نظرات وعبرات | كيف يمكن اصطياد الغول؟
عمل فني في متحف الفن الحديث بسانتياغو (تشيلي)
يصور الديكتاتور السابق أوغستو بينوشيه وآخرين
كاتب صحفي وباحث
الاستبداد سلوك مذموم، وآثاره كارثية وعمره قصير، سواء كان استبداداً من فرد أو من مجموعة أفراد، ورغم أن النظام المستبد يعلم علم اليقين أن عاقبته وخيمة وخاتمته نكراء، والشواهد على ذلك تحيط به من كل جانب، إلا أنه يصر على الاستمرار في استبداده، متستراً بتسلطه وجبروته، واستحواذه على كافة مقاليد السلطة، فتُسن القوانين والتشريعات على مقاسه وتُنفذ البرامج والمشروعات بأمره، وتَصدر الأحكام على هواه، فما يراه صحيحاً هو بالضرورة صحيح، وما يراه خطأً هو بالضرورة كذلك، والحق ما يراه حقاً، والباطل ما يراه باطلاً.
فالمستبد مستحوذ على السلطة، مستأثر بالقرار بصورة مطلقة فوق الدستور والقانون، يرى في نفسه الدولة بما فيها ومن فيها، ولا يقبل من كافة طبقات الشعب بغير الخضوع الأعمى له.
من وراء الاستبداد؟
في مقالنا المنشور في الجزيرة نت بتاريخ ٢٤ يونيو/ حزيران الماضي، أوضحنا أن الاستبداد الذي تعاني منه المنطقة العربية هو الغول المتوحش والإرهاب الحقيقي الذي يجب على الجميع -حكاماً ومحكومين- أن يعملوا على مواجهته واصطياده والتخلص منه، حتى تتمكن المنطقة من تحقيق الاستقرار والتنمية وبناء الإنسان القادر على صناعة المستقبل المشرق والمحافظة عليه وتطويره، ولكن يبدو أن هذا حتى الآن يعتبر ضرباً من الخيال، فالجهات الداعمة للاستبداد -خارجياً وداخلياً- تبذل جهوداً حثيثة ومتواصلة لضمان استمرار الاستبداد في بلداننا، والقضاء على أي محاولة لتصحيح مسار الحكم فيها بما يحقق استقلاليتها ويعزز سيادتها ويدعم تماسكها ويضمن تفوقها.
أما خارجياً، فقد كانت الديمقراطية والمدنية الحديثة هي ما وعدت به الدول الاستعمارية قادة المنطقة إذا وقفوا إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى، وانتهت الحرب العالمية لتتقاسم الدول الغربية المنتصرة المنطقة العربية وتوزعها إلى دويلات محتلة خاضعة لسيطرتها. ولم تخرج منها إلا بعد أن غرست بذور الاستبداد فيها واطمأنت إلى سلامة غرسها، واستمرت في تغذيته ورعايته إلى يومنا هذا، وكل ما تتشدق به حول دعمها للحرية والديمقراطية هو محض هراء لا أساس له من المصداقية والجدية، إنها ترعى الديمقراطية في بلدانها، وتحافظ عليها لشعوبها، أما بلادنا فلتحترق ولتذهب إلى الجحيم.
التخلص من الاستبداد ضرورة قصوى، حتى تتمكن دول المنطقة من تحقيق الاستقرار والتنمية وبناء الإنسان القادر على صناعة المستقبل المشرق والمحافظة عليه وتطويره.
وأما داخلياً، -وهو الأشد خطراً والأكثر ألماً- فهو دوائر أصحاب المصلحة الذين يعتقدون أن مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر أماناً واستقراراً وضماناً مع الأنظمة المستبدة من غيرها، وأخطر هذه الدوائر ما يأتي:
- القوى السياسية التي تقتات على حسنات السلطة المستبدة، وليس لها أي سند سياسي شعبي أو اجتماعي، وتوفر للنظام المستبد غطاء شرعياً داخلياً وخارجياً.
- القوى الاقتصادية المتحالفة مع السلطة المستبدة بما توفره لها من ضمانات وتسهيلات وتفضيلات في التجارة والصناعة وحركة مالية داخلية وخارجية.
- الأجهزة الأمنية التي تراكمت خبرتها في حماية النظام الاستبدادي، والولاء له، والبطش بخصومه وأعدائه، وتنفيذ جرائمه واعتداءاته والتغطية عليها، فهذه الأجهزة عمود من أعمدة الاستبداد، وجودها من وجوده، وأمنها من أمنه، والعكس صحيح تماماً، لا تفهم أكثر من ذلك، ولا تتقن عملاً أفضل من ذلك.
يحضرني في هذا السياق حادثة وقعت مع أحد الوجهاء الذين كانت له معرفة قديمة بضباط كبير في جهاز أمن دولة من الدول العربية، فقال له مقترحاً: ماذا لو تحدثت مع الرئيس أن يستوعب "هذه الجماعات الإسلامية" ضمن النسيج الوطني ووفق أحكام القانون والدستور مثل بقية القوى والجماعات في الدولة، فهذا أفضل لتعزيز الاستقرار ومعالجة التوتر الداخلي ودعم التماسك الوطني والاجتماعي، وسد الباب أمام الانتقادات الإقليمية والدولية. فقال الضابط الكبير: إذا تحقق ذلك ماذا سنفعل نحن؟!
لا يقتصر النظام المستبد على الحاكم الذي يقوده، فهناك الحكومة المستبدة، والوزير المستبد، والوكيل المستبد، والجيش المستبد، والأمن المستبد، والبيروقراطية المستبدة، والإعلام المستبد، والفن المستبد، والأدب المستبد، والنخبة المستبدة، والموظف المستبد، والشعب المستبد.
- النخبة التكنوقراطية التي اندست في فلك النظام المستبد، تدور معه حيثما دار، تروّج له، وتدافع عنه، وتحيل من أخطائه وكوارثه إلى إنجازات وطنية خارقة، وتصوّر جرائمه على أنها عين الحكمة وسيف العدل.
- الطبقة البيروقراطية، التي تعج بها مؤسسات الدولة، تستهلك موارد الدولة، ولا يزيد معدل إنتاجها عن ٢٠٪ في أحسن الأحوال، وبأسوأ المعايير والمواصفات. هذه الطبقة الواسعة طبقة متبلّدة، لا يهمها كثيراً من يعتلي السلطة، وما إذا كان مستبداً أم عادلاً، بقدر ما يهمها انتظام تدفق مخصصاتها المالية الشحيحة قبل نهاية الشهر، والتي لا تكفي لسد نفقات الحياة اليومية المتلاحقة. هذه الطبقة تعيش دوماً في الهامش، موجودة وغير موجودة في الوقت ذاته، تملأ الفرغ ولكن دون أي وزن، إذا أرادها النظام المستبد أن تتكلم سارعت بالهتاف له وإعلان الولاء، وإن أرادها أن تصمت غابت عن الأنظار في انضباط ليس له مثيل.
- الشعب المضلَّل، الغائب عن الوعي، والمنفوخ بدخان العاطفة وزئير الانفعال، تسحره ابتسامة الحاكم المستبد، ويؤمن بوعوده المراوِغة، يرى في الاستبداد نوعاً من القوة الفريدة والسيطرة المحكمة، يقوده الإعلام والفن، ويخضع سريعاً لعبارات التهديد والوعيد، يهتف لمن يقوده، ويدعو لمن يطعمه، ويصلي لمن يغدق عليه، وهو الأكثر دفاعاً عن الاستبداد بين كافة المدافعين.
أمام وضع كهذا، نجد أن النظام المستبد لا يقتصر على الحاكم الذي يقوده، فهناك الحكومة المستبدة، والوزير المستبد، والوكيل المستبد، والجيش المستبد، والأمن المستبد، والبيروقراطية المستبدة، والإعلام المستبد، والفن المستبد، والأدب المستبد، والنخبة المستبدة، والموظف المستبد، والشعب المستبد.
ويتفاقم هذا الوضع حتى يخضع الجميع للاستبداد ويتلونون به، فتبدو الدولة المستبدة مستقرة ومنسجمة، ما يؤكد مشروعيتها، وسلامة ما تقوم به، بعد أن قامت بتغييب الآخر وراء قضبان السجون وخلف جدران الرعب والخوف والتهديد والوعيد التي أحاطت بها كل من تسوّل له نفسه النصح أو الانتقاد فضلاً عن الاعتراض والعصيان.
لا يقبل النظام المستبد بغير السيطرة الكاملة المطلقة على كافة السلطات في الدولة؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى كافة مقاليد القوة؛ العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن عدم حدوث أي اختراق يؤدي إلى سقوطه، فسقوطه يعني له الخاتمة الوخيمة
دعائم الاستبداد
يرتكز الاستبداد على مجموعة دعائم، تبعث في نفس النظام المستبد شيئاً من الأمان الذي يفتقده بسبب إحساسه المتفاقم بالمسؤولية عما يقوم به ونظامه من انتهاكات وجرائم، وأبرز هذه الدعائم ما يأتي:
- السيطرة: لا يقبل النظام المستبد بغير السيطرة الكاملة المطلقة على كافة السلطات في الدولة؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعلى كافة مقاليد القوة؛ العسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، بما يضمن له عدم حدوث أي اختراق يؤدي إلى سقوطه، فسقوطه يعني له الخاتمة الوخيمة، وبالتالي لا مجال عنده لأي تهاون أو تقصير أو خطأ يؤدي إلى اختراق السلطة أو المشاركة فيها.
- القبضة الحديدية: تعتمد الأنظمة الاستبدادية على القمع الشديد والبطش المروع، الذي يجعل المرء يفكر مليون مرة قبل أن تسول له نفسه القيام بأي فعل مخالف أو معارض، وتعمل الأجهزة الأمنية في هذه الأنظمة على نشر ألوان هذا القمع والبطش، لإلقاء الرعب والإذعان في نفوس المؤيدين والمعارضين. ولإحكام القبضة الحديدية، تضع الأجهزة المختصة العديد من الخطط والبرامج والأساليب التي لا مجال للحديث عنها في هذا المقام.
- التسليم الأعمى: لا يسمح النظام المستبد بغير الخضوع الكامل والتسليم الأعمى لسلطته، لا من الجيش ولا من الشرطة ولا المخابرات ولا من الحكومة ولا من النخبة ولا الإعلام، تحت أي مبرر كان، لا في شاردة ولا واردة، لا في حق ولا باطل، فهو معصوم لا يخطئ، وإن أخطأ فقد أصاب.
- البطانة: يحيط النظام المستبد نفسه بعناصر منتقاة في مختلف الأدوار والتخصصات، يتم اختيارها بناء على مواصفات محددة على رأسها الولاء التام والاستعداد الكامل للتضحية بالنفس وقتما اقتضت الضرورة ذلك، والقيام بكل ما يطلب منها من أعمال دون مراجعة أو تردد مهما كان نوعها والنتائج المترتبة عليها. ويتم ربط هذه البطانة بمستوى عالٍ من الحوافز والامتيازات.
- الإعلام: يعتبر الإعلام الذراع الفكرية الأقوى التي يتسلح بها النظام المستبد، للترويج له وإظهار مآثره وإنجازاته الوهمية، والتغطية على أخطائه وجرائمه، وإيصال رسائل التهديد والوعيد التي يريدها وقتما شاء، وللدفاع عنه وتكريس صورته المثالية محلياً وإقليمياً ودولياً. ولا يسمح النظام المستبد لأي مؤسسة إعلامية مخالفة له ولا لأي إعلامي، فجميع المؤسسات الإعلامية في الدولة هي مؤسساته، وإن اختلفت أسماؤها وتعدد ملاكها، ولا يعمل في هذه المؤسسات من الإعلاميين إلا من جنّد نفسه لمصلحة النظام مقابل الحفاظ على مصلحته ومكتسباته.
- الفن: الذراع الثانية التي يستحوذ عليها النظام المستبد إلى جانب الإعلام، وتضم طبقة النجوم العليا، أصحاب السجادة الحمراء، القدوات التي تتطلع إليها أعناق الشعب، وتتأثر بكل ما يصدر عنها من مواقف وتصرفات. وكما هو الحال مع الإعلام، فإن النظام المستبد لا يسمح لأي فنان أو شركة فنية أو إنتاج فني يعمل في غير تمجيد النظام.
- علماء الدين: وهم الذين يعطون النظام الشرعية الإلهية، ويظهرونه على أنه ظل الله في الأرض، والقائم على أمر دينه وإقامة شريعته. وهم جاهزون دوماً لإصدار الأحكام والفتاوى التي تحلل للنظام المستبد كل ما يقوم به أعمال، مهما بلغ فيها البطش والتنكيل وإراقة الدماء.
- التعليم: تمثل مناهج التعليم المدرسي الوسيلة الأكثر نجاحاً في إنتاج أجيال جديدة كاملة ذات ولاء مطلق للنظام، بما تقدمه من شروح تفصيلية للنظام ووطنيته وقادته وإنجازاته، شروح لا تترك مجالاً للنقد أو الشك أو الاختلاف. هذه الأجيال تكون أشد انتماء للنظام، وأسرع اقتناعاً بما يصدر عنه، وأسهل انقياداً له ودفاعاً عنه.
- العدو: يعتمد النظام المستبد على اختلاق عدو ما، داخلي أو خارجي، يشغل الشعب به، ويزيده التفافاً حوله، واقتناعاً بما يقدمه له من حجج وذرائع لتبرير فشله في إنجاز وعوده، وما يؤخذ عليه من اعتراضات، وما يوجه ضده من حملات، فتارة محاربة التهديدات الخارجية الإقليمية أو الدولية، وتارة محاربة الأعداء الموجودين داخل الوطن ويعملون على تقويض أركانه وزعزعة استقراره، وتارة محاربة التطرف والإرهاب، وتارة محاربة الفساد،… إلى غير ذلك من الأشكال. فالنظام المستبد لا يستطيع البقاء بدون عدو، فالعدو يعني وجود خطر محدق بالدولة والشعب، والنظام مشغول بهذا الهدف الأعلى ومحاربة العدو والحفاظ على أمن الوطن واستقراره، ويقدم التضحيات الباهظة في سبيل ذلك، وأن على الشعب الالتفاف حول النظام ليتفرغ لمواجهة العدو، ودفع الخطر المحدق.
هذه الجهات التي تقف وراء الاستبداد، وهذه الدعائم التي يرتكز عليها، تخلّف الكثير من الآثار الفادحة على حاضر الدولة ومستقبلها، وتعيق عملية اصطياد الغول، وظاهرها يبعث على الإحباط ويزرع اليأس من إمكانية التخلص منه، ويدعو إلى الاستسلام له والقبول به، فما السبيل إلى ذلك؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق