الاثنين، 29 يونيو 2020

(كيف نقرأ؟) لا (ماذا نقرأ؟)

(كيف نقرأ؟) لا (ماذا نقرأ؟)

علي فريد

7إبريل 2018

اللغة كالحب.. إن ظللتَ تقرأ عن قواعدها ظللتَ كالواقف على شاطئ بحرٍ من نور ينظر إلى السابحين في نعمائه...

علومُ اللغة ليست أكثر من (علومِ) لغة؛ قد تمنحك المعرفة بقواعدها، ولكنها لا تمنحك -غالبًا- الذوق والتذوق قراءةً وكتابةً!!
فقه اللغة، والصرف، والنحو، والبلاغة، والعروض، والإملاء، ليست -غالبًا- أكثر من خُلاصات مقننة وقوانين مستخلصة من كلام العرب وطرائقهم في التعبير.. وما نشأت هذه العلوم إلا بعد انحراف اللسان واعتلال الذائقة بدخول أحبابنا الأعاجم في الإسلام واختلاط العرب بهم.
اكتفاؤك بدرس الخلاصات وتَعلّم القوانين لن يعطيك أكثرَ من خلاصات وقوانين.. سيحفظك من الخطأ واللحن غالبًا، وربما يعطيكَ حدًا أدنى من الذوق والتذوق (وأشك في ذلك مع طرائق الدرس اللغوية الحالية)!!
مع القواعد والخلاصات ستظل تقرأ (حول) اللغة وليس (في) اللغة.. فرقٌ كبيرٌ بين القراءة عن الحب والوقوع في الحب!!
حين تقرأ (عن) الحب ستشعر بشيءٍ من الشجن الجميل.. حين تقع (في) الحب لن تشعر بشيء أبدًا.. إنما هي لفحة هجير أو نفحة نسيم، ثم سلام الله على روحك أبد الدهر!!!
اللغة كالحب.. إن ظللتَ تقرأ عن قواعدها ظللتَ كالواقف على شاطئ بحرٍ من نور ينظر إلى السابحين في نعمائه كما ينظر القارئ عن الحب إلى المحبين المتقلبين في نعماء عذاباته وعذابات نعمائه.. هو خَلِيٌ شَجيٌ؛ يرى ما يتمنى من نعيم، ولا يكاد يُدرك نعيمَ ما تمنى.. وحسبك بهذا ألمًا وحسرة!!
قَعْ في الحب لتنعم بعذاباته..
وقَعْ في اللغة لتتعذب بنعيمها!!

وقد مضى عليَّ زمنٌ يُكثر الأصدقاءُ فيه من سؤالي عن: ماذا نقرأ لِندركَ اللغة؟ فأجيبهم: بل قولوا: كيف نقرأ لنقع في اللغة؟!
السؤال عن الكيف أولى؛ لأن (كيف) تخطيط لـ(ماذا)..
والوقوع في اللغة أصوب؛ لأن اللغة لا يُحيط بها- كما قيل- إلا مَلكٌ مقرب أو نبيٌ مُرسل!!
حسبك أن تقع ثم احتمل النعيم إن استطعت!!
عَلَّمنِي أشياخي.. وها أنا أنقل لك ما تعلمتُه.. قالوا:

أولًا:
ابدأ قراءتك بجزء من القرآن الكريم.. وكلما زدت فيه زادت البركة في وقتك..
ولا تظنن أن اكتفاءك بنصفِ جزءٍ مثلًا قد يمنحكَ بعضَ وقتٍ لتدركَ فيه شيئًا آخر تحرص عليه.. كلا .. فما تظنه نقصانَ زمنٍ في جزء؛ سيعوضه اللهُ لك بركةَ وقت، وكمالَ فَهمٍ، وتمامَ علم.

ثانيًا:
اقرأ شيئًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. (ثلاثة أحاديث) بحدٍ أدنى.. ولا تزد على (الخمسة)..
ثم اقرأ شرحها ومعانيها وفقهها وأحكامها وما يُستفاد منها..

ولا بأس أن تبدأ بكتاب: رياض الصالحين.. والخيار لك في المدونات الكبرى كالبخاري ومسلم.. وغيرهما من كتب الصحاح.

ثالثًا:
اقرأ ما تيسر من شعر العرب لتعرف طرائقهم في المنظوم وتفننهم فيه، وتَطَّلِعَ على معانيهم التي تجعل الحليمَ حيرانًا.. وأمامك دواوين لا تكاد تحصى لشعراء العربية..

وإذا أردتَ نصيحتي فابدأ بالمدونات الكبرى التي جمعت شعر عددٍ من الشعراء، ولا تبدأ بديوان شاعر بعينه إلا إن أحببتَ ذلك.. فإن قراءتك لهذه المجاميع ستعطيك تصورًا عامًا عن الشاعر قبل أن تلج بيته وتنزل ساحته.. كما ستُولِّدُ في ذهنك وروحك وعقلك حس المقارنة بين الشعراء ومعرفة طرائقهم في التعبير حتى ليكاد الشاعر يتجسد أمامك شخصًا من لحم ودم في حروف وكلمات..
وليتك تبدأ بمختارات الأدباء والشعراء فإن هؤلاء يعرفون مداخل الكلام ومخارجه، وهم كالصيارفة يُحسنون معرفة الصحيح من الزائف؛ فاختياراتهم- غالبًا- أكثر فائدة لك من أن تُلقي بنفسك في لجج شاعر بعينه قد لا تعرف مواطن قوته ومواطن ضعفه..

وهاك بعض المدونات والمختارات: (المفضليات)، (الأصمعيات)، (جمهرة أشعار العرب)، (ديوان الهذليين)، (الحماسة)، ( الحماسة البصرية)، (مختارات ابن الشجري)..
وما شئت بعدها من مختارات اختارها أدباء وشعراء قدماء، أو اختارها أدباء وشعراء محدثون لشعراء قدماء.. مثل: مختارات البارودي..، أو الحماسة الصغرى لعبد الله الطيب..
ثم ما شئت بعدها من دواوين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام والدولة الأموية ثم الدولة العباسية.. هكذا على التتابع..
ولا تجعل للشعراء المحدثين حظًا من قراءتك في ابتداء أمرك.. فإن استحكم القديم الأصيل في روحك فألقِ بنفسك حيث شئت.

رابعًا:
اقرأ شيئًا من خُطب العرب ورسائلهم، ومناظراتهم في أسواقهم وحروبهم ومجامعهم، ووصاياهم لأبنائهم وإخوانهم؛ لتعرف كيف كانوا يتأنقون في نثرهم كما كانوا يتأنقون في شعرهم؛ فإن نثر العرب لا يقل عن شعرها جمالًا وألقًا وحكمةً.. وقد جمع الأستاذ/ أحمد زكي صفوت، شيئًا كثيرًا من خطب العرب ومناظراتهم ووصاياهم ومفاخراتهم في كتابه (جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في ثلاثة أجزاء.. كما جمع رسائلهم في كتابه (جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة)، وجعله في أربعة أجزاء.. وفيهما كفاية في هذا الباب إن شاء الله.

خامسًا:
اختر كتابًا من كتب المدونات الجامعة في الأدب واللغة واقرأ ما تيسر لك منها، ولا تقفز من كتاب إلى كتاب فإنك إن قفزت ضيعت الأول ولم تُدرك الثاني، أما الثالث فَسَتَكُفُّ به عن القراءة لشعورك بالتيه بينها.. فالتزم كتابًا واحدًا في خريطتك هذه؛ فإن أنهيته فابدأ بالثاني.. وهكذا دواليك..
ومن هذه الكتب: البيان والتبيين للجاحظ، أدب الكاتب لابن قتيبة، الأمالي لأبي علي القالي، الأمالي للشريف المرتضى، العقد الفريد لابن عبد ربه، الكامل للمبرد، زهر الآداب للحصري... وكثيرٌ غيرها يكاد يستعصي على الحصر..
وليس الغرض هنا الحصر، بل الإشارة.. وإلا فإن كل فن من فنون العربية فيه من الكتب ما يستعصي على الحصر.. والغرض استنبات الذائقة بعد موات أو غرسها إن لم تكن..

ثم احذر كل الحذر -حين تقرأ هذه المدونات- مِنْ أنْ تظن أن كلَّ ما فيها صحيحٌ مُسلَّمٌ بصحته.. فهي -في غالبها- ليست كتبَ أسانيد ولا روايات مسانيد يتوخى فيها صاحبُها الصوابَ والصحة؛ بل اللغةَ والأدبَ والحِكَم والأخبار والمواعظ والمتعة.. وهذا ضَربٌ دَخَلَهُ كثيرٌ من الانتحال والكذب والتوسع في الرواية على عادة القُصَّاص في المساجد والمنتديات والمقاهي.. فلا تطيرنَّ بما تقرأ فيها كل مطار؛ فتستدل بواقعة من وقائعها أو خبر من أخبارها على صحة رأيٍ أو بطلانه إلا إن ثبتت في غيرها من كتب الرواية المسندة.. واعلم أن غرضك اللغة وتذوقها؛ فإن حصل الغرضُ بالصحيح المُسند فهو خيرٌ وبركة، وإن اختلط بعض الصحيح ببعض الزائف أدركتَ غرضك وحفظت عقلك من الزيف.. وفي بعض هذه الكتب ما ينافي الدين والخُلق وما تعارف عليه الناس من حياء وتذمم وتأثم.. والناس مذاهبُ شتى، والبشر على ما هُم مُذ كانوا.. فيهم الصالح التقي والفاسد الغَوِيّ .. فتخير لنفسك ما يُصلحها وجَنِّبها ما يُفسدها.. ثم لا بأس عليك أن تقرأ الكتاب الذي تُحقق به غرضَكَ ولو كان فيه (بعض) سوء إن رأيتَ في نفسك حصانة وتحصينًا، ولا توغل في ذلك فتصير كطالبِ سوءٍ يُعلل نفسه بتحقيق الغرض.. فإن السوء حلوٌ طعمُه مُرةٌ عاقبته!!

ثم أما بعد..
فلا يهولنك ما ترى.. ولا تقولن لنفسك كيف أقرأ كل هذا.. ومن أين آتي بالوقت لكل هذا.. فوالله إن هذا لن يأخذ من وقتك أكثر من ساعتين.. وربما أقل.. إن جزءًا واحدًا من القرآن الكريم.. وثلاثة أحاديث نبوية شريفة.. ومقطوعة أو مقطوعتين من شعر العرب.. وخطبة أو خطبتين من خطبهم ورسائلهم.. وصفحة أو صفحتين من كتب المدونات الأدبية واللغوية.. لن تأخذ منك أكثر من ساعة أو تزيد قليلًا.. ألا تستطيع أن تحفظ ذائقتك بساعة من الزمن تُضيع ضِعفَها بل أضعافها فيما لا يفيد!!

ولا تستبطئن الثمرة.. فإني أعرف إخوانًا بدؤوا بهذه الطريقة منذ عامٍ فأتموا بهذه الساعة: البيان والتبيين، والكامل، والحماسة، وخطب العرب بأجزائه الثلاثة.. وهم لا ينفقون من وقتهم أكثر من ساعة.. وبعضهم له كتاب يسميه (كتاب السرير) يختاره مما خف على النفس والروح كقصص العرب أو الأغاني للأصفهاني.. يضعه في غرفة نومه بجانب سريره، فإذا دخل غرفته فتح الكتاب نصف ساعة أو تزيد حتى يقع الكتاب على وجهه من النوم.. وبهذه الطريقة أنهى كتاب الأغاني في عامٍ تقريبًا.. وبعضهم يعيش بهذه الطريقة منذ عشرين عامًا لا يكاد يُسقطها حضرًا وسفرًا.

ثم إنني بعد ذلك كله لا أكاد أعرف طريقة تستنبت الذوق والتذوق قراءةً وكتابةً مثل هذه الطريقة.. وعبثًا والله تطلب كتب النحو والصرف إن كان هدفك الذوق والتذوق.. بل إن هذه الطريقة ستعطيك- شيئًا فشيئًا- قواعدَ النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة وما شئت من قواعد كلام العرب وقوانينه المستخلصة.. ولا يعني هذا إهمال كتب النحو والصرف وأمثالها من كتب القواعد والقوانين، بيد أن المقصد أن غاية هذا غير غاية ذاك.. ولا تتم غاية هذا إلا بالحرص على المداومة على ذاك.

وأنتَ -بعد هذا كله- قمينٌ أن تقع في اللغة فتنهض بها حين توقع بك (ونعمت الوقيعة).. تمامًا كما تقع في الحبِ فتَرِقّ به حين يقسو عليك.. (وما ألذها من قسوة)!!
نفعك الله ونفع بك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق