في تأكيد "أولويات" الأمن القومي المصري
ثمّة خللٌ كبيرٌ في رؤية النظام المصري الحالي لأولويات الأمن القومي للبلاد. وقد اتضح ذلك جلياً في الخطاب المتوتر الذي ألقاه الجنرال عبد الفتاح السيسي قبل أيام بشأن الأوضاع في ليبيا، وهدّد فيه بالتدخل العسكري المباشر هناك، إذا تجاوزت قوات حكومة الوفاق الوطني مدينة سرت وقاعدة الجفرة، واللتيْن اعتبرهما السيسي "خطاً أحمر".
ويحار المرء في تفسير هذا الخلل المدهش في رؤية السيسي للأمن القومي للبلاد، والذي استبدل فيها القضايا المصيرية للشعب المصري، وأهمها مسألة نهر النيل، بقضايا تبدو ثانوية وهامشية، مثل المسألة الليبية، فلا يختلف اثنان لديهما حدٌّ أدنى من العقلانية على أن مياه نهر النيل يجب أن تحتل سلّم أولويات الأمن القومي لمصر، وأن يكون تهديد هذه المياه بمثابة "خط أحمر"، لا يمكن لأحد تجاوزه وإلا دفع الثمن، فنحن نتحدث عن شريان الحياة لمصر والمصريين منذ آلاف السنين، والذي لم يكن يوماً مهدّداً كما يحدث الآن على خلفية بناء سد النهضة الإثيوبي، وفشل المفاوضات الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن التوصل إلى اتفاق لملء السد وتشغيله، ما حدا بها إلى رفع الأمر إلى مجلس الأمن الدولي للمساعدة في حله. وفي الوقت الذي يبدو فيه السيسي حاسماً (أو هكذا يحاول أن يبدو) في ما يخص الملف الليبي، فإنه يبدو مهادناً ومتردّداً ومتخبطاً في ما يخص ملف سد النهضة!
تاريخياً، لم تمثل الجبهة الغربية تهديداً جدّياً للأمن القومي المصري، على الرغم من طول
الحدود مع ليبيا، والتي تتجاوز ألف كلم. وباستثناء مناوشات عسكرية حدثت بين أنور السادات ومعمر القذافي في السبعينيات على خلفية السلام مع إسرائيل، ظلت تلك الجبهة هادئة وساكنة. صحيحٌ أن الوضع تغيّر بعد ثورة فبراير في ليبيا، وسيطرة حالةٍ من الفوضى بسبب الفراغ الذي نتج عن سقوط القذافي، إلا أن الأمر لم يصل إلى حد التهديد الجدّي أو الوجودي للأمن القومي المصري، كما يحاول السيسي تصويره، فالخطر على مصر، دولةً ومجتمعاً وشعباً، كان يأتي دوماً من الجبهة الشرقية، من سيناء التي كانت مدخلاً إلى الغزو والاحتلال منذ قديم الزمان، وأخيراً مع ظهور الجماعات والتنظيمات المسلحة، وأهمها تنظيم ولاية سيناء الذي يخوض معركة استنزاف مع الجيش المصري منذ أكثر من ستة أعوام. أما الخطر الأهم الآن فهو الذي يأتي من الجبهة الجنوبية لمصر، وتحديداً من منابع نهر النيل في إثيوبيا التي أوشكت على الانتهاء من بناء سد النهضة، والذي سيبدأ ملؤه خلال أيام، ما ينذر بآثار وخيمة على مصر والمصريين.
كيف نفسر هذا الخلل في رؤية السيسي للأمن القومي لمصر؟ هل هذا الخلل عفوي أم مقصود؟ يخلط الرجل، بمكر ودهاء، بين الأمن القومي للبلاد وأمن نظامه السياسي، فهو لا يعبأ كثيراً بالمجتمع والشعب والمواطن، وإنما يعبأ بالأساس بكيفية بقائه في السلطة. ولذا يرى في ما يحدث في ليبيا خطراً وجودياً على نفسه وعلى نظامه، لا يجب التهاون معه، خصوصاً بعد تحوّل الحسابات والموازين على الأرض لصالح الحكومة الشرعية، وذلك على حساب أمير الحرب، خليفة حفتر، والذي يدعمه السيسي، وكان فشله ذريعاً في السيطرة على طرابلس، بعد
حملته التي استمرت حوالي 14 شهراً منذ إبريل/ نيسان 2019.
يعتقد السيسي أن نجاح العملية السياسية في ليبيا، خصوصاً إذا تمت بطريقة ديمقراطية، سوف تكون وبالاً عليه، وعلى حلفائه، خصوصاً الإمارات والسعودية، إذ إنها قد تؤدي إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة، أو على الأقل المشاركة فيها، وهو ما يمثل خطاً أحمر بالنسبة للسيسي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، فالتحالف الثلاثي بين هؤلاء يقوم على معاداة تيارات الإسلام السياسي واستئصاله، ليس فقط في بلدانهم، وإنما أيضاً خارجها، وذلك حتى لو تطلّب الأمر التضحية ببلد مثل ليبيا وباستقرارها، من أجل تحقيق هذا الهدف.
وأيضاً يبدو أن السيسي أصابه الرعب من اقتراب تركيا من حدوده الغربية، وهو الذي يكّن لها عداء كبيراً بسبب موقفها الرافض انقلابه على السلطة عام 2013، وبسبب التصريحات المتكررة للرئيس التركي أردوغان التي يسخر فيها دوماً من السيسي ونظامه. لذا فإن وجود تركيا على الحدود الغربية لمصر، ولو بشكل شرعي، من خلال اتفاقات تعاون استراتيجي مع
الحكومة الشرعية في ليبيا، يمثل خطراً كبيراً على نظام السيسي، بل وعليه شخصياً. ما يجعله يعيد ترتيب أولوياته الاستراتيجية في المنطقة، كي يضع تركيا في موضع العدو الأول.
وفي المقابل، لم يتعامل السيسي بالحذر أو الذكاء المطلوب مع ملف سد النهضة، فقد كان توقيعه على اتفاق المبادئ في مارس/ آذار 2015، واعترف فيه صراحة ببناء السد، ما أعطى إثيوبيا ما كانت تطمح إليه منذ عقود، بشأن إسقاط الاتفاقات التاريخية المنظِّمة لاستخدام مياه النيل، التي حافظت على حصة مصر وحقوقها التاريخية فيها، بمثابة كارثةٍ وطعنةٍ كبيرة للأمن القومي المصري، فقد تحللت أديس أبابا من أية التزامات قانونية وتاريخية بخصوص توزيع مياه النيل، وكذلك في ما يخص عدم بناء سدود على النيل الأزرق من دون الرجوع إلى دولتي المصب (مصر والسودان) والحصول على موافقتهما. بل على العكس، لَام السيسي، وإعلامه ثورة يناير على ما حدث في موضوع سد النهضة، لتبرير تخاذله وفشله في التعاطي مع إثيوبيا.
وعليه، لن يصبح نهر النيل خطاً أحمر بالنسبة للسيسي، أو من يؤيدونه ويدعمونه، وذلك طالما أنه لا يمثل تهديداً مباشراً لنظامه أو بقائه في السلطة، وهو ما يعكس الخلل الكبير الذي أصاب ميزان الأمن القومي المصري.
تاريخياً، لم تمثل الجبهة الغربية تهديداً جدّياً للأمن القومي المصري، على الرغم من طول
كيف نفسر هذا الخلل في رؤية السيسي للأمن القومي لمصر؟ هل هذا الخلل عفوي أم مقصود؟ يخلط الرجل، بمكر ودهاء، بين الأمن القومي للبلاد وأمن نظامه السياسي، فهو لا يعبأ كثيراً بالمجتمع والشعب والمواطن، وإنما يعبأ بالأساس بكيفية بقائه في السلطة. ولذا يرى في ما يحدث في ليبيا خطراً وجودياً على نفسه وعلى نظامه، لا يجب التهاون معه، خصوصاً بعد تحوّل الحسابات والموازين على الأرض لصالح الحكومة الشرعية، وذلك على حساب أمير الحرب، خليفة حفتر، والذي يدعمه السيسي، وكان فشله ذريعاً في السيطرة على طرابلس، بعد
يعتقد السيسي أن نجاح العملية السياسية في ليبيا، خصوصاً إذا تمت بطريقة ديمقراطية، سوف تكون وبالاً عليه، وعلى حلفائه، خصوصاً الإمارات والسعودية، إذ إنها قد تؤدي إلى وصول الإسلاميين إلى السلطة، أو على الأقل المشاركة فيها، وهو ما يمثل خطاً أحمر بالنسبة للسيسي وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وولي عهد السعودية محمد بن سلمان، فالتحالف الثلاثي بين هؤلاء يقوم على معاداة تيارات الإسلام السياسي واستئصاله، ليس فقط في بلدانهم، وإنما أيضاً خارجها، وذلك حتى لو تطلّب الأمر التضحية ببلد مثل ليبيا وباستقرارها، من أجل تحقيق هذا الهدف.
وأيضاً يبدو أن السيسي أصابه الرعب من اقتراب تركيا من حدوده الغربية، وهو الذي يكّن لها عداء كبيراً بسبب موقفها الرافض انقلابه على السلطة عام 2013، وبسبب التصريحات المتكررة للرئيس التركي أردوغان التي يسخر فيها دوماً من السيسي ونظامه. لذا فإن وجود تركيا على الحدود الغربية لمصر، ولو بشكل شرعي، من خلال اتفاقات تعاون استراتيجي مع
وفي المقابل، لم يتعامل السيسي بالحذر أو الذكاء المطلوب مع ملف سد النهضة، فقد كان توقيعه على اتفاق المبادئ في مارس/ آذار 2015، واعترف فيه صراحة ببناء السد، ما أعطى إثيوبيا ما كانت تطمح إليه منذ عقود، بشأن إسقاط الاتفاقات التاريخية المنظِّمة لاستخدام مياه النيل، التي حافظت على حصة مصر وحقوقها التاريخية فيها، بمثابة كارثةٍ وطعنةٍ كبيرة للأمن القومي المصري، فقد تحللت أديس أبابا من أية التزامات قانونية وتاريخية بخصوص توزيع مياه النيل، وكذلك في ما يخص عدم بناء سدود على النيل الأزرق من دون الرجوع إلى دولتي المصب (مصر والسودان) والحصول على موافقتهما. بل على العكس، لَام السيسي، وإعلامه ثورة يناير على ما حدث في موضوع سد النهضة، لتبرير تخاذله وفشله في التعاطي مع إثيوبيا.
وعليه، لن يصبح نهر النيل خطاً أحمر بالنسبة للسيسي، أو من يؤيدونه ويدعمونه، وذلك طالما أنه لا يمثل تهديداً مباشراً لنظامه أو بقائه في السلطة، وهو ما يعكس الخلل الكبير الذي أصاب ميزان الأمن القومي المصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق