لهذا حوّل العثمانيون البحر الأحمر إلى بحيرة إسلامية خالصة
كان اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح عام 1498، ومن ثم، دورانهم حول افريقيا، ووصولهم إلى سواحل الهند، بعد ذلك، تدشينا للحروب الصليبية الثانية، ضد المسلمين، وكانت خطة البرتغاليين تقضي، بتطويق بلاد المسلمين من الجنوب، وتوجيه ضربة قاتلة لهم من الخلف، وتصفية الحساب مع الإسلام نهائيا وإلى الأبد، بحيث لا تبقى على الأرض سوى ديانة واحدة، هي الديانة المسيحية، وسوى حضارة واحدة، هي الحضارة الأوروبية. وكان تدمير مكة، من الأهداف المهمة لتلك الخطة، وكان واضع هذه الخطة هو القائد البرتغالي "البوكيرك".
البوكيرك ومشرعه لتدمير مكة
كان البوكيرك هذا أشهر الملاحين البرتغاليين في المحيط الهندي، وأشدهم وحشية، وكان ذا نزعة صليبية متعصبة، وذا رغبة جامحة لسحق طائفة محمد (المسلمين)، وكان يحلم بأن يجعل مكة والقاهرة، أثراً بعد عين، فقد قال مخاطباً جنوده قبيل احتلاله لجزيرة ملقة (في ماليزيا حاليا): "إن خدمة جليلة سنقدمها للرب بطردنا العرب من هذه البلاد، وبإطفائنا شعلة محمد، بحيث لا يندلع لها بعد ذلك لهيب.. وإنني على يقين أننا لو انتزعنا تجارة ملقة من أيديهم لأصبحت كل من القاهرة ومكة أثراً بعد عين".
وكان البوكيرك، قبل تعيينه نائباً لملك البرتغال في الهند، قد قضى عدة سنوات يتجول في مياه البحرين الأحمر والعربي والخليج، ويمارس القرصنة فيها ضد السفن الإسلامية، ويهاجم المدن الساحلية على جوانبها، بصورة وحشية ودون هوادة، وكان في الوقت نفسه يجمع المعلومات عن أحوال المسلمين، وقدراتهم الدفاعية. ولذلك، وبعد تعيينه حاكماً على المستعمرات البرتغالية في الهند وشرق إفريقيا اشتد الخطر البرتغالي على المسلمين، في البحار الجنوبية والشرقية، لأنه نقل المعركة ضدهم إلى داخل البحر الأحمر، ثم لم يلبث أن بعث برسالة إلى ملك البرتغال يرغبه فيها بغزو الأراضي المقدسة، وتدمير مكة، وذلك انطلاقاً من ميناء جدة، الذي لا يبعد عنها سوى 85 كم، وجاء في رسالته تلك: "ليس في جدة ومكة أناس مسلحون بل دراويش، أما بلاد القديس يوحنا (القدس) فتعج بالناس والخيول. وهل يستطيع ثلاثة آلاف من البدو أن يفعلوا شيئاً في مواجهة خمسمئة خيّال برتغالي؟ وإذا كان الخمسمئة عدداً غير كافٍ فلنأخذ ألفاً. من السهل تدمير مكة، وأظنها قد دمرت".
رسخ العثمانيون تدريجياً تقليداً جديداً، ألا وهو تحديد نطاق توغل السفن الأوروبية في البحر الأحمر، أبعد من ميناء المخا، نظراً لكون الحرمين الشريفين يقعان على مقربة من ساحل هذا البحر
وعندما علم المماليك بهذه الخطة قاموا بتحصين ميناء جدة، وزودوها بالمدافع، ولكنهم توقفوا عند هذا الحد، ولم ينقلوا المعركة من الدفاع إلى الهجوم، بسبب ضعفهم وعجزهم عن المواجهة، حتى إنهم عجزوا عن حماية طريق الحج من الأعراب. ولتحقيق تلك الخطة الجهنمية، قام البرتغاليون، بأربع محاولات لعبور مضيق باب المندب، ومن ثم، التوغل في البحر الأحمر شمالاً، للوصول إلى ميناء جدة، بوابة الدخول إلى مكة. المحاولة الأولى، كانت عام 1513، والمحاولة الثانية، عام 1515، وهاتان المحاولتان كانتا بقيادة البوكيرك نفسه، والمحاولة الثالثة، كانت عام 1517، أي غداة دخول السلطان سليم الأول مصر، وسقوط الدولة المملوكية، وكانت بقيادة "لوبوسوريز"، خليفة البوكيرك، والمحاولة الرابعة، كانت عام 1520، أي بعد دخول العثمانيين مصر وامتداد نفوذهم إلى الحجاز بثلاث سنوات. وكل تلك المحاولات باءت بالفشل بفضل الله ثم بفضل الدولة العثمانية الصاعدة، والتي ورثت دولة المماليك، وتصدت بجدارة للخطر البرتغالي الصليبي الداهم.
العثمانيون والبرتغاليون وجها لوجه
كان العثمانيون، أكثر وعياً من المماليك بالخطر البرتغالي على قلب العالم الإسلامي، وبخاصة على البقاع المقدسة، ولذلك فقد بدأ العثمانيون يتدخلون لمكافحة هذا الخطر منذ وقت مبكر، فقدموا في البداية، كل مساعدة ممكنة للمماليك للتصدي لهذا الخطر. وبعد استيلاء السلطان سليم الأول (1512-1530) على مصر سنة 1517، وخضوع الحجاز للسيادة العثمانية، صار العثمانيون في مواجهة البرتغاليين في البحار الجنوبية والشرقية، وجهاً لوجه، وقد اكتفى العثمانيون في البداية بتحصين ميناء جدة وشحنه بالمقاتلين الأشداء، واتخاذه قاعدة للدفاع عن البقاع المقدسة، حيث عهد السلطان سليم إلى القائد البحري العثماني الكبير سلمان رئيس، بأمر القيادة في هذا الميناء. وفي عهد السلطان سليمان القانوني (1520-1566)، وضعت خطط إستراتيجية عليا لمكافحة الخطر البرتغالي في المحيط الهندي، فتم بناء أسطول البحر الأحمر العثماني في ميناء السويس، وتجهيزه بالمدافع والمعدات الحربية، بسرعة قياسية، برغم العقبات والصعوبات. وفي عام 1538، تحرك هذا الأسطول نحو الهند معقل البرتغاليين، فافتتح في طريقه إليها جميع الموانئ العربية الواقعة على البحرين الأحمر والعربي، كميناء عدن الإستراتيجي، الذي صار قاعدة للتصدي للخطر البرتغالي في المحيط الهندي، كما افتتحوا ميناء مسقط سنة 1551، وجعلوه قاعدة للتصدي للبرتغاليين في الخليج العربي ومضيق هرمز.
ومع ذلك، فقد ظل القلق يساور العثمانيين على أمن الحرمين الشريفين، نظراً للوجود البرتغالي القوي في شرق إفريقيا على السواحل الغربية للبحر الأحمر، المقابلة لميناء جدة، وأيضاً على سواحل المحيط الهندي، وبخاصة بعد أن نجح البرتغاليون في إعادة بناء الدولة الحبشية النصرانية، كحليف قوي لهم هناك، وزودوها بالأسلحة النارية، التي لم تكن مألوفة من قبل في شرقي إفريقيا. لذلك فقد استقر رأي الباب العالي على ضرورة فتح شرق افريقيا، وذلك لأجل إغلاق البحر الأحمر في وجه السفن البرتغالية تماماً. وقد أعد هذه الخطة أزدمر باشا، صاحب الفتح العثماني الأول لليمن، والذي اشتهر بالشجاعة والمهارة الحربية، وصادق السلطان سليمان على الخطة سنة 1555، وكلف أزدمر نفسه بفتح هذه الجهة لخبرته بشئونها. وقد تحرك أزدمر من مصر في نفس العام، على رأس ثلاثة آلاف مقاتل، فافتتح أهم الموانئ في شرق إفريقيا، وهي سواكن ومصوع وزيلع، وجميع سواحل البحر الأحمر الإفريقية، بمساعدة الأسطول العثماني، وبسط سلطة العثمانيين على الجزء الشمالي الشرقي من إفريقيا، من حدود مصر حتى خليج عدن، واختار أزدمر مدينة مصوع عاصمة لهذه الولاية الجديدة (ولاية الحبشة)، وحولها إلى قاعدة عسكرية للحرب ضد البرتغاليين وحليفتهم مملكة الحبشة، وكانت قلعة جدة جزءاً من هذه الولاية، حيث كان يقيم بها الوالي العثماني أحياناً.
البحر الأحمر بحيرة إسلامية
وقد استمر أزدمر باشا والياً على ولاية الحبشة، وفي جهاد البرتغاليين والأحباش في المحيط الهندي، ورد عاديتهم عن الحرمين الشريفين وعن سواحل بلاد المسلمين، حتى وفاته سنة 1560، وخلفه على ولايتها ولده عثمان. وهكذا ثبّت العثمانيون سلطتهم على سواحل مضيق باب المندب من الجانبين، وحرموا مملكة الحبشة حليفة البرتغاليين، من أي موطئ قدم على البحر الأحمر، والساحل الصومالي، وجعلوها دولة داخلية مغلقة محاصرة باليابس من كل اتجاه، وقطعوا الاتصال بينها وبين البرتغاليين، وتم إغلاق البحر الأحمر، تماماً في وجه السفن البرتغالية، وسفن القوى الأوروبية الأخرى، وعني العثمانيون بتحصين ميناء عدن أفضل عناية، لكونه البوابة الحقيقية للبحر الأحمر، والقاعدة المتقدمة لحماية الحرمين الشريفين، ولذلك يرد آخر ذكر لهجوم برتغالي على مينائي سواكن والسويس في عام 1556.
كما تم القضاء على سيطرة البرتغاليين على الطرق البحرية، وتعرضت محاولاتهم لاحتكار التجارة الشرقية إلى ضربة قاسية بالكف العثمانية، وأرغموا على استقبال السفن الإسلامية، في المرافئ التي ظلت خاضعة لسيطرتهم، وعاد النشاط التجاري الإسلامي إلى البحر الأحمر والخليج العربي، كما كان عليه قبل قدوم البرتغاليين، وأصبحت القاهرة من جديد في منتصف القرن 16، سوقاً تمد أسواق أوروبا، باستثناء البرتغال وإسبانيا، بشتى أنواع توابل الشرق. وقد عمل العثمانيون على منع سفن النصارى من الإبحار في البحر الأحمر، أبعد من ميناء المخا، الواقع في أقصى جنوب هذا البحر، والذي حل محل ميناء عدن، في النشاط التجاري خلال العهد العثماني، نظراً لما تعرض له ميناء عدن من تخريب من قبل الأساطيل البرتغالية الغازية، ونظراً لكون الوصول إلى ميناء المخا يتطلب عبور مضيق باب المندب بالضرورة، ذلك الشريان الحيوي، الذي يعتبر نقطة تحكم بيد العثمانيين، في غلق الملاحة البحرية في البحر الأحمر، عند اللزوم، وذلك بعكس ميناء عدن المفتوح على مياه المحيط الهندي. وقد استمر ميناء المخا يلعب هذا الدور حتى استيلاء الإنجليز على عدن عام 1839.
وقد رسخ العثمانيون تدريجياً تقليداً جديداً، ألا وهو تحديد نطاق توغل السفن الأوروبية في البحر الأحمر، أبعد من ميناء المخا، نظراً لكون الحرمين الشريفين يقعان على مقربة من ساحل هذا البحر، وكانت محاولات البرتغاليين للوصول إلى جدة لتنفيذ مخططهم الشرير لتدمير مكة، مبرراً كافياً لترسيخ هذا التقليد، وبذلك تم تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة إسلامية، لم يكن يُسمح بالإبحار فيها إلا للسفن الإسلامية، وظل هذا التقليد معمولاً به حتى منتصف القرن التاسع عشر. وظل العثمانيون يحتفظون بدورهم الأول في التجارة العالمية بين أوروبا والشرق الأقصى ردحا طويلا من الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق