدفعونه بسبب هذه الأحداث، ودونما اعتبار لأثر هذا التعزيز والتكريس في تعميق الفجوة وزيادة الشرخ بين الدول العربية، وفي سد الباب أمام جهود المصالحة ونداءات التقارب والتكامل وإعادة البناء، ودونما اعتبار -وهو الأمر الأشد وطأة- لما يتسبب فيه ذلك من فتح الباب واسعاً لأعداء الأمة للانفراد بدولها، وبسط هيمنتها عليها، ونهب ثرواتها، وتحريض بعضها على بعض.

زوبعة كورونا ثارت وتوشك على الانتهاء، وحتى الآن لم نشهد أي حراك عربي مشترك، يبحث في الأسباب، وإجراءات الوقاية، وتبادل الخبرات، وتقديم الدعم. إنها اللوحة الكئيبة التي نمر عليها من حين لآخر، تسخر منا بشراهة، وتزيدنا فرقة وتمزيقاً، وتملؤ أنفاسنا يأساً وشجوناً، أليس هذا مخجلاً؟!.


إن إثارة موضوع العالقين وإعطائه هذه الأهمية، ليس تقليلاً من دور السلطة ومسؤوليتها في الحفاظ على الدولة وسلامة سكانها، ولا تقليلاً من جهود الجهات المختصة ودورها في تحقيق ذلك، ولكن طمعاً في إعادة النظر في القرارات التي صنعت -دون قصد- مأساة هؤلاء العالقين ومعاناتهم وشكواهم ودموعهم التي تجري حتى الآن بلا ألوان، بعد أن غاب عنها الفرح وجف منها الابتسام والطمأنينة، لا يذكرهم لسان، ولا يأبه لشأنهم مسؤول يستعجل في إيقاف معاناتهم، ويرفع عنهم ما لحق بهم من قسوة شقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق