الأربعاء، 8 يوليو 2020

رفاة الشهداء الجزائريين أحيت ذكريات الكفاح الوطني ضد فرنسا من جديد

 رفاة الشهداء الجزائريين أحيت ذكريات الكفاح الوطني ضد فرنسا من جديد


د. علي الصلابي

في مشهد أعاد لذاكرة الأمة الإسلامية والشعب الجزائري جرائم ووحشية المستعمر الفرنسي، فقد استعادت الجزائر رفاة أربعة وعشرين من قادة الكفاح والمقاومة الشعبية في الجزائر الذين أذاقوا المحتل الفرنسي الويل في صمودهم وبسالتهم. ولقد تم استقبال رفاة الشهداء في مطار هواري بو مدين الدولي في الثالث من يوليو 2020، وذلك بعد حرمانهم من حقهم الإنساني في الدفن في تراب وطنهم لأكثر من 170 عاماً. وأبرز هؤلاء الشهداء الشيخ أحمد بوزيان والشريف بوبغلة وغيرهم من قادة وشباب الجزائر الأبطال رموز العزة والفخار.

إن هذا الحدث أعاد للشعب الجزائري ذكرياته عن أهم مراحل الاستعمار الفرنسي للجزائر والبلاد الإسلامية، والتي كانت مليئة بمشاهد الوحشية والاستعباد لكل الشعوب التي تعاملت معها واعتبرتها دون مستواها الحضاري. فلماذا تقطع رؤوس الضحايا الذين قتلتهم ظلماً ثم تجوز بهم البحار!؟ ولم تحتفظ بجماجمهم في متاحفها!؟

1. ماذا فعلت فرنسا في الجزائر وشعبه؟

استمرت فرنسا في نهجها وسياستها الاستغلالية والتدميرية للعالم الإسلامي، وهذه السياسة ظاهرة المعالم حتى وإن أخفتها في الحاضر القريب، فماضيها العدائي الذي بدأ مع الحملات الصليبية في المشرق الإسلامي والتي كانت فرنسا الكاثوليكية رأس الحربة فيها، استمر حتى بداية العصور الحديثة وذلك باحتلالها للجزائر في عام 1830م، بحجج واهية، فالحرب كانت ذات دوافع صليبية واضحة، فقد أعلن الملك شارل العاشر يوم 12 ماي 1830م عقد ندوة دولية حول مصير الأرض الجزائرية بعد احتلالها. وقد أراد أن يبين من خلال هذا الإعلان أن الحملة الحربية ضد الجزائر شُنت لصالح أوروبا كلها ولصالح المسيحية، وكانت الحكومة الفرنسية قد استغلت قضية حجز سفينتين تابعتين للفاتيكان قبل، وهما تحملان العلم الفرنسي، وذلك لتجنيد الرأي العام المسيحي لصالح احتلال الجزائر، مما أعطاها طابعاً صليبياً في نظرهم وفي نظرنا أيضاً، كما ذكر «أندري نوزبار» في كتابه «الجزائر: المسيحيون في الحرب».

ولقد قال «لوي فيو» إثر سفره إلى الجزائر سنة 1841م، بأن الأيام الأخيرة للإسلام دنت.. ولن يكون إله للجزائر بعد 20 سنة إلا المسيح، وأن الجزائر أصبحت مُلكيـة فرنسيـة وهي الان غير إسلامية، وكذلك سيكون عما قريب مصير كل من تونس والمغرب. ويضيف هذا المؤلف الذي رافق المارشال «بيجو» سنة 1841م «حينما كان حاكماً للجزائر»: مادام العرب غير مسيحيين فلن يصبحوا فرنسيين، وماداموا غير فرنسيين؛ فلن يستطيع أي حاكم وأي جيش أن يضمن ولو لمدة شهر دوام السلم.
وهو ما يثبت بالدلالة القاطعة أن الفكرة الصليبية تبقى سائدة طوال الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث يُصرح الكردينال المتعصب «لافيجري» بأنه: لابد أن يُمنح الشعب الجزائري الإنجيل، وإلا فإن على فرنسا أن تطرده إلى الصحراء. وفي عنابة يتوجه رئيس الأساقفة «لينو» بالقول نحو القديس أوغستان: انظر إلى الخطر الكبير الذي يُحدق بوطنك العزيز الذي أصبح وطناً لنا، فلا تسمحوا ـ أرجوكم ـ أن يسقط من جديد في البربرية، التي نجا منها بفضل الذراع القوية لفرنسا المسيحية 28 أوت 1945م. وهو ما يؤكده خليفته الصليبي المنصِّر «الأب دوفوكو» سنة 1912م في رسالة إلى أحد أصدقائه، يصرح له فيها بقوله حرفياً: إنني أعتقد بأنه إذا لم نستطع تحويل المسلمين بالتدرج عن دينهم وحملهم على اعتناق المسيحية ؛ فإن النتيجة الحتمية هي تكوّن روح قومية جديدة تؤدي إلى طردنا من الإمبراطورية الاستعمارية في شمال أفريقيا. ويضيف قوله في الرسالة ذاتها: إن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الإمبراطورية هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسيحيين.

إذن فقد كان جهاد هؤلاء الأبطال الجزائريين جهاداً مشروعاً ونضالاً مجيداً ضد من أراد أن يفتنهم في دينهم ويردهم إلى الضلالة، وضد من أراد استعمار أرضهم وطردهم منها. فهذا الجهاد استجابة لقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} "الحج: 39-40".

2. التأصيل الجهادي والقيم البطولية والنضالية للثورة الجزائرية

وعن هذا التأصيل الجهادي الإسلامي للثورة الجزائرية، يقول الشيخ البشير الإبراهيمي في تصريح له في إذاعة صوت العرب من القاهرة تحت عنوان:
ـ الجزائر المجاهدة: يقول الإمام الإبراهيمي: «لو قسمت حظوظ الجهاد بين الأمم لحازت الجزائر قصبات السبق، ونطلق الجهاد على معناه الواسع الذي يقتضيه اشتقاقه من الجهد. ولنبدأ بمعناه الخاص، وهو جهاد العدو الأجنبي المغير على الوطن، وقد وضع الله الجزائر في موضع يدعو إلى الجهاد، وعلى وضع يدعو إلى الجهاد.. إلى أن يقول: لم تخلُ العصور الإسلامية من الجهاد بالنفس في الجزائر، لأن الجارَين المتقابلين على ضفتي البحر الأبيض أصبح كل واحد منهما بالمرصاد لصاحبه، وانتقل لبّ الصراع بينهما من ميدان إلى ميدان.

فبعد أن كان صراعاً على العيش، أو التوسّع في العيش، أو صراعاً على الزيت والقمح «وهما المادتان اللتان جلبتا الروماني على إفريقيا الشمالية»، صار صراعاً على الدين، زاد من شدته أن العرب بدينهم خلفوا الرومان على حضارتهم في إفريقيا، ثم لمسوهم من جبل طارق تلك اللمسة المؤلمة التي تطيروا بها وطاروا فزعاً، وظنوا أنها القاضية على روما وديانتها وحضارتها وشرائعها. وهذا الميدان الذي انتقل إليه الصراع أعمق أثراً في النفوس، ويزيد في عمقه أن حامليه العرب قوم لا تلين لهم قناة ولا يصطلى بنارهم».
ثم يضيف قوله: «فكانت الثغور الجزائرية المشهورة والمهجورة التي يتطرق منها العدو عامرة دائماً وأبداً بالمرابطين، وهم قوم نذروا أنفسهم لله ولحماية دينه يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، ولا يرزؤون الحكومات شيئاً من سلاح ولا زاد، وإنما يتسلحون ويتزودون من أموالهم ليجمعوا بين الحسنيين: الجهاد بالمال، والجهاد بالنفس.. وسلسلة الرباط لم تنقطع إلا بعد استقرار الأمر لفرنسا، وإنما كانت تشتد وتخف تبعاً لما يبدو على الضفة الأخرى من نشاط وخمود. وكانت على أشدها في المائة التاسعة والعاشرة والحادية عشرة في الوقت الذي عادت فيه الكرّة للإسبان على المسلمين في الأندلس، واغتنمها الإسبان فرصة لاحتلال ثغور البحر المتوسط الإفريقية، ومعظمها في جزائر اليوم.

لقد احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م تنفيذاً لخطة مرسومة تقتضي إعادة شمال إفريقيا لاتينياً كما كان قبل الإسلام، وإذا كان قديماً على يد الرومان، وكان اليوم على يد الفرنسيين، فإنما ذلك توارث بين ابن العم وابن عمه، والخطة تقتضي احتلال الجزائر اليوم، واحتلال جناحيها يوم مجيء الوقت، ومعاونة من يريد احتلال جزء آخر من التراث الإسلامي». وعن هذا التأصيل الشرعي لجهاد الجزائر يقول في أحد أحاديثه أيضاً بإذاعة صوت العرب من القاهرة: «إن الجزائر قد أعربت عن نفسها بالأعمال الخالدة التي قامت بها ثورتها وثائروها، وإنما أحيت من شرائع الجهاد، وسجلت من مواقف البطولة والشجاعة، ووقوف العدد القليل من أبنائها بما يملكون من سلاح يدوي قليل ـ لا يغني فتيلاً في مجرى العادة ـ في وجه عدو يفوقه أضعافاً مضاعفة في العدد والعدة والنظام والتدريب، تسانده جميع الأسلحة العصرية الفتاكة من طائرات ودبابات ومدافع ثقيلة وقادة، باشروا الحروب الاستعمارية وقادوها في ميادين مختلفة بالمشرق والمغرب وتمرنوا على أساليبها، يستمدون لوازم الحرب من سلاح وعتاد ومال من بلدهم، فلا يردّ لهم طلب ولا يتأخر إمداد.. ثم يقول في الحديث ذاته:

وعن هذا التطبيق الشرعي للجهاد الإسلامي على الأرض، يقول الشيخ يوسف اليعلاوي، وهو ضابط في جيش التحرير الوطني في الولاية الأولى والولاية الثالثة ما يلي: «لقد أبرّ الله قسم المجاهدين، وانتصرت كلمة «الله أكبر»، التي كانت الشعار الذي يرتفع وينطلق من أفواه المجاهدين عند انطلاق الرصاص من فوهات بنادقهم، ومما يؤكد هذا أن التعليمات التي ترسل من قيادات جيش وجبهة التحرير الوطني تحثّ ـ بالإضافة إلى التنظيم السياسي والعسكري ـ على أداء الصلوات والمحافظة على الشعائر الدينية والأخلاق الإسلامية، وقد يعاقب من لا يقف عند حدود الله، ولا يحترم أوامر الثورة التي لم تخرج قط عن تعاليم الإسلام، وكثيراً ما كان يعاقب المجاهدون عقاباً شديداً لارتكابهم الأخطاء التي يعتبرها الإسلام خطيرة تستوجب العقاب، كما أن الثورة قد دعمت تعليم القرآن الكريم في كل الولايات وهي التي تدفع أجور المعلمين، بل شجعت مادياً ومعنوياً كل المدارس العربية الموجودة على مواصلة سيرها لتعليم أبناء الشعب اللغة العربية والإسلام تحت دويّ القنابل».

لقد أعربت الجزائر عن نفسها بهذا كله، فحققت أسمى أنواع الجهاد والمقاومة الشعبية، وهو ما عُلمت أخباره واشتهر في العالم، ورفع اسم الجزائر إلى السماء، وأصبح ذكرها مقروناً بالإعجاب والإكبار، وذكر بنيها مقروناً بالمدح والثناء، وأصبحت بطولتهم وشجاعتهم وصبرهم واستماتتهم في سبيل حرية بلادهم مضرب الأمثال وحديث الركبان. وفي المقابل، كشف ادعاءات وأكاذيب المستعمر الفرنسي الذي زعم أنه جاء الجزائر لنشر قيم الحرية والسلام والحضارة. وهل تلك المجازر والأعمال الاستعمارية والجرائم اللاإنسانية هي ميراث شباب الثورة الفرنسية التي جاءت بقيم الحرية والعدالة والمواطنة والإنسانية؟ الإجابة باختصار: لا الماضي الاستعماري الفرنسي دل على ذلك، ولا حاضرها وما تفعله في البلاد الإسلامية والقارة الإفريقية من نهب واعتداء حتى اليوم يثبت ذلك.

مراجع:

1. أحمد بن نعمان، جهاد الجزائر حقائق التاريخ ومغالطات الإديوجغرافيا، ص. ص 52 – 55.
2. حوار مع حسين زهوان في جريدة «الجزائر»، 8 سبتمبر 2012م.
3. علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال، دار ابن كثير، 2017، ط1، ص. ص 238 – 242

د. علي الصلابي

مؤرخ وفقيه ومفكر سياسي ليبي حاز درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية بمؤلفه فقه التمكين في القرآن الكريم، له العديد من المؤلفات الفكرية والتاريخية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق