الإنسان... والموت جوعاً!
خواطر صعلوك
دائماً... تلفت انتباهي المفارقات والتناقضات... سواء في الحضارة وفي النفس البشرية، وأكثر ما أحببت الكتابات الساخرة القائمة على المفارقة، والكتابات الجادة كتلك التي عند عبدالوهاب المسيري «أبو نور» رحمه الله، وكل كتاب مدرسة فرانكفورت الألمانية والقائمة على النقد، ككتابات هربرت ماركوزه «أبو ميشل» وكذلك كتابات تيوتور أدورنو «أبو يرغن».
ولا أدري لماذا عادت بي الذاكرة وأنا في الحجر المنزلي بخبرين كنت قد قرأتهما في عام 2010م.
يقول الخبر الأول والذي نشر في «الغارديان»: إن سكان بلدة «كاب داغدي» الفرنسية ضاقوا ذرعاً بالسياح الأجانب «قليلي الأدب والحشمة»، لأنهم جعلوا بلدتهم أشبه بـ«الماخور المفتوح» بسبب تصرفاتهم.
وفي وقت وصف أحد مدراء البنوك هذه ظاهرة العري بـ«تناغم مع الطبيعة»، تشهد هذه البلدة أزمة بين سكانها بسبب الانقسام في الرأي حول إصدار قانون يحدد «خدش الحياء العام».
ويقول سكان البلدة المشتكون إن مطالبهم الأساسية هي أنه يجب على السياح الأجانب أن يسيروا «عراة» باحترام.
وبعيداً عن البلدة الصغيرة، وفي هذا الوقت تحديداً كانت عاصمة فرنسا بإعلامها وفلاسفتها ومثقفيها ونخبتها الوطنية، قد ضاقت ذرعاً بالمنقبات الذين يملأون الشوارع!
جميعهم قالوا: الهوية الوطنية في خطر!
لا أدري أين التناقض هنا... ولكنه بالتأكيد موجود في مكانٍ ما.
ولا أدري إلى أين تأخذني الذاكرة، فكما تعلمون نحن في حظر منزلي... والذكريات هي من تلعب وليس الأشخاص... فـ«غواتيمالا» دولة في أميركا الوسطى تحدها المكسيك من الشمال والغرب وهندوراس إلى الشرق والسلفادور إلى الجنوب الشرقي. بتعداد سكاني يقدر بحوالي 15.8 مليون نسمة. في هذه الدولة وفي عام 2010م أيضاً توفي أكثر من ألفي طفل تقل أعمارهم عن خمس سنوات بسبب الجوع. 2000 طفل ماتوا من يناير إلى أكتوبر فقط... ولم تنته السنة بعد.
وفي المؤتمر الصحافي، خرج المدعي العام سيرجيو مواليس «أبو ألبيرتو» وهو يفتل شاربيه وقال:
- من المقلق أن يسفر الجوع عن وفيات تفوق مرتين الوفيات الناتجة عن العنف. إنه رقم مؤسف ومرعب... والأكثر رعباً أن وفيات عام 2006 كانت أكثر من ذلك بكثير... ثم انفجر بالبكاء أمام الصحافيين!
ولا أدري للمرة الرابعة، ما الذي حركته «كورونا» في مخيلتي، لأتذكر هذين الخبرين بالتفصيل.
كم هو أناني هذا الإنسان... فهو إما «متناغم مع الطبيعة» حتى أصبح حيواناً... وإما متناغم مع تحقيق ذاته حتى أصبح إنساناً، بينما يموت الأطفال حوله جوعاً، والأسوأ من ذلك أن يكون الاثنين معا!
ربما في الخبر الأول والخبر الثاني تقل المسافة بين ما هو حيواني، وتزيد بُعداً عما هو إنساني.
بالتأكيد أن زمن كورونا الذي نعيشه الآن أبرز مسافات مثل هذه... وربما لو سألتني لأعطيك مثالاً على ذلك... سأقول لك لا أدري... فكما لاحظت أن هذا المقال هو مقال «اللا أدري».
فلا أدري حقاً... هل سيخرج الناس الذين ملأوا الشرفات بالغناء والرقص والإبداعات العالمية، بعد أزمة كورونا، هل سيخرجون أكثر حيوانية أم أكثر إنسانية... أم الأسوأ في أن يكونوا الاثنين معاً؟
فما بين تناقض شكوى عراة القيم والأخلاق الوطنيين جداً حتى الرقبة والنخاع الشوكي، الذين يطلبون من الأجانب أن يسيروا «عراة» باحترامهم، وما بين شكوى المدعي العام بأن هناك أطفالاً يموتون من الجوع... هناك الكثير مما يقال بأن الإنسان أناني جداً ولن تستطيع «كورونا» أن تربيه، فالجائحة تعلمنا أن الإنسان يعتقد دائماً أن الأمور تحدث بعيداً عنه.
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.
moh1alatwan @
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق