الاثنين، 1 مارس 2021

مُواجهة القُطْرِية داخل النفس أولى خطوات الوَحدة

 مُواجهة القُطْرِية داخل النفس أولى خطوات الوَحدة



إحسان الفقيه

يولد ابن خلدون في تونس، فيتزوج في «بسكرة» الجزائرية، وفي «فاس» المغربية يتولى الكتابة مؤرِّخاً في عهد ملكها أبي عنان المريني، وفي نهاية المطاف يُعهد إليه في القاهرة بولاية أمر القضاء المالكي، ينساب بين الأقطار كالماء، هنا له وطن، وهناك له وطن، فليس ثمة حدود، ولم تكن الشعوب ترتدي نظارة القُطْرية، ولم تعرف لعنة الشعوبية، وبين دفتي الكتاب قانونهم العام «إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» (الأنبياء: 92).

وبعد دهور، كان جسد الأمة المريض يستمع إلى صريف أقلام تكتب نعي وحدته، حين خطَّ سايكس وبيكو الحدود على الورق، وسرعان ما تحولت الفواصل إلى الأرض، ووُلدت الحواجز، وبعد مئة عام فهمنا الحكاية وعاينّا الكارثة، فالقلم ذاته رسم الحدود بين القلوب، واختزلت الوحدة إلى أقفاص الجغرافيا، وتحولت الحواجز من الأرض إلى الثقافات وأساليب التفكير، وعُزفت سيمفونية التصنيف، وتعلّمنا التنابز بالبلدان كما الألقاب، وتناجزنا على الأعلام، فنطق الشاعر من فرط إعيائه: أتجمعنا يد الله وتبعدنا يد الفيفا؟

تربينا على مَثَلِ حزمة الأعواد التي تأبى إذا اجتمعت تَكَسُّرا، وعلى الأصابع الخمسة التي تتكامل في اليد الواحدة، لكن الواقع أخبرنا خلاف ذلك، وأضحت الوَحدة مجرد حلم، لا يترك لنا أذناب الاستعمار فرصة لتأويله، أثقلونا بالهموم والأزمات حتى صرنا نلتمس المعجزات، ونقف كالماء الراكد في انتظار تحقُّقِ النبوءات. أقنعونا في صمت بأنه لا حل لأزماتنا إلا من خلالهم، وأن قضايا الأمة الكبرى لا مكان للأفراد فيها، بأننا عاجزون عن التأثير، لنترك لهم الدفة والمرساة، وعلى المتضرر القفز بين أمواج البحر العاتية. هناك حالة من الفصام النكد بين الجهد الفردي والسياق العام للأمة، وتأصّلَت في اللاوعي حقارة بذل الواحد، وعدم قدرته على إحداث التغيير، وعمّق من هذه النظرة عدم رعاية الدول لبذل الأفراد، بل غالبا ما تصطدم توجهاتها السياسية بجهودهم، ومن ثم يرى الأفراد أن حلم وحدة الأمة ينتظر يوسف الزمان ليعبره، أما هم، فليس عليهم سوى انتظار المعجزة. وفي سياق ما أكد المصلحون عليه من أهمية الجهد الفردي في النهوض بالأمة، يأتي دور الفرد في تحقيق الوحدة من دون انتظار الأنظمة والحكومات التي بينها وبين هذه الغاية بُعد المشرقين.

سيؤمِن الفرد بمسؤوليته في تحقيق حلم الوحدة عندما يكون على قناعة بالجهود التراكمية التي تتضافر لإحداث التغيير، ومنها يدرك تماما أنه بتعدد الأيدي تكثر اللّبِنات ويُقام البناء. سيؤمِن الفرد بتلك المسؤولية عندما يكون على قناعة بأن لكل صوت صدى، والناس مُولعون أساسا بالتقليد، فمن ثم إذا استشعر المسؤولية وبذل من أجل تحقيق هذا الهدف، فسوف يجد من يحذو حذوه ويقتفي أثره.

سيؤمن الفرد بتلك المسؤولية عندما يكتشف أن القرآن الكريم لم يُفصّل في شؤون الدولة والسياسة والحكم والاقتصاد، كتفصيله في شأن الأخلاق الفردية، فاكتفى في الأولى ببيان المبادئ العامة التي يستقر عليها كل نظام صالح، بينها الإسلام، وترك بعضا منها للفكر الإنساني لئلا يضيق ويخمد، كما يقول المفكر محمد العبدة، بينما فصّل في الأمور المتعلقة بالأفراد من عبادة وقصص وأحوال الأسرة وغيرها، لأن بناء الفرد هو أساس لبناء الدولة، وبذلك تزول إحدى مشكلات السياسة الكبرى التي تحدث عنها الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، وهي كيفية الجمع بين المبادرات الفردية الضرورية للتقدم، والتلاحم الاجتماعي الضروي للبقاء، وتأسيسا على هذا يدرك الفرد أهميته في بناء المجتمع والأمة ولا يحتقر جهده الذاتي.

إن سبيل الفرد إلى الإسهام في تحقيق الوحدة هو مواجهة القُطْرية في داخله، معالجة تلك النظرة الجغرافية التي ينظر بها إلى غيره من الشعوب والمجتمعات، الخروج إلى فضاء الانتماء العام للأمة، وتجاوز كل النعرات وليدة التقوقع الحدودي. لن يعجز الفرد عن استعادة الروح القديمة التي سادت قبل التفتيت، حينما كانت مسميات (العراقي، الشامي، المصري، اليمني، الحجازي، النجدي…) مجرد أدوات لتعيين أرض المنشأ ومسقط الرأس، فالجميع يحمل الراية ذاتها، والكل يعتز بانتمائه لهذه الأمة، وجميعهم لا يرى فرقا بين ماء الفرات أو النيل أو العاصي، إنه مفهوم الانتماء الرحب، الذي أخرج سليمان الحلبي من بلده ليقوم بمهمة تصفية قائد الاحتلال الفرنسي في مصر، وأخرج عز الدين القسام من اللاذقية إلى فلسطين، ليدفع عنها الاحتلال البريطاني، إنه الشعور بأمة الجسد الواحد.

لن يعجز الفرد عن الإسهام في تحقيق الوَحدة بترك التنميط، وتجنب نشر الأمثال الشعبية والعبارات التي تستخدم في غير موضعها، لتشويه صورة شعب ما، فكثيرا ما يحدث أن يتهكم بعضهم على الأشقاء في دولة أخرى، فيصف أهل بلد بأنه كسالى، وآخر بأن أهله غدّارون، وآخر بأن أهله بخلاء، فمثل هذه السلوكيات تعمق الفجوة بين الشعوب لا شك، فتصنيف المجتمعات طبقا للأنماط الجامدة، بدلا من معاملتها على أساس الحقيقة المكتسبة من المعرفة الموضوعية، ليس إلا إشاعة للكراهية والاحتقار، وقد اكتوى العرب أنفسهم بهذه النيران، فبعد اندلاع الصراع العربي الإسرائيلي وتقسيم فلسطين، تعرض العرب لمحاولات دعائية معادية لترويج حزمة من الأنماط المسيئة لهم، عن طريق وسائل الإعلام الغربية الموالية للكيان الإسرائيلي. ولن يعجز الفرد عن الإسهام في تحقيق الوحدة بترك التعامل بـ»فوقية» مع غيره من الشعوب، فبعض أبناء الشمال الافريقي ينظرون إلى عرب الخليج على أنهم ليسوا إلا خزائن تمشي على الأرض، عديمي الثقافة والإبداع، بينما يرون في أنفسهم أهل التمدن والتحضر والثقافة، وبعض البلدان لا يزال أهلها يُعيّرون غيرهم بهبات ومعونات سالفة، كانت ترسل إليهم، والبعض يسيء الظن في الجميع، ويعتبر كُل من يدافع عنهم أو يبذل إليهم الصلة محبة في الله، ما هو إلا مُتزلّفّ طامع، لأن الله وهبهم ذهبا أسود تدفّق من تحت أقدامهم لحكمة عنده سبحانه، فمثل هذه السلوكيات الباعثة على الغثيان تُفرّق شمل الأمة وتغرس الكراهية بين الشعوب.

إن المتابع لسلوكيات الجماهير على مواقع التواصل الاجتماعي، يدرك حجم التنابز والتراشق الناجميْن عن تلك القُطرية القابعة في وجدان الشعوب، لذا أهيب بكل ذي قلم ورأي على هذه المواقع من مغردين ومدونين، أن يجعل التقارب بين شعوب الأمة على رأس أولوياته، والدعوة لحصر النقاشات على القدر المشترك المجمع عليه، وألا تجعل الجماهير أنظمتها الحاكمة معقد الولاء والبراء، والتفريق بين انتقاد الشعب وانتقاد النظام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق