’’قد تكون أهم المهام على الإطلاق، هي إجراء دراسات في البدائل الراهنة للاستشراق، فيمكن للمرء دراسة الثقافات والشعوب من منظور متحرر من الكبت’’.
إدوارد سعيد
يُشير وائل حلاق في الفصل الثالث، من قصور الاستشراق إلى استنزاف النظام الفكري في العالم، خلال الدورات التي فُرضت عبر الاستشراق وغيره، كأدوات للحداثة الغربية، فمَنَع هذا الاستنزاف أي قدرة على نقد تفكيكي من خارج المنظومة، بل إن غياب هذا النقد بحسب رينيه غينون، ساهم في دعم الاستشراق الألماني لفكرة النازية بذاتها، رغم أن الاستشراق الألماني يُنظر له بأنه متعاطف مع الأقليات، لكنه أصبح أداة ضمن (الحضارة) الباعثة له، حين تحول إلى وسيلة أداتية خدمةً للتطلع القومي الألماني.
ولاحظ هنا كيف وصل غينون مبكراً، عبر هذا التحرر لاستشراف مخاطر الفلسفة، المؤسِسَة للعلو القومي، وهي إحدى المحددات الدقيقة لأزمة الفلسفة الغربية الحديثة، التي تكرست في الإطار العنصري، وبالتالي لا يُمكن أن يُعاد تنظيم المرجعية الأخلاقية للمصالح البشرية، ورسالة الفلسفة دون أن يحرر مفهوم المادة من القيمة، الذي قاد انحراف المبدأ الأصلي للحداثة فيها، في خلط مفاهيم الاقتصاد والعلم والفلسفة والتقدم والقومية، ثم رُهن نظام العالم الفكري بها، حتى اليوم.
واعتمدت وعممت في الأكاديمية العالمية، فلم يكن الاقتصاد اقتصاد عدالة وتوزيع ثروة عالمي، وخصخص العلم التجريبي لصالح المادة لا المعرفة، وأضحى التقدم مصطلحاً، يعني اقصاء الآلة العنيف لتوازن الإنسان وروحه، ودُمجت جميعاً بما فيها السبق العلمي في المصالح القومية التي اعتمدت العلو للتفوق الغربي، وهذا ليس رفضاً للعلم، ولكن للتوظيف المادي المتطرف.
فكيف يكون هذا المنتج مرجعاً أخلاقياً ومعرفياً، لصالح الحياة البشرية؟
في حين وخلافاً، لما يظنه أنصار الحضارة الغربية المطلقون، فإن إعادة تأسيس هذه المصطلحات معرفياً، لن يذهب بالخيرية التي جاءت بها بعض الأسس لنفع البشرية، وإنما ستَمنَع الثورة المعرفية الجديدة، قواعد التطرف التي أهلكت وآذت الطبيعة والإنسانية الاجتماعية، من الاستمرار في التدمير الكوني للعالم.
وعبارة إدوارد سعيد في صدر المقال مهمة جداً، في اتحاد المعيار التقييمي الكلي للثلاثي غينون، سعيد، حلاق، لمعيار نقد منتج الفلسفة الغربية، وهو التحرر، وإن كان سعيد يخصّصه هنا بالاستشراق، وهذا بالطبع مفصل الإدانة المتكررة من حلاق لإدوارد سعيد، كونه ظل في هامش الاستشراق، ولم يتقدم إلى مساحة المتن الفلسفي الذي أُسس عليه الاستشراق، وهي الحداثة المادية.
ولكننا هنا نلمس توافقاً مهماً تاريخياً، رغم أن هناك مأزق معرفي لدى سعيد، في حصيلته الضعيفة للغاية عن تاريخ العلوم والمعرفة الإسلامية، فيقسو حلاق مجدداً على سعيد، في قوله أن سعيد لم تكن إشاراته أبعد من حصر أزمات الحداثة، في النطاق السياسي لتوظيف الاستشراق، والحقيقة أن كتابات سعيد تظهر فضحه، لمأسسة الأزمة الغربية أخلاقياً مع الشرق بوضوح، لكن التشكيك المعرفي المقارن ضعيف جداً، لدى سعيد لكونه لا يطرح رؤية مقابلة.
ونريد هنا أن نتجاوز النوايا إلى تكثيف المحدد الدقيق، في هذا الانحراف، ليس لدى سعيد ولكن لدى بقية الهامش الضخم الذي مَلأت به الأكاديمية الغربية فروعها في الشرق، وعليه أحتل النطاق المركزي العالم فكرياً، وحسم مؤصلات إنسانية خطيرة، تقوم عليها مصالح البشرية وتوازنها الأخلاقي والبيئي، وعُزل دور الأخلاق الفلسفية في مدافعة موازين العالم السياسية، كل ذلك إنهار، تحت سلطة النطاق المركزي الغربي، الذي حُصّن عن النقد الأصلي من منصات مستقلة، وأوجد هامشه النقدي لملأ الفراغ، فاكتملت الكارثة.
يقول حلاق: (إن الناقد لظاهرة إنحراف الاستشراق، حين يكون جزءًا أساسياً منها، لا يعدو كونه نوع من التواطؤ بن سلطتين) وهذا المعيار دقيق جداً في تحرير المسألة ولعبة تدوير النقد، ليس لأن كل الباحثين الذين سقطوا في هذا الفخ، نواياهم سيئة بالضرورة، ولكن لعبت المصالح المادية الأكاديمية دوراً كبيراً بينهم، بما فيه تجديد الاقتصاد الرأسمالي المتطرف، الذي تم من قلب الأكاديمية، ونطاقها المركزي.
فتحول الناقد إلى ترس استهلاك حتى لو صلحت نواياه، في خدمة هذا النطاق، ما دام لا يعدو هوامشه، وبالتالي فإن تساؤل فريدريك تشيلر وغيره عن النظام الأخلاقي، ظل حبيساً في هذا الهامش، لم يستطع أن يخرج إلى منظومة النقد المركزي وهنا تبدو العودة لرينيه غينون، ضرورة فلسفية معرفية وأخلاقية، دون أن تعني القبول المطلق لكل نظرياته.
ويجب هنا أن أوثق شهادة وائل حلاق، في المعنى الذي ذكرته سابقاً، في مآل رينيه غينون مقابل ميشيل فوكو، حيث يؤكد حلاق بأن: عنصرية الفرنسيين والأوربيين ورهاب الإسلام المقيت، كان سببا في استبعاد غينون و (اضطهاده)، بسبب إسلامه واختيار بيئته الشرقية، فخسر الفكر العالمي، اقتراحاً جريء إصلاحي لتحرير نطاقه المركزي.
وهنا ندرج مسارين مهمين لمنهج غينون:
1- لا يشترط غينون على الغرب التخلي عن استقلاله المعرفي، ولكنه يُذكرهم بان حضارتهم لن يتم إصلاحها، دون التجديد الحقيقي للعلاقات الفكرية مع الشرق، التي تفتح لهم الدروس والإلهامات المعرفية من الشرق، دون تخلي المرء عن استقلاله.
2- يطرح غينون مركزية التوافق على المبادئ الفلسفية، لتحرير الطريق الثالث.
فكيف يقاس النقد وهو تحت شروط الهامش الذي يخلقه المركز، بل إن فكرة تعميم الديمقراطية اللبرالية على العالم، بحجة التقدم، لم يحترمها الغرب ذاته، وسقطت فكرة (الديمقراطيات لا تحارب بعضها)، فالديمقراطيات في الشرق، تُنقض فرصها من القوة السياسية، المدعومة من الحداثة ذاتها.
ويرى غينون بأن معيار التطوير للحضارات بأنها قادرة على تطوير نفسها، دون أن تكون خطراً على الحضارات الأخرى، وهنا مركز جدل معرفي حاسم، حين نتأمل بوعي ودقة، أثر الحضارة الإسلامية التشاركية على العالم، ومآل الحضارة الحداثية القمعية للغرب، رحلة تختصر الكثير من مجلدات الحوار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق