نظرات وعبرات.. النكسة العربية الكبرى
كاتب صحفي وباحث فلسطيني
تمر بنا في هذه الأيام من كل عام ذكرى نكسة يونيو/ حزيران 1967م، التي هُزمت فيها الجيوش العربية، واحتل فيها الاحتلال الصهيوني ما تبقى من أرض فلسطين، فما أبشعها من نكسة، وما أصعبها من ذكرى.
ظلت هذه النكسة غُصة في حلق الأمة العربية، يتجرع مرارتها الصغير والكبير، المتعلم والجاهل في كل عام، حتى بعد الانتصار المحدود للجيش المصري عام ١٩٧٣م، حيث ظلت ذكرى النكسة مناسبة قومية شاملة لتجديد التعبئة ضد الاحتلال الصهيوني، ولتوريث الحق الفلسطيني لدى الأجيال العربية الجديدة، وتعزيز الإصرار على استمرار المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، وشرح ما حدث في هذه النكسة من مؤامرات وخيانات واستلهام الدروس الصعبة منها لقادم الأيام.
نكسات لا تنتهي
53 عاماً مضت على هذه النكسة، فأين نحن الآن؟
لم تعد فلسطين القضية المركزية للأمة العربية، ولم يعد الاحتلال الصهيوني عدواً غاصباً، وصارت النكسة شأناً فلسطينياً، وتوالت بعدها نكسات ونكسات، ولكنها لم تكن هذه المرة بين الفلسطينيين والعدو الصهيوني، بل بين الأمة العربية ونفسها، نكسات يحار فيها لب الحكيم وينفطر من أجلها قلب الرحيم، أما العربي فقد أصابته حالة من البلادة والأنانية والتشرذم لم يعرفها من قبل، انهارت معها الأصول والأعراف والتقاليد، وسقطت الهوية بمكوناتها وموروثاتها.
لم تعد نكسة فلسطين تذكرنا بالاحتلال الصهيوني وجرائمه قبل النكسة وبعدها، بل صارت تذكرنا بنكسات الأمة العربية المتتالية من الخليج إلى المحيط
ومنذ نكسة يونيو/ حزيران، والنكسات العربية تتوالى، والانهزام الداخلي – الإقليمي والقطري – يتفاقم، ليزيدنا انتكاساً ونكساً أي طأطأة وذلاً وعجزاً وانكساراً. ورد في معجم لسان العرب – عندما كان للعرب لسان! – في معنى النكسة، أن النكس قلب الشيء على رأسه، والناكس المطأطئ رأسه، ونكس رأسه إذا طأطأ من ذل، وانتكس أي انقلب على رأسه وخاب في أمره، ونُكس الرجل إذا ضعف وعجز، والنَكس المقصر عن غاية النجدة والكرم. انقلبت الأمور على رأسها، وطأطأت الرؤوس من الذل والهوان والخيبة والضعف والعجز والتقصير. فإذا كانت النكسة كذلك لماذا الإصرار على تكرارها واستنساخها، وكأننا أَدْمَنّا الطأطأة والإذعان والذل والهوان؟!
لم تعد نكسة فلسطين تذكرنا بالاحتلال الصهيوني وجرائمه قبل النكسة وبعدها، بل صارت تذكرنا بنكسات الأمة العربية من الخليج إلى المحيط، ومن بينها:
- نكسة ضرب المقاومة الفلسطينية في الأردن ولبنان في سبعينيات القرن الماضي، وما ترتب عليها من انقسامات وعذابات.
- نكسة معاهدة السلام المصري مع الكيان الصهيوني، وما أحدثته من شروخ في البناء العربي السياسي والاقتصادي والعسكري والفكري والاجتماعي، ومن تحييد للدولة الأكبر مكانة في الأمة العربية، والأكثر تأثيراً فيها، وما ترتب على هذه المعاهدة من نتائج سلبية انعكست على مسار القضية الفلسطينية، وفتحت الباب أمام الكيان الصهيوني للتغلغل في جسد الأمة العربية.
- نكسة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في السودان، على يد المشير عمر حسن البشير ومن ورائه الحركة الإسلامية، التي فشلت على مدار ٣٠ عاماً في إقامة شرعية دستورية لها بدلاً من الشرعية الثورية التي تستند فقط على قوة السلطة.
- نكسة احتلال الكويت وما أحدثته من شروخ في جسد الأمة العربية وتمزيق وحدتها، ودفع كل قطر منها للانكفاء على نفسه وتأمينها بما يلزمها من اتفاقيات ومعاهدات أحادية لا شأن لبقية الدول العربية بها ولا بما يترتب عليها سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
- نكسة أوسلو، التي وقّع فيها الفلسطينيون اتفاقية سلام مع الكيان الصهيوني، مازالت تجلب على رأس الشعب الفلسطيني والأمة العربية الكوارث تلو الأخرى، وتقدم للدول العربية والمنهزمين المسوغات السياسية المنطقية للمسارعة في الاعتراف بالكيان الصهيوني، وعقد اتفاقيات سلام كاملة معه.
- نكسة تفاقم الصراعات العربية/ العربية، لأسباب واهية يسهل حلها في جلسة شاي، وما أحدثته من تصدعات هائلة في البنية السياسية والاقتصادية والأمنية والنفسية للدول العربية وأبنائها.
- نكسة فشل المقاومة الفلسطينية في توحيد راياتها والالتقاء على مشروع تحرر وطني مشترك، وما أحدثته هذه النكسة من إضعاف للموقف الفلسطيني على المستويات الفلسطيني والصهيوني والعربي والدولي.
مازالت النكسات العربية تتابع، وقد تبلّدت مشاعرنا وتضخمت أنانيتنا، فبتنا مكبلين بالانكسار والخوف والانكفاء والانطواء، قابعين تحت تلال الدمار وأكوام القتلى من أهلنا وأبنائنا على أيدي أهلنا وأبنائنا.
- نكسة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في مصر، وما ترتب عليها من أزمات وانتكاسات ومآسٍ وتقهقر سياسي واقتصادي واجتماعي وفكري.
- نكسة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في ليبيا، وما جلبته من قتل ودمار وعذابات، وهدرٍ للموارد والمقدرات، وتعطيلٍ لعملية التحول الديمقراطي وإرساء دعائم المستقبل، وإعاقة لعملية البناء والتطوير.
- نكسة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في اليمن، وما خلّفته من فواجع وكوارث، ومن انهيارات اجتماعية وطائفية، وما جلبته من تدخلات خارجية امتلكت زمام القرار السياسي والعسكري والاقتصادي، وتحول اليمنيون بسببها إلى مجرد وقود للحرب المستعرة التي أُريد لها ألا تنتهي حتى تحقق مصالح المغذّين لها.
- نكسة شيطنة الإخوان المسلمين في عدد مقدر من الدول العربية، وما ترتب عليها من القهر والبطش والتنكيل والتشهير، بعد إلصاق تهمة الإرهاب بهم، وتصويرهم على أنهم الخطر الأكبر الذي يهدد استقرار المنطقة ومصالحها، ولابد من ملاحقته وتصفيته مهما كان الثمن، تاركين العدو الحقيقي يتنقل حيث يشاء، يصول ويجول، رافعين له القبعة تقديراً وترحيباً.
- نكسة الإرهاب العسكري البشع في العراق وسوريا، والتي لا تقل بشاعة عن مثيلتها في اليمن.
- نكسة الحصار الجائر على قطر، والتي كشفت عن عمق الجرح الغائر في البنية السياسية العربية عامة والخليجية بشكل خاص، والنزوع المتأصل لدى بعض دول المنطقة للهيمنة والتدخل بكافة الوسائل والطرق في شؤون البعض الآخر لتطويعه تبعاً لخططه وأطماعه وتوجهاته وشراكاته الإقليمية والدولية.
- نكسة الانقلاب على الانقلاب في السودان، الانقلاب الذي رفع راية الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، واعداً بالحل السحري لمعاناة المواطن السوداني واحتياجاته، ولكن سرعان ما مرت الأيام وانجلى الغبار، ليكتشف الشعب السوداني الحقيقة المرة التي تؤكد أن ثورة 2019 هي وجه انقلابي آخر لثورة 1989م بذات الشعارات والممارسات والسلوكيات، وإن اختلفت الوجوه وتباينت العبارات.
- نكسة انهيار مؤسسة جامعة الدول العربية، فرغم أن أداء الجامعة العربية لم يكن بالمستوى المطلوب الذي تنتظره الشعوب العربية، وتفرضه التحديات الإقليمية والدولية التي تحيط بالأمة العربية، إلا أنها كانت إطاراً تنسيقياً يقدم الحد الأدنى من التواصل العربي-العربي، وقد جاء انهيارها إيذاناً بانتهاء مرحلة الأمة العربية الواحدة ذات الجسد الواحد والعناصر المشتركة العديدة، لتحل محلها سيادة الدولة القُطرية التي تفعل ما تشاء ولا تلقي اعتباراً لغيرها من الدول الشقيقة المجاورة وغير المجاورة.
- نكسة انهيار مجلس التعاون الخليجي، وجاءت كنتيجة مباشرة للحصار الجائر على دولة قطر، فانهار المجلس بعد أن كانت دوله تفتخر بانسجامها وتعاونها وتماسكها وإنجازاتها التكاملية على غيرها من الدول العربية. انهار المجلس، وصار في حال لا يبتعد كثيراً عن حال جامعة الدول العربية.
- وقائمة النكسات العربية تطول…
- وكان من أبشعها وأكثرها إيلاماً نكسة الموقف العربي من الكيان الصهيوني، ومسارعة العديد من الدول العربية إلى إقامة علاقات اقتصادية وأمنية ورياضية، والتعامل معه على باعتباره الصديق الأكثر قوة وتقدما وهيمنة ونفوذاً وتأثيراً، والشروع في تعزيز مجالات التعاون معه، وتقديم المبررات وتسوق الحجج، لتبرهن على سلامة موقفها، دونما اعتبار لحقائق الجغرافيا والتاريخ وروابط الأرض والدم والدين واللسان.
فأين نكسة يونيو/ حزيران من هذه النكسات المتتابعة، التي ما إن نرفع رؤوسنا من إحداها حتى تهوي فوقها أخرى، بعد أن تبلّدت مشاعرنا وتضخمت أنانيتنا، فبتنا مكبلين بالانكسار والخوف والانكفاء والانطواء، قابعين تحت تلال الدمار وأكوام القتلى من أهلنا وأبنائنا على أيدي أهلنا وأبنائنا.
السبب وراء هذه الانتكاسات هو الاستبداد، والمسؤول عنها هو الاستبداد، والسبيل إلى إيقافها يكون بإنهاء الاستبداد، ولن يتغير مسار الأحداث وتتوقف عجلة الانهيار ما لم يتوقف الاستبداد.
أسئلة متعددة والإجابة واحدة
ما الأسباب التي أدت بنا إلى هذه الانتكاسات؟ ومن المسؤول عنها؟ وما السبيل إلى إيقافها؟ كيف نغير مسار الأحداث ونوقف عجلة الانهيار المتسارعة؟
إنه الاستبداد، السبب هو الاستبداد، والمسؤول عنها هو الاستبداد، والسبيل إلى إيقافها يكون بإنهاء الاستبداد، ولن يتغير مسار الأحداث وتتوقف عجلة الانهيار ما لم يتوقف الاستبداد.
في ختام كتابه "الشرق الأوسط الجديد" قال رئيس الكيان الصهيوني السابق: لا نريد ديمقراطية في الشرق الأوسط، فالديمقراطية لن تأتي إلا بأعداء إسرائيل.
إنه الاستبداد!
ولنا مع الاستبداد وقفة متأنية في مقال قريب إن شاء الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق