الجمعة، 19 يونيو 2020

في محرقة الترند

في محرقة الترند

 وائل قنديل
هل اطلعت على الشهادة المزلزلة لوزير العدل المصري السابق، المستشار أحمد مكي، عن الرئيس مرسي في أحداث الاتحادية 2013؟. 
سألني والدهشة تعصف به، فقلت: نعم، اطلعت عليها، لكنها لم تزلزلني ولم تفاجئني، فقرّر أن يستثير دهشتي بعدد من الروابط لأخبار في صحف ومواقع، تتحدث عن الأمر بعناوين مثيرة من نوعية "شهادة تاريخية" و"أسرار تذاع لأول مرة".
على مواقع التواصل الاجتماعي، كان الجدل أكثر احتدامًا والدهشة أقوى زلزلة، بسبب هذه الشهادة التي روى فيها الوزير الأسبق بعض ما جرى من وقائع في المطبخ السياسي، إبّان حصار الرئيس محمد مرسي في قصر الاتحادية، وهو الحصار الذي تبين لاحقًا أنه كان مدعومًا من الدولة الأمنية العميقة.
بعد أن انتهى صديقي من سرد ما ورد بالشهادة، تحوّلت دهشته إلى استنكار، عندما بدا له أني لست مندهشًا، فاعتذرت له، ثم بادرته بأن هذه الشهادة سبق نشرها، بتفصيل أكثر في يوليو/ تموز 2016  عبر حوار طويل مع الوزير السابق، مع الموقع الإلكتروني لصحيفة التحرير، قبل قتلها ومواراتها الثرى، وقد تناولتُها، وآخرون، بالتعليق في مناسبات عدة، كانت آخرها مع اختيار عبد الفتاح السيسي قائد الحرس الجمهوري في أثناء فترة الرئيس مرسي، ليكون وزيرًا للدفاع بعد إطاحة الفريق صدقي صبحي في العام 2018، وتضمنها مقالٌ لي منشور منذ نحو عامين، تحت عنوان "شاهد زور صار وزيرًا للدفاع"، قلت فيه: "غير أن خدمات وزير الدفاع الجديد للانقلاب لم تتوقف عند ارتكاب مجزرةٍ أزهقت أرواح 53 مصرياً من المعتصمين، رفضاً للانقلاب والإقصاء المادي لرئيسٍ منتخب، بل استمرّت حتى صارت اغتيالاً أدبياً ومعنوياً، بشهادات كذوب، أدلى بها قائد الحرس، وجرى استخدامها في تخليق مجمل الاتهامات الباطلة للرئيس المدني، وبشكل خاص في قضية أحداث الاتحادية 2012، والتي ادّعى فيها، زوراً، أن الرئيس طلب منه استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين، لكنه رفض".
هذه الشهادة تدحضها شهاداتٌ عديدة، بعضها سمعته، من أطرافٍ كانوا حاضرين المشهد، وأخرى منشورة، أهمها على الإطلاق شهادة وزير العدل، إبّان أحداث الاتحادية، المستشار أحمد مكي، وهي الشهادة المنشورة في صحيفة التحرير في يوليو/ تموز 2016. قال وزير العدل فيها "كنت واحدًا من شهود الاجتماع الذي دعا إليه محمد مرسى عقب مقتل الحسينى أبو ضيف، وحضرته مع قائد الحرس الجمهوري واللواء أحمد جمال الدين، وزير الداخلية حينها. كان الاجتماع يناقش طرق حماية القصر من المتظاهرين، فقال قائد الحرس: نضرب بالرصاص، وهذه هي الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا، فصرخ مرسي وقال: إلا الدم .. وذكر حديثا للرسول يقول: لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا..، وقال أيضا شوفوا طريقة تانية، ممكن نجيب خراطيم مياه أو نعلي الأسوار..، فكان حريصا على سلامة كل شخص. تساءلت عن سبب وجودي في هذا الاجتماع، فأجابني وزير الداخلية بأنه يريد حضور وكلاء نيابة إلى محيط القصر، ليكونوا شاهدين على التصدّي للمتظاهرين أو فض اعتصام، بأنه يتم وفقًا للقواعد والمعايير، وبالفعل هو ما حدث بعد أن أبلغت النائب العام".
التصور الشائع أن ثورة النيوميديا جعلت توثيق التاريخ مسألةُ أكثر سهولة، وهذا صحيح بالقطع، غير أن الصحيح أيضًا أن هذه السهولة جعلت التاريخ أكثر سيولةً وأكثر قابليةً للتبخر والتسرب من ثقوب الذاكرة الإنسانية التي يستبدّ بها الإنهاك والضعف، حتى صار عمرها الافتراضي لا يتجاوز شهورًا.
ربما كان الإحساس بأن الوقائع التاريخية محفوظة بعناية في ثلاجات الأرشيف الإلكتروني من أسباب تدهور حالة الوعي بالتاريخ، أو التفاعل معه، غير أن العنصر الأهم في إنهاك الذاكرة الجمعية هو أنها طوال الوقت معرّضة للاستنزاف والتآكل، أو قل هي خاضعة باستمرار لعملياتٍ عنيفةٍ من التعبئة والتفريغ، بلا هوادة، حتى باتت قدرتها على الربط والتحليل والاستيعاب أقل، والأخطر أنها فقدت قدرتها على الالتقاط والاحتفاظ من كثرة الاستعمال.
هنا تأتي آليات السوشيال ميديا المدمرة سببًا رئيسًا في هزال الذاكرة، فتجدها تندهش لما سبق لها الاندهاش له قبل ذلك، فالحاصل أن القصف اليومي العنيف بذخائر "الترند" و"الهاشتاج" جعل الذاكرة الفردية والجمعية تلهث طوال الوقت خلف ألسنة حرائق الموضوعات المثيرة التي تشعلها تلك القوى النافذة في كوكب الفضاء الإلكتروني، ومن خلالها تستطيع إضفاء أهمية وقداسة على كل تافه ومبتذل ومنحط القيمة، أو تسفيه وإسقاط كل ما هو حقيقي ومحترم وجاد من قضايا الفرد والمجتمع.
وفي مناخٍ كهذا مشبعٍ بكل أنواع الملوثات الثقافية والفكرية والاجتماعية، من السهل جدًا تسليع ذاكرة الإنسان، بحيث تصبح أرخص من ذاكرة هاتف جوال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق