الاثنين، 22 يونيو 2020

ممالك النار: حقيقة دخول العثمانيين لمصر ونهاية عصر المماليك

ممالك النار: حقيقة دخول العثمانيين لمصر ونهاية عصر المماليك




جرت السنن أن يكون عمر الدول كعمر الإنسان، يولد ضعيفًا ثم يستقوي ويشب ليصل إلى أوج قوته ثم يشيخ ويضعف ويموت، هذه السنة تتكرر مع الدول عبر التاريخ بشكل ثابت، وقد عرف العالم الإسلامي العديد من الدول التي هيمنت استلم السلطان سليم الأول الغازي الحكم في الدولة العثمانية في عام 1512 واستمر فيه إلى غاية عام 1520، توسعت خلالها الدولة العثمانية وانتصرت على الكثير من أعدائها، وكان من أسباب هذا التوسع وهذه الانتصارات، قوة وتماسك الدولة وعنايتها الجمّة بالأسلحة والجيش.

وتفرغ السلطان سليم لتوطيد أركان حكمه بشكل لا ينازعه فيه أحد، فتخلص من كل منافس ثم ولّى ابنه سليمان حكم القسطنطينية، وأبرم معاهدات مع البندقية والمجر وموسكو لهدنة طويلة الأمد ليتفرغ هو لهزيمة عدو خطير بدأ يهدد الدولة العثمانية، حيث أطلت من بلاد فارس أطماع ملكها شاه إسماعيل الصفوي الشيعي، الذي امتد ملكه من الخليج الفارسي إلى بحر الخزر ومن منابع الفرات إلى ما وراء النهر. وأصبحت دولة الصفويين تلقي بظلالها على الدولة العثمانية وتنذر بالحرب خاصة بعد أن بدأت محاولات الشاه جادة باستمالة كثير من العشائر التابعة لنفوذ الدولة العثمانية، فوصل الخبر للسلطان سليم الأول عن طريق أمراء الأناضول فبدأ بالجمع للشاه والاستعداد للحرب.

وكانت عزيمة العثمانيين آنذاك قوية تمامًا كما كان تخطيطهم وتنظيمهم متينًا، فتحطمت على أعتاب هذه القوة طموحات الصفويين، وتمكن جيش العثمانيين من هزيمة جيش الشاه شر هزيمة في أغسطس سنة 1514م وسيطر العثمانيون على المدن والبلدات تباعًا وتحولت القبائل في المنطقة لحكم الدولة العثمانية وتحولت الأموال والخزائن إلى القسطنطينية.

ويقول بعض المؤرخين أن السلطان سليم جهز جيشًا مركبًا من كل صنف مقداره مائة وثمانون ألفًا وأعلن الحرب على الشاه وأقام ابنه سليمان بالأستانة مكانه. وباشر قيادة الجيش بنفسه. فعمد إلى رد الكثير من أفراد الجيش وغالبهم من التجار لأنهم لا يتحملون أثقال السفر والقتال وأبقى مائة ألف من أقوياء وشجعان العساكر، وانطلق في مسيرة الفتح داخل أراضي العدو، ففتح أذربيجان أولًا وراسل الشاه يدعوه للحرب.

ولم تكن رحلة التقدم بالهينة في أراضي فارس بالنسبة للسلطان سليم فكلما توغل في أراضي العدو كلما كانت التحديات تظهر وتتزايد، مما أوقد نار المعارضة بشكل متصاعد أيضًا في نفوس الجنود، الذين انتقدوا هذه المغامرة في ظروف مهلكة بابتعادهم عن مركز دولتهم والتوغل في أراضٍ يجهلونها، ولكن السلطان سليم امتلك مهارات القيادة الفذة، وتمكن من تثبيت جنوده وإخماد نار المعارضة في صدورهم، والتي كانت تنعكس بشكل محاولات للتمرد وإطلاق النار والتنديد بأوامر مواصلة المسير، وفي إحدى هذه المرات التي تمرد فيها الجنود كان السلطان سليم داخل خيمته فإذا به يخرج ويخاطب الجنود بخطاب كسب به ولاءهم من جديد حيث قال: “لا يمكن الرجوع بغير حرب مع العدو وكل من يشعر منكم في نفسه بالجبن فليرجع وأما أنا فلابد أن أحارب العدو ولو وحدي”، فلما رأوا منه هذه الجسارة الهائلة وأنه نسبهم إلى الجبن، اتحدوا على السفر بكل غيرة ونشاط فساروا معه حتى النهاية”. وتوالت بعدها الانتصارات العثمانية على الدولة الصفوية.

فقه الواقع: نبذة عن دولة المماليك قبل دخول العثمانيين لمصر

على المشهد بسلطان واحد ممتد، أو تزامن وجودها مع دول إسلامية أخرى بسلطانها ونفوذها المتنافس، وجميعها سقطت لكنها أورثت خلفها تركة من التجارب والعبر.

سنسلط الضوء اليوم على مرحلة حرجة من تاريخ المسلمين، تحديدًا مرحلة سقوط دولة المماليك وتوسع دولة العثمانيين وهي مرحلة تناولتها الأقلام بشيء من الإنصاف أو الجور، بحسب النفسية السياسية للكاتب، وميولاته وتوجهاته، وزاد الطين بلة توظيفها في المعارك الإعلامية اليوم بإنتاج تلفزيوني يحرف الحقائق التاريخية بجرأة صارخة في وقت لم تعد فيه قراءة التاريخ حكرًا على المصادر العلمية من كتب ومحاضرات وغيرها، بل أصبحت تستسقى من الدراما ووسائل التواصل الاجتماعي كرافد مؤثر في إنتاج التصورات التاريخية لدى الشعوب والأمم.

يهمنا في هذا البسط أن نعرض الحقائق بعيدًا عن التحريف والتوظيف السيء للمعلومات التاريخية، لأننا نحفظ بذلك تاريخ أمة مسلمة لا يحق لأحد أن يزوّره.

فقه الواقع: نبذة عن الدولة العثمانية قبل الدخول لمصر

القاهرة سنة 1868م .


كانت مصر في ذلك الوقت تحت حكم السلطان المملوكي قانصوه الغوري وبينما كان الصراع يحتدم بين الدولتين العثمانية والصفوية، اختار الغوري الاصطفاف إلى جانب الشاه الشيعي. وفي الواقع كان أمام الغوري إما أن يقف مع العثمانيين ضد الصفويين أو أن يقف في الحياد، لكنه اختار الوقوف مع الصفويين وإعلان حياده كنوع من التحايل، لكن خطابًا وقع في يد المخابرات العثمانيَّة يؤكد حقيقة تحالفٍ سرِّي والعلاقة الخفيَّة بين المماليك والفرس دفع بالسلطان سليم إلى التخطيط لتأمين ظهره بضم دولة المماليك إلى سلطانه كجزء من خطة القضاء على المد الصفوي.

وبالنظر للاختلاف الكبير بين عقيدة المماليك وعقيدة الشاه تنكر بعض الروايات حقيقة هذا التحالف بين الطرفين، لكن الخطاب الذي يوثق هذه العلاقة بقي محفوظًا في أرشيف متحف طوب قابي في إستانبول.

ثم لنتأمل كيف وصف ابن زمبل، أحد أبرز المؤرخين المعاصرين لدولة المماليك خلفية المواجهة العسكرية بين المماليك والعثمانيين حيث قال: “وما وقع بينهما من شدة العداوة أن السلطان سليم غزا على إسماعيل شاه سلطان العجم وجاء أي السلطان سليم بالعساكر على البيرة (بين حلب والثغور العثمانية) وكان نائبها يسمى علاء الدولة من طرف جناب السلطان الغوري، فأمر علاء الدين أهل مرعش ألا يبيعوا عسكر السلطان سليم شيئًا من المأكل ولا من غيرها، فمات أكثر الدواب والناس من شدة الغلاء وكان هذا سبب الحرب بين الغوري وسليم، وحصل للسلطان سليم من ذلك غم لا مزيد عليه، فأشار عليه وزراءه أن يرسل يعلم الغوري بذلك، فأجابه الغوري بأن علاء الدولة عاصٍ أمره، ثم كتب الغوري إلى علاء الدولة خفية يشكره على ما فعل ويغريه على قتال السلطان سليم”.

أضف لذلك عناية الغوري المستفزة ببعض الأمراء العثمانيِّين الفارِّين من وجه السُّلطان سليم في سبيل توظيفهم لاحقًا لصالح دولة المماليك مما أثار سخط سليم بشكل كبير. زد على ذلك التنافس على الحدود بين الدولتين، والذي كان يؤجج مشاعر العداء ويوغر الصدور.

ولم يكن خلاف الغوري مع الدولة العثمانية مجرد دسائس ومكر في الخفاء بل تطورت للمواجهة العسكرية حيث التقت المماليك بجيشها الجيش العثماني في أغسطس سنة 1516م في بلاد الشام بقرب مدينة في مرج دابق لتشكل هذه المحطة النقطة الفاصلة في تاريخ دولة المماليك.

وقد تكرر في الروايات التاريخية حقيقة الاختلاف الذي ساد بين الدولتين في هذه الفترة، لكن المواجهة العسكرية حسمته بشكل لا رجعة فيه، حيث قُتل سلطان المماليك الغوري بعد هزيمة جيشه أمام العثمانيين في معركة مرج دابق وكان عمره ثمانون عامًا، ليفتح الباب واسعًا لتوسع السلطان سليم الأول، وبسط نفوذه على المدائن الشامية، كحماة وحمص ودمشق التي استلم معظمها بالأمان دون قتال.

معركة مرج دابق التاريخية
صورة تظهر مرج دابق شمال حلب.



وقعت معركة مرج دابق في يوم 25 من رجب 922هـ الموافق 24 من أغسطس 1516م في مكان يسمى دابق، وهي قرية تقع بالقرب من مدينة حلب. توجه فيها الجيش العثماني الكبير مجهزًا بأحدث المعدات الحربية في ذلك الزمان وعلى رأسها المدافع والبنادق البدائية. قال عنها ابن زنبل: “ولا ضرهم (أي المماليك) إلا البنادق فإنه يأخذ الرجل على حين غفلة لا يعرف من أين جاءه، فقاتل الله أول من صنعها، وقاتل من يرمي بها على من يشهد لله بالوحدانية”، والتحمت الصفوف في القتال مع جيش المماليك الضعيف عدة مقارنة مع نظيره العثماني، واتجهت فصول المعركة لصالح الجيش العثماني، وانتصر العثمانيون انتصارًا كبيرًا، ساعدهم في ذلك خلاف دبّ بين فرق المماليك المقاتلة والتي انحاز بعضها لصفوف العثمانيين. ويقول ابن زنبل يصف جيش الغوري: “لقد كان جيش الغوري عامرًا بالصراع الداخلي، وقدم في معركة مرج دابق فئات العسكر المماليك التي كان يخشى بأسها أو التي كان بينه وبينها عداوة، بينما احتفظ بمماليكه بعيدًا عن القتال، مما أوغر صدر الفئة الأولى بل وامتنعت عن القتال، ولم تطع الأوامر في ميدان القتال”.

وهكذا تلقَّى المماليك ضربة قاضية في سنة 1516/1517م في وقت شاخت فيه دولتهم وضعفت، بعد أن سطعت كقوة إسلامية كبرى مبهرة طردت الغزاة من الصليبيين والمغول، وسطرت بطولات تردد صداها في الآفاق إلى اليوم وأقامت حضارة لا تزال آثارها باقية إلى الساعة، لكن الضعف الذي اعتراها في آخر عمرها، أفقدها حيويتها وقدرتها على التجديد، فانتهت كما انتهت الدول من قبلها وتلك السنن الإلهية لا تحابي أحدًا.

وقفة مع العلاقة بين الدولتين العثمانية والمماليك

لم تكن العلاقة بين الدولتين العثمانية والمماليك سيئة على طول محور الزمن منذ التقائهما، بل عرفت محطات تعاون وتحالف رائعة، وكان ذلك حتى قبل تأسيس الدولة العثمانية منذ عصر الغازي أرطغرل بن سليمان شاه، حيث تحالفت القوى الإسلامية في الأناضول ومصر والشام مع بركة خان، للقضاء على المغول الذين أهلكوا الحرث والنسل في بلاد المسلمين، واستمرت العلاقة تعاونية بعد قيام الدولة العثمانية، يدفعها التخطيط لمواجهة الأعداء على رأسهم البرتغاليين وكان ذلك بتحالف أسطوليهما معًا في الحرب ضد البرتغال، أقوى دولة لها نفوذ في البحر آنذاك، والتي وفرت أيضًا قاعدة لإرسال المبشرين إلى دول آسيا، وفازت بالسبق في الكشوف الجغرافية التي بها استعمر الرجل الأبيض الأراضي الجديدة.

وكان السلطان السليم بعيد النظر يبحث عن مراكز القوى التي تحفظ دولته وتضمن تمددها، وحين وصله أن البرتغال تخطط للتوسع في أراضي المسلمين، وتزامن هذا الواقع مع مراسلات من مصريين أنفسهم يطالبون القيادة العثمانية بتخليصهم من حكم المماليك، قرر أن يزيح عقبة المماليك ويسيطر على البحر الأحمر ليمنع البرتغاليين من التقدم.

ولم يكن خافيًا أن طموحات الدولة العثمانية كبيرة وتخطيطها كان استراتيجيًا شاملًا، يحسب حساب النظام الدولي برمته آنذاك، فكان هدف العثمانيين توحيد سلطان المسلمين تحت رايتهم، وذلك للانتصار على المكر الصليبي المتواصل خاصة بعد سقوط الأندلس وتوسع أطماع البرتغاليين الذين احتلوا عدة أمصار مسلمة كاليمن وعمان بعد اكتشافهم رأس الرجاء الصالح. لكن دولة المماليك في ذلك الوقت، وقعت بين فكي الهجمات الأوروبية، البرتغالية والإسبانية، ولم تكن نشيطة ولا حيوية في تغيير وضعها وتطوير أساليب هجومها ودفاعاتها، مما ساهم في هزيمتها واندثارها.

نعود للخلاف بين الدولتين الذي تأجج مع ارتفاع وتيرة العداء بين الشاه إسماعيل الصفوي والسلطان سليم الأول. ثم محاولة الشاه الاستفادة من المماليك ضد العثمانيين. ويبدو واضحًا من خلال مطالعة الأحداث التاريخية أن غضب سليم الأول كان كبيرًا لاصطفاف المماليك مع الدولة الصفوية ضده، وهو ما جعله يرفض محاولات سفير المماليك تهدئة الأمور ورأب الصدع، وفضّل بدلًا من ذلك المواجهة العسكرية لحسم القضية. ولم يكن انتصار سليم الأول على سلطان المماليك فقط بسبب الهزيمة في معركة مرج دابق بل أيضًا لسياسة العثمانيين الذين نجحوا في استمالة ولاة بلاد الشام لصفهم وعملوا بقوة على سحب البساط من تحت أرجل المماليك بهدوء.

ومع سقوط الشام في يد العثمانيين خسر المماليك نصف سلطان دولتهم، مما شجع سليم الأول للزحف نحو القاهرة ليقضي على آخر وجود للمماليك في موقعة الريدانية لتسقط بذلك آخر لبنة في دولة المماليك التي حكمت منطقة مصر والشام لقرنين ونصف القرن أبلى فيها بعض قادتها البلاء الحسن في الغزوات والفتوحات، ولكن لكل أجل كتاب ولكل بداية نهاية.

المواجهة في مصر

استقوى العثمانيون بالشام، بعد إحكامهم السيطرة عليها، بينما قام المماليك بتنصيب طومان باي سلطانًا جديدًا لهم وكان الغوري قد عينه نائبًا له قبل خروجه لقتال العثمانيين، وبدأوا بالجمع والتجهيز لمواجهة العثمانيين. إلا أنه كان استعدادًا تخللته الكثير من الخيانات والضعف.

وبالفعل دخل العثمانيون إلى مصر، وتمكنوا من أسر طومان باي بمساعدة بعض أعوانه الذين خانوه، وتم شنقه بأمر السلطان سليم في شهر أبريل من عام 1517 م بباب زويلة.

سيرة السلطانين

اشتهر سليم الأول بالقيادة الفذة لدولته وجيشه وحسن تخطيطه وتدبيره لحفظ نفوذه وتمدده ثم قراءته الثاقبة لخريطة القوى في العالم وقدرته على الاستفادة من الظروف والأسباب لصالح الصعود الإسلامي، ولكنه عرف أيضًا بسفكه للدماء في سبيل إحكام قبضته على دفة الحكم، ولم يسلم منه حتى وزرائه حيث تتحدث الروايات التاريخية عن مقتل سبعة من وزرائه لأسباب لا ترتقي لجزاء القتل. وفي الجهة المقابلة كان كثير الاهتمام ببناء المساجد، وتحويل كنائس القسطنطينية إلى مساجد.

ويذكر كتاب الدولة التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية قتل سليم الأول لأخيه أحمد حاكم بورصة، والذي كان أكبر منه سنًا، فكان ينازعه الحكم على هذا الأساس، وحين سئل عن قتله أخيه رغم التجائه إليه كان جواب سليم: “بأن أعداء الدولة الخارجين كثيرون فإذا ذهبت إلى الحرب استولت عليه شياطين الإنس والجن بالغش فيعمل مثل ما عمل ويترتب على ذلك إراقة دماء المسلمين، فقتل واحد لإحياء كثيرين أمر واجب والله أعلم”.

وبعد انتصاره على المماليك سار إلى القسطنطينية وأمر بالزينة، وأقام بها إلى ست وعشرين وتسعمائة ودفن في مدفنه الذي كان عمّره في حال حياته بالقسطنطينية وكانت وفاته في سادس شوال، ومدة سلطنته ثماني سنين وثمانية أشهر وتسعة أيام. وتولى الحكم من بعده ولده سليمان.

أما الأشرف أبو النصر طومان باي الشركسي فكان في مرتبة السلطان السابع والأربعون من سلاطين الأتراك في مصر والحادي والعشرون من السلاطين الشراكسة، وهو السلطان الوحيد الذي شُنق على باب زويلة.

اشتراه السلطان قانصوه الغوري وقدمه إلى السلطان الأشرف قايتباي، ولهذا يُدعى طومان باي من قانصوه، فصار من جملة مماليك قايتباي الكتابية. أعتقه الملك الناصر محمد بن قايتباي حين اعتلى عرش مصر ثم أخذ يرتقي في المناصب منذ ذلك الحين لكفاءته وخاصة بعد تولي قانصوه الغوري سلطنة مصر في شوال سنة 906 هـ – أبريل 1501 م حتى جعله نائبا له.

ولم يكن طومان مولعا بالسلطان في الظروف التي كانت تعيشها دولة المماليك والدليل أنه رفض قبول منصب السلطان بعد مقتل الغوري لكنه اضطر لقبوله بعد إلحاح شديد من الأمراء الذين أقسموا له وتعاهدوا بالأيمان على المصحف بالسمع والطاعة وعدم الخيانة. ويصف ابن إياس ذلك بقوله: “اجتمع رأي الجميع على سلطنة طومان باي الدوادار وترشيح أمره لأن يلي السلطنة فصار يمتنع عن ذلك غاية الامتناع، والأمراء كلهم يقولون: ما عندنا من نُسلطنه إلا أنت ولا مَحيد لك عنها طوعًا أو كرهًا”.

لكن نهاية طومان باي رغم ما تميز به من صفات قيادية، كانت بخيانة من معه من أمراء. ويصفه بن زنبل، فيقول: ” كان ملكًا حليمًا قليل الأذى كثير الخير، وكانت مدة سلطنته بالديار المصرية ثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، … وكان في هذه المدة في غاية النكد والتعب وقاسى شدائد ومحنًا وحروبًا وشرورًا وهجاجًا في البلدان، وآخر الأمر شنق على باب زويلة. وأقام 3 أيام وهو معلق على الباب حتى جفت رائحته وفي اليوم الثالث أنزلوه وأحضروا له تابوتًا ووضعوه فيه وتوجهوا به إلى مدرسة السلطان غوري عمه فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه هناك ودفنوه في الحوش الذي خلف المدرس ومضت أخباره كأنه لم يكن”.

موقعة غزة

بعد هزيمة الغوري في مرج دابق وقبل موقعة الريدانية وقعت موقعة غزة في (24 من ذي القعدة 922 هـ) فأعلن طومان باي حالة النفير، وتواجه الجيشان حيث كان على مقدمة جيش الممالك جان بردي الغزالي وعلى طلائع الجيش العثماني سنان باشا بالقرب من بيسان، وانتهت المواجهة بهزيمة نكراء للمماليك، بسبب فارق القوة والعتاد.

موقعة الريدانية

وسجل تاريخ معركة الريدانية في 29 ذي الحجة 923 هجري /1517 ميلادي، نهاية العصر المملوكي في العالم الإسلامي. ويجدر الإشارة إلى الأحداث التي سبقتها بقليل، حيث وصل وفد من السلطان سليم من خمسة عشر رجلًا إلى القاهرة يحملون كتابًا إلى طومان باي. يقول الكتاب:
من مقامه السعيد إلى الأمير طومان باي، أما بعد، فإن الله قد أوحى إلى بأن أملك البلاد شرقًا وغربًا كما ملكها الإسكندر ذو القرنين. إنك مملوك تباع وتشترى ولا تصلح لك ولاية، وأنا ملك بن ملك إلى عشرين جدًا، وقد توليت الملك بعهد من الخليفة والقضاة… وإن أردت أن تنجو من سطوة بأسنا فاضرب السكة في مصر باسمنا وكذلك الخطبة وتكون نائبنا بمصر، ولك من غزة إلى مصر، ولنا من الشام إلى الفرات. وإن لم تدخل تحت طاعتنا، أدخل إلى مصر وأقتل جميع من بها من الجراكسة (الشراكسة) حتى أشق بطون الحوامل وأقتل الأجنة التي في بطونهن من الجراكسة.
ومال طومان باي إلى قبول مطالب سليم لحقن الدماء لكن الأمير علان الدوادار الكبير عمد لقتل الوفد العثماني وأعلن عزمه للقتال. فلم يكن رد السلطان سليم إلا الدخول عنوة إلى مصر، ولأجل ذلك قسم جيشه إلى ثلاث فرق مستفيدًا من نصائح جان بردي الغزالي من المماليك والذي بسبب خيانته لطومان باي، تمكن العثمانيون من دخول مصر بسهولة.

الخيانة أحد أهم أسباب الهزيمة
ظهرت خيانة الغزالي أثناء تقدم السلطان سليم إلى الخانكاه، حيث ألح بدفن المدافع بالرمال حتى لا يراها جواسيس العثمانيين ثم أرسل خطابًا إلى العثمانيين يخبرهم بقصة المدافع وبتفاصيل الاستعدادات من المماليك ونصحهم بالالتفاف من جانب الجبل لا الريدانية.

وبالفعل سارت فرقة من الجيش العثماني لمقابلة جيش المماليك في الريدانية، وفرقة أخرى سارت تحت الجبل الأحمر والمقطم وأحاطت بهم من اليمين والخلف، وفرقة سارت في اتجاه بولاق وأحاطت بهم من الشمال. واكتشف بذلك طومان باي خيانة الغزالي لكن الموقف لم يكن يسمح بتصفيته وإرباك الصفوف.

وظهرت في مثل هذه المواقف العصيبة شجاعة طومان باي، فلم يكن يملك سواها وبعض المخلصين من أتباعه، وانطلقوا في القتال بكل طاقتهم، إلا أن عزيمتهم لم تكن كافية لترجيح كفة النصر لصالحهم، أمام العثمانيين الذين تميزوا بقوة الأسلحة وحسن التخطيط والدعم الاستخباراتي، ودخل العثمانيون القاهرة يوم الجمعة 30 من ذي الحجة سنة 922 هـ الموافق 23 يناير 1517 م.

وكان دخول سليم الأول مدروسًا لمصر حيث جعل في موكبه الخليفة المتوكل على الله ووزرائه، وأمر أن يُخطب له على المنابر قبل أن يدخل القاهرة التي دخلها يوم الثلاثاء واستلم مع دخوله مفاتيح القلعة. لكن القاهرة عاشت ثلاثة أيام من الفوضى العارمة حيث تفشى السلب والنهب ولقي أهلها الأهوال مع دخول العثمانيين. أما طومان باي ومن تبقى معه من المماليك لم يقبل هذه الهزيمة وجمع فرسانه وبدأ بحرب شوارع في القاهرة، وتحصن لأجل ذلك بحي الصليبة، واتخذ من جامع شيخون مركزًا للمقاومة وحفر الخنادق، وأقام تحصينات في المنطقة عند رأس الصليبة وقناطر السباع ورأس الرميلة وجامع ابن طولون.

ولكن مع تقدم العثمانيين بدأ الخوف والخور يدب في صفوف المماليك وانهزموا نفسيًا ولم يبق لطومان باي إلا بعض رفاقه المخلصين، فاضطر للانسحاب إلى بركة الحبش ثم عبر النيل إلى الضفة الغربية بالجيزة ووصف ابن زنبل ما جرى في الصليبة بقوله: “وأما طومان باي فإنه لم يهرب وحطم عليهم حطمة الأسد الغضبان وقتل فيهم قتلًا حتى كلّ ساعده، ولكن ماذا يفعل الواحد في مائتي ألف أو أكثر”.

وللأسف وقع ما توعد به السلطان سليم طومان باي في كتابه قبيل قتل المماليك لوفده، فما أن أحكم العثمانيون سيطرتهم على القاهرة حتى استباحوها فكانت مجازر بشرية يصفها ابن إياس:

المصيبة العظمى التي لم يُسمع بمثلها فيما تقدم من الزمان، فقتلوا جماعة كثيرة من العوام وفيها صغار وشيوخ لا ذنب لهم، وحطوا غيظهم في العبيد والغلمان والعوام، ولعبوا فيهم بالسيف وراح الصالح بالطالح، فصارت جثثهم مرمية في الطرقات، فكان مقدار من قتل في هذه الواقعة فوق العشرة آلاف إنسان في عدة هذه الأربعة أيام، ولولا لطف الله لفني أهل مصر قاطبة بالسيف.

وأما جامع شيخون مركز المقاومة فقد أحرقه العثمانيون فاحترق سقف إيوانه الكبير، وقبضوا على نحو ثمانمائة من المماليك وضربوا أعناقهم.

ويقول المؤرخون أن القتلى من سكان مصر في هذه الأحداث بلغوا خمسين ألفا والله أعلم، ومع ذلك لم يقطع طومان باي الأمل، وجهز مرة أخرى في الجيزة جيشًا مركبًا من الشراكسة والعرب، واندلعت الحرب كأشرس ما يكون لأنه قتال موت، حتى لم يبق من الجنود العثمانيين سوى ستة آلاف ومن جنود طومان باي أربعة آلاف ومع ذلك لم ينهزم هذا القائد إلا بخيانة، انتهت بأن يُؤخذ أسيرًا ويُصلب في باب زويلة.

انتقال الخلافة للعثمانيين


كانت الخلافة بيد الدولة العباسية المنهارة قد وجدت لها تمثيلًا رسميا في مصر، وكان فيها آخر ذرية الدولة العباسية التي لجأت إلى مصر بعد سقوط بغداد مقر خلافة بني العباس في قبضة هولاكو خان التتري سنة 656هـ – 1091م فتم التنازل عن اسم الخلافة إلى يد العثمانيين. فاستلم سليم الأول الخلافة والآثار النبوية الشريفة: وهي البيرق -العلم- والسيف والبردة، واستلم معها مفاتيح الحرمين الشريفين.

وقد قيل: إِنَّ آخر الخلفاء العباسيِّين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة قبل دخول العثمانيين لمصر، واستشهدوا بكون المؤرِّخ ابن إِياس المعاصر لضمِّ العثمانيِّين لمصر لم يتطرَّق إِليها. ولعل هذا ما يفسر إطلاق السلطان سليم لقب “خليفة الله في طول الأرض وعرضها” على نفسه منذ عام 1514م أي 920هـ وهذا قبل أن يدخل الشام ومصر.

السلطان سليم يسلم مصر ليد خيري بك الشركسي

سلم سليم الأول مصر ليد خيري بك الشركسي والي حلب سابقًا، وذلك أن سليم لما وصل قبل دخول مصر إلى حلب ذهب إليه خيري بك وقال له إني أكره أن أحارب المسلمين سواء كانت مصر لك أو للسلطان الغوري فأنا لا لك ولا عليك، فسر به السلطان سليم جدًا ووعده بولاية مصر طيلة حياته ووافاه هذا الوعد.

ويذكر التاريخ قصة تكشف طريقة تفكير سليم الأول وقيادته للأمور، حيث أنه كان مع خروجه من مصر للعودة إلى مركز دولته كان يهم بركوب فرسه فسأله خيري بك:
هل تقبل أولاد الشراكسة في العسكر وتبقي لهم أموالهم وعقاراتهم بمصر وملحقاتها كما كانوا أم لا؟ فأجابه أن: نعم، وكيف نأخذ أمولهم ونمنع أولادهم من الجيش أليسوا بمسلمين.
فقال الصدر الأعظم: ذهبت أتعابنا سدى، فأمر سليم بقتله في الحال لأجل هذه الكلمة، فقتل ورجل سليم اليسرى في الركاب واليمنى على الأرض ثم ركب جواده وسار. وحين سئل لاحقًا عن قتله للصدر الأعظم فقال: “إننا نحب أن نوفي بالوعود فعينا خيري بك واليًا على مصر وفاء للوعد وتركنا الشراكسة أموالهم حيث لا تحل لنا وقبلنا أولادهم في الجيش كسائر المسلمين فأراد الصدر الأعظم أن يوقعني في الذنوب، وأما قتله فهو خوفًا من أن يكرر علي ذلك ملحًا وربما أثر عندي فأقع في هذه الذنوب والله أعلم”.

نهاية طومان باي




يشهد التاريخ أن طومان باي قد أزعج العثمانيين كثيرًا وأرهقهم بحرب العصابات والضربات المباغتة بعد دخولهم إلى القاهرة. ولولا الخيانة لربما لم يصلوا إليه لشدة شجاعته وبأسه. يقول بن زمبل: “ومن هنا نرجع إلى أخبار السلطان طوماي بعد انكسار عسكره، توجه نحو تروجة بالغربية فلاقاه حسن بن مرعي وابن أخيه شكر، مشايخ البحيرة في ضيعة تسمى البوطة، فعزم حسن بن مرعي وشكر السلطان طومان هناك وكان حسن بينه وبين طومان صداقة قديمة، فأركن له طومان ونزل عنده على سبيل الضيافة، ثم أن طومان أحضر إلى حسن وابن أخير شكر مصحفًا شريفًا وحلفهما عليه أنهما لا يخوناه ولا يغدرانه ولا يدلسان عليه بشيء من أسباب الملك، فحلفا له على المصحف سبعة أيمان، فطاب قلبه، ولما استقر عنده احتاطت به العربان من كل جانب وأرسلوا من يعلم السلطان سليم شاه بذلك فأرسل جماعة من عسكره وقبضوا عليه ووضعوه في الحديد وأخذوه إليه. وتشتت أتباعه من بعده. وهكذا خانه حسن بعد أن حلف، وكان من أعز أصحاب طومان، ولم يثمر فيه الخير.

اقتاد الجنود العثمانيون طومان باي وهو مكبل في الأصفاد إلى معسكر السلطان سليم بإمبابة، فأجلسه بجانبه ودار بينهما حوار أشاد به ابن زنبل، وبرر خلاله طومان باي مقاومته مؤكدًا على أن سبب هزيمته هي خيانة خيري بك والغزالي وكذا بنادق ومدافع الجيش العثماني. فرد عليه السلطان سليم أن الله أمرنا بالإعداد، فلماذا لم يعد الإعداد اللازم للانتصار في الحرب وهو على رأس دولة كبيرة، وتلا عليه الآية:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال: 60).

وكان مما دار بين الرجلين في هذا الموقف، قول السُّلطان سليم لطومان باي:
أنا ما جئت عليكم إِلا بفتوى علماء الأمصار، وأنا كنت متوجِّها إِلى جهاد الرَّافضة (يعني: الصفويِّين) والفجَّار (يعني بهم: البرتغاليِّين، وفرسان القدِّيس يوحنا)، فلمَّا بغى أميركم الغوري، وجاء بالعساكر إِلى حلب، واتَّفق مع الرَّافضة، واختار أن يمشي إِلى مملكتي الَّتي هي موروث آبائي، وأجدادي، فلمَّا تحقَّقتُ؛ تركت الرَّافضة، ومشيت إِليه.
ومع ذلك حفظ السلطان سليم لطومان باي مقامه وقال لجلسائه: “والله مثل هذا الرجل لا يُقتل ولكن أخروه في الترسيم حتى ننظر في أمره” وهو ينوي أخذه معه إلى إسطنبول. لكن خيري بك والغزالي أوجسوا خيفة من نقمة طومان باي عليهم فأقنعوا سليم بأن بقاء طومان باي سيشكل تهديدًا خطيرًا كونه لا يزال يطمح للملك ويجب إعدامه، واقتنع سليم بإعدام طومان باي.

وهنا يجب ذكر رواية بشأن قرار سليم إعدام طومان باي، حيث ذكرت بعض المصادر التاريخية أنه أثناء المعركة التي دارت بصحراء الريدانية -العباسية حاليًا- أسر المماليك سنان باشا قائد جيش العثمانيين والصدر الأعظم للدولة العثمانية، فلم يجد سنان باشا من طومان باي معاملة أسرى الحرب المتعارف عليها، حيث قام طومان باي بقطع رقبة سنان باشا بعد تعذيبه تعذيبا شديدًا بشكل يتعارض ومبادئ الإسلام في الحروب، فكان هذا السبب الأول لقرار السلطان سليم إعدام طومان باي على باب زويلة بالقاهرة والله أعلم.

وفي يوم الاثنين 21 ربيع الأول سنة 923 هـ الموافق 23 أبريل 1517 أعدم طومان باي ولنتأمل كيف وصف ابن إياس الذي شهد تلك اللحظات التي انتهت معها قصة آخر سلطان لدولة المماليك فقال: “وكان الناس في القاهرة قد خرجوا ليلقوا نظرة الوداع على سلطان مصر.. وتطلع طومان باي إلى قبو البوابة فرأى حبلاً يتدلى، فأدرك أن نهايته قد حانت.. فترجل.. وتقدم نحو الباب بخطى ثابتة.. ثم توقف وتلفت إلى الناس الذين احتشدوا من حول باب زويلة.. وتطلع إليهم طويلاً.. وطلب من الجميع أن يقرؤوا له الفاتحة ثلاث مرات.. ثم التفت إلى الجلاد، وطلب منه أن يقوم بمهمته. فلما شُنق وطلعت روحه صرخت عليه الناس صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف فإنه كان شابًا حسن الشكل كريم الأخلاق، سنه نحو أربع وأربعون سنة، وكان شجاعًا بطلاً تصدى لقتال ابن عثمان، وفتك في عسكرهم وقتل منهم ما لا يحصى، وكسرهم ثلاث مرات وهو في نفر قليل من عساكره”.

وبقيت جثة طومان باي معلقة ثلاثة أيام كي يراها الجميع ويعلم بانتهاء دولة المماليك، ثم دفُنت في قبة السلطان الغوري، وبموت آخر سلاطين دولة المماليك، استتب الأمر للسلطان سليم الأول والخلافة العثمانية القوية بمصر وبلاد الشام، وأصبحت مصر ولاية عثمانية.

وهنا يجدر التنبيه إلى أن طومان باي حفر مكانة احترام في نفس سليم الأول ويتجلى ذلك في يوم 26 أبريل، حيث تم تشييع جثمان السلطان طومان باي بشكل لم يسبق له مثيل، بحضور ومشاركة السلطان سليم بنفسه حيث عمد إلى توزيع النقود الذهبية على الفقراء تطيبًا لروح السلطان طومان باي رحمه الله لمدة 3 أيام.

عبر مستخلصة
لعل أبرز عبرة نستخلصها من مشهد الصراع بين الدولة العثمانية ودولة المماليك هو أهمية عامل القوة، حيث أن إهمال المماليك أسباب العناية بتطوير أسلحتهم وجيشهم في نصف القرن الأخير، واستمرارهم في الاعتماد على نظام الفروسيَّة؛ الَّذي كان سائدًا في العصور الوسطى؛ كان من أهم أسباب الهزيمة. على عكس الدولة العثمانية التي كان جيشها يتمتع بأسباب القوة وتطوير الأسلحة النَّارية، وبخاصَّةٍ المدفعيَّة، مما حسم الصراع لصالحها.

ويدخل في هذه معنويات الجيش العثماني العالية واستعداداته الكبيرة وتربيته الجهادية الراقية ووضوح الأهداف لديه وعلى رأس ذلك قناعته بعدالة قضيته، على عكس الجيش في دولة المماليك الذي كان يشتكي الفرقة والظلم وفقدان الثقة بقيادته.

أيضًا يظهر واضحًا نتائج الجهد الاستخباراتي العثماني في رصد أحوال البلدان وشراء الذمم وكسب الولاءات وتقصي الأخبار من داخل صفوف المماليك ودرايتهم بنقاط ضعفهم من خلافات وانشقاقات ونفسيات قابلة للخيانة وحسن توظيف ذلك كله. ويوازي هذا الجهد الاستخباراتي حسن التخطيط الاستراتيجي والقدرة على الاستفادة من مكونات النصر في المشهد على الرغم من توغل العثمانيين في أراضي ليست لهم بالأصل.

نلاحظ أيضًا أن التنافس على الحدود بين الدولتين كان يزرع الفتنة ويوغر الصدور ولو أن السلطتين تعاملتا مع هذه المشاكل بطرق حكيمة لوفرتا على بعض هذا العداء ولكان تحالفهما أكثر قوة للأمة المسلمة. لكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ولأن عصر دولة المماليك قد آذن بالرحيل حيث ظهرت أمارات ذلك واضحة من تفشي للظلم بين الناس، وازدياد مطالب أهل الشام وعلماء مصر بالتخلص من حكم المماليك والانضمام للدولة العثمانية. حيث كانت الرسائل تصل السلطان سليم من سوريا ومصر ترجوه أن يتدخل سريعًا وترحب بقدومه فقدمت هذه الحاضنة تسهيلات جمة للتمدد العثماني. وهذا يدفعنا للحديث عن حسن رعاية الرعية والحكم بعدل كعامل مهم لثبات الحكم، ففي الوقت الذي كان فيه رعايا الدولة العثمانية ينعمون بالعدل والأمان والاستقرار، كان رعايا دولة المماليك يشكون التمييز والقهر والظلم وحالة السخط.

ومن المعالم التي يجب تسليط الضوء عليها هي حالة الصف المملوكي المتصدع وكثرة الخلافات والفتن والبلابل والاضطراب في سلطة الحكم وكثرة الانشقاقات والخيانات التي أنهت وجود هذه الدولة. وقابل هذا الوضع حسن استيعاب الدولة العثمانية للمنشقين وتكريمها للمنضمين إلى صفوفها ولكل من أظهر ولاء للعثمانيين جنودًا وقادة من دولة المماليك.

والخلاصة هي أن اضطراب القيادة واستياء الرعية وضعف الجيش وتدهور الأحوال الاقتصادية في مصر بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح الذي جلب لها التجار كان أهم أسباب سقوط دولة المماليك.

ويبقى عامل مهم جدًا نختم به هذه العبر، يقف على هرم أسباب سقوط دولة المماليك، هو ضعف التزام هذه الدولة بشريعة الله فازدادت المظالم والاعتداءات وكان لذلك تداعيات مهلكة، بينما كانت الدولة العثمانية تتقدم ملتزمة بهذه الشريعة مستفيدة من بركات هذا الالتزام، فكان هذا العامل سببًا حاسمًا في سقوط دولة المماليك وسببًا رئيسيًا في صعود الدولة العثمانية، ثم ما أن تخلت الأخيرة عن هذا الالتزام حتى دخلت مرحلة الاندثار والموت ونالها ما نال دولة المماليك (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

ولا شك أن الهزيمة تأتي بعد تراكم الأسباب المؤدية لها، كما أن النصر يقوم على تعاضد الأسباب التي تبنى عليها قبة هذا النصر.

نهاية خائن
ومما يجدر تسجيله في هذا المقام هو نهاية الغزالي الخائن لدولة المماليك، فبعد موت سلطان سليم طمعت نفس الغزالي في أن يتسلطن في الشام ويعيد الملك للجراكسة (الشراكسة) كما كان في الأول، وأخبر حاشيته بذلك. واستشار خيري بك والي العثمانيين في مصر، فحذره من فعلته ومن عواقبها، لكنه مضى في كيده فوصل خبره لقيادة العثمانيين وتقدم نحوه إياس باشا بجيش وقبل أن يبلغه أرسل إليه كتابًا مع جاويش يقول فيه أن يتأهب للحرب لكنه قال كلمة في هذا الكتاب تستحق التأمل حيث قال: “إنه لو كان فيك خير لكان لأبناء جنسك فالذي ما فيه خير لجنسه كيف يكون فيه خير لغير جنسه يا خائن يا فاجر يا غدار يا مكار، وأخذ يسبه سبًا مبرحًا ويسود وجهه ويلعنه”. وقطع رأس الخائن في نهاية المواجهة وقتل شر قلتة.

نهاية وبداية
نعم انتهت مرحلة عصيبة على أهل مصر بسقوط دولة المماليك وصعود دولة العثمانيين فكانت كحالة مخاض وقعت فيها خسائر جمة وكثير من الألم، لكن ما أن هدأت العاصفة، واستلمت القيادة الجديدة مقاليد الحكم، حتى عفا السلطان سليم الأول عمَّن بقي من الجراكسة (الشراكسة)، وأبنائهم، وأعطى كل ذي حق حقه، من قادة وجنود ورعية وأبطل المظالم والمكوس والمغارم وكذلك أحسن استلام الأمانة من بعده ابنه سليمان، فبقيت مصر منتظمةً في سلكهم ومنقادةً تحت حكمهم إلى ما شاء الله.

وكان لدخول مصر تحت سلطان الدولة العثمانية صدى كبير في بقية البلاد الإسلامية، وكانت الحجاز تحت حكم المماليك آنذاك ولكن ما أن علم شريف مكَّة «بركات بن محمَّد» بمقتل السُّلطان الغوري ونائبه طومان باي، حتى سارع بنفسه إلى إعلان الولاء للسلطان سليم الأوَّل، وسلمه مفاتيح الكعبة وبعض الآثار، فأقره سليم بدوره على الحجاز ومكة أميراً عليهما، ومنحه صلاحياتٍ واسعة.

وانتهت هذه المرحلة وقد تحول السلطان سليم الأول إلى مقام خادم الحرمين الشريفين، ودانت له الشُّعوب الإِسلاميَّة بالسمع والطاعة، وساعده في ذلك الأوقاف الكثيرة التي أوقفها العثمانيون على الأماكن المقدسة وحسن عنايتهم بها.

وبسطت بذلك الدولة العثمانيَّة نفوذها على البحر الأحمر فتلاشى معه الخطر البرتغاليِّ عن المنطقة إلى نهاية القرن الثامن عشر. لتبدأ بعد ذلك قصة سقوط أخرى لدولة دام ملكها ستة قرون متواصلة وشكلت آخر شكل للخلافة الإسلامية إلى اليوم.

المصادر
انفصال دولة الأوان واتصال دولة بني عثمان ابن زنبل الرمّال.
لطائف أخبار الأول فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول للإسحاقي.
الدولة التحفة الحليمية في تاريخ الدولة العلية لإبراهيم بك حليم.
بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس.
تاريخ مصر من الفتح العثماني إلى قُبيل الوقت الحاضر لعمر الإسكندري




































ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق