لقاء خاص مع مصطفى يوسف
الباحث في الاقتصاد السياسي والتنمية
مدير المركز الدولي للدراسات التنموية والاستراتيجية في كندا،
ما الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في مصر اليوم؟
هي أزمة ذات أبعاد كثيرة، البُعدان الرئيسان هما: السفه في الإنفاق أو الإنفاق غير المسؤول، والفساد. منذ قيام الجمهورية الجديدة بعد انقلاب صيف 2013 قام قائد الانقلاب الجنرال السيسي بمحاولة الترويج لمشروعات عملاقة غير مدروسة، وصرّح أكثر من مرة بأنه لا يثق في دراسات الجدوى، أو الدراسات التنموية؛ فبعد حفر تفريعة قناة السويس استهلك كافة الاحتياطي النقدي وفقا لتصريح هشام رامز - محافظ البنك المركزي آنذاك في 2014 – مما أدى لشح الدولار، وزيادة سعره، ونمو سوق موازية، وقد كان سعر الدولار يوم انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013 يصل إلى 6.35 جنيهات، وبعد الممارسات غير المسؤولة من قِبل السيسي بدأت الأزمة الاقتصادية تتفاقم إلى أن استفحلت، وهذا هو العنصر الرئيس الذي أدى لتفاقم الأزمة الاقتصادية منذ قيام جمهورية الضباط الجديدة بعد انقلاب 2013.
هل تلك الأزمة الاقتصادية ناجمة عن أوضاع خارجية لا علاقة لها بممارسات النظام كجائحة كورونا وحرب أوكرانيا أم أن ممارسات السلطة هي السبب في ذلك؟
تحليل الأزمة الاقتصادية في الخطاب الرسمي للدولة - سواء من السيسي أو رئيس الوزراء مصطفى مدبولي - بأن سببها الرئيسي هو جائحة كورونا أو الحرب الروسية بأوكرانيا يُعد كلاما عاريا تماما عن الصحة، ويعتبر محاولة لغسل اليدين من السياسات الاقتصادية الفاشلة التي قامت بها حكومات السيسي منذ أن استولى على الحكم في 2013؛ فلا بد من الاعتراف بالفشل، وسوء الإدارة، واستشراء الفساد بشكل غير مسبوق، وتسليط الضوء على عدم إعطاء أي أولويات للتنمية، أو للمواطن، أو للتعليم، أو للصحة.. أي حكومة منتخبة تسعى لإرضاء من جاء بها للحكم، أما السلطويات العسكرية فهي لديها أجندات خاصة تخدم مَن أتى بها إلى السلطة.
إلى أي مدى تساهم الودائع والاستثمارات الخليجية في مصر في احتواء وتقليل آثار الأزمة الاقتصادية؟
الودائع الخليجية مجرد "مسكنات" لتهدئة الأوضاع لبضعة أشهر ليس إلا، والنظام المصري مُمثلا في السيسي، ورئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وأحد الأذرع الإعلامية عماد الدين أديب، وغيرهم، حاولوا بكل الطرق استجداء الخليج لضخ بعض الأموال والاستثمارات لشراء بعض الوقت حتى لا يحدث انهيار اقتصادي حذّرت منه الكثير من المؤسسات الدولية ومراكز الأبحاث، وبعض البنوك الكبرى التي ترصد وتحلل، وهذه الودائع ستنجح فقط في شراء بعض الوقت، لكن لا توجد مطلقا أي رؤية شاملة، أو خطط تنموية، أو حلول هيكلية لمشاكل الاقتصاد التي ظهرت بشكل جلي منذ ظهور ما تسمى بـ "جمهورية السيسي".
السيسي ألمح إلى وجود مساعٍ لتحويل الودائع الخليجية إلى استثمارات في مصر.. فكيف ترى تلك الخطوة؟
هناك خلط في ذهن الرئيس، ولا أدري إن كان مدركا له أم لا؛ فهناك فرق هائل بين الاستثمارات وبين بيع الأصول. الاستثمار هو أن تقوم بعض الشركات، أو الحكومات، أو الهيئات بمشروعات جديدة تقوم على زيادة القوى العاملة، وزيادة الاعتماد على المكون المحلي والداخلي الذي يدخل في الصناعة، وما يحدث الآن هو أن الإمارات والسعودية الداعمين لنظام السيسي والقوات المسلحة في الانقضاض والانقلاب على التجربة الديمقراطية يحاولون الآن شراء بعض الشركات الناجحة للغاية كشركات الأسمدة، وبعض الموانئ، والبنوك، وشركات الصناعات الاستراتيجية الناجحة بكل المقاييس بأثمان أقل بكثير من قيمتها الحقيقية، والخطورة هنا تكمن في أن الكثير من العمالة سيتم تسريحها، وعوائد هذه الأموال بدلا من إعادة ضخها في قلب الاقتصاد المصري ستُرسل هذه الأموال إلى الخارج، أي إلى المستثمرين الأجانب. أيضا غياب منظومة القوانين، وغياب الشفافية يُنذر بفشل آخر متوقع من هذه الطلبات غير المنطقية التي يطالب بها رأس النظام؛ لكي يُغطي على فشل اقتصادي ذريع.
وماذا عن رؤيتكم للطلب الذي تقدمت به مصر للحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي؟
استكمالا لسياسة الاقتراض من الخارج سواء من مقرضين دوليين، أو من المؤسسات الدولية، أو من داعمي "جمهورية الضباط الجديدة" يسعى الجنرال السيسي للحصول على قرض جديد، ويعتبر هذا القرض في نفس الوقت بمثابة شهادة "حسن سير وسلوك" للنظام المصري من صندوق النقد؛ فالصندوق يود أن يرى القيمة الحقيقية للجنيه المصري، والتي تتراوح بين 22 إلى 25 جنيها تقريبا، وهو ما سيؤدي لتفاقم شديد جدا، ومعاناة في مستوى دخول وإنفاق الطبقات الفقيرة والوسطى في مصر؛ فعاجلا أو آجلا سيتم تخفيض قيمة الجنيه، وأتوقع أن يكون ذلك خلال أسابيع قليلة، وستحصل الحكومة المصرية على القرض، وسياسة الاقتراض وبيع الأصول ليست سياسة ناجحة أو منطقية على الإطلاق لحل أي مشاكل اقتصادية؛ فنحن الآن أمام وضع غير مسبوق يُنذر بانفجار اقتصادي وشيك نتيجة الممارسات غير المسؤولة.
وقرض صندوق النقد الدولي، كما الودائع الخليجية، سيساعد النظام على شراء بعض الوقت، لكن من المستحيل أن يكون شراء بعض الوقت هو الحل؛ وحينما تأتي لحظة الحقيقة سيجد المصريون أنفسهم وصلوا إلى رقم من الديون غير مسبوق، والآن الدين المحلي والدين الخارجي تجاوزا 400 مليار دولار، وحين قامت "جمهورية السيسي" كانت الديون الخارجية والمحلية حوالي 112 مليارا أو أقل قليلا؛ فقد كان الدين المحلي حوالي 71 مليارا، والخارجي كان 41 مليارا، بينما الآن تجاوزت تلك الديون أربعة أضعاف مما كانت عليه سابقا، وللأسف الشديد المواطن لم يشعر بأي تحسن مطلقا؛ فالمديونية تزيد، والعملة تنهار، وهناك تدن كبير جدا في مستوى معيشة الناس، والأوضاع تزداد بؤسا فوق بؤس.
السيسي طالب المصريين مؤخرا بعدم الشكوى مجددا من ارتفاع الأسعار، وقال: "لسه عظمنا مانشفش، ولما يبقى دخلي تريليون دولار في السنة ابقوا حاسبوني".. كيف تعلق على تلك التصريحات؟
أرى أن السيسي لديه مشكلة كبيرة مع الأرقام؛ ففي السابق كان يتحدث عن 100 مليار دولار واليوم تريليون دولار، وأشعر أن هذه الأرقام الكبيرة تستهويه للغاية؛ فلديه "هوس الأرقام".. بالطبع هذه التصريحات غير مقبولة؛ لأنها تصريحات معيبة جدا لا تصدر مطلقا من رئيس بلدية، فضلا عن رئيس دولة بحجم مصر، والرئيس يُحاسَب على أي مستوى للدخل، وعدم وصول الناتج القومي المصري لأرقام كبيرة هي مسؤولية الرئيس، وكما قالت إحدى المذيعات سابقا للرئيس الراحل محمد مرسي: «لو مش قد الشيلة ما تشيلش»، نفس هذا الكلام نقوله للرئيس السيسي: إن لم تكن على قدر المسؤولية فلتتركها وترحل.. فمعلوماتك الاقتصادية تحتاج لمراجعات جادة، والرئيس يُحاسَب على أي وضع كان، وإن لم تستطع التعامل مع الوضع الاقتصادي القائم تقدم باستقالتك، ليأتي شخص آخر لديه من الكفاءة، والقدرة على تحمل المسؤولية بشفافية، ويوقف نزيف الفساد، ويوقف سيل القروض، ويوقف المشروعات عديمة الجدوى الاقتصادية، فهذه تصريحات في منتهى الغرابة ومعيبة وغير مقبولة وأعتبرها إهانة للمصريين.
اقرأ أيضا: السيسي: حاسبوني لما يصبح دخلنا تريليون دولار.. "لسه بدري"
أيهما كان أقسى على مصر من الناحية الاقتصادية.. تداعيات جائحة كورونا أم انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية؟
أعتقد أن الأزمة الروسية - الأوكرانية ضغطت بشكل أكثر وأثّرت بشكل أكثر سلبية على الاقتصاد المصري؛ لأن جائحة كورونا قلّلت الدخل الذي كان يأتي من السياحة، ثم أتت الحرب الروسية - الأوكرانية لكي تزيد المعاناة نتيجة تضاعف أسعار الطاقة، وتضاعف أسعار القمح، وإن كان هذا الأمر في حقيقته لا يعفي النظام من المسؤولية، لأن التفريط في حقول الغاز، والذي أدى لعدم الاكتفاء الذاتي من الطاقة، وعدم الرغبة في الاستمرار في الخطة الطموحة التي قامت بها حكومة الثورة بالاكتفاء الذاتي من القمح، وهو الأمن الغذائي، وهو يقع في صميم الأمن القومي المصري، وكذلك التفريط في مياه النيل، مما سيؤدي إلى تقلص المساحة المزروعة، وبالتالي فالأزمة الروسية - الأوكرانية كشفت هشاشة الاقتصاد، وأثّرت بشكل أكثر سلبية على الاقتصاد المصري.
ما أثر قرار الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة 0.75% على الاقتصاد المصري؟
هذا القرار سيؤدي لتباطؤ الاقتصاد العالمي، وهو محاولة حثيثة للسيطرة على التضخم الذي بدأ يأخذ منحى لم تعهده الولايات المتحدة ولا الاقتصاديات الكبرى خلال الأربعين سنة الأخيرة تقريبا. هذا القرار سينعكس انعكاسا سلبيا للغاية على الاقتصاديات الهشة، والاقتصاديات الناشئة، وفي القلب منها الاقتصاد المصري الذي ستهرب منه الأموال الساخنة التي ستعود إلى الاقتصاديات الأكثر استقرارا، كالولايات المتحدة واقتصاديات الدول الأوروبية، لأن المقرضين يسعون إلى وجود أموالهم في منطقة آمنة تعطي سعر فائدة حقيقيا ومستقرا.
وانعكاس هذا الأمر على الاقتصاد المصري أنه سيتم تخفيض قيمة العملة، وسيتم رفع معدلات الفائدة، مما سيؤذي وبشدة الشركات الصغيرة والمتوسطة، وسيوقف عجلة الاقتصاد والنمو، فحين تزيد سعر الفائدة أنت لا تساعد إطلاقا أي شركات تريد أن تقترض؛ فأنت ستقلل من وتيرة الاقتصاد.. والمنتجون الصغار، والشركات المتوسطة، والصغيرة ستتضرر بشدة، والحكومة المصرية التي أدمنت الاقتراض ستدفع أموالا طائلة، وأسعار فائدة أعلى بكثير حتى تستطيع أن تجتذب الأموال الساخنة، وهذه هي الزيادة الثالثة لسعر الفائدة هذا العام، وستكون هناك زيادات أخرى كما صرّح رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو قرار سيؤثر بشكل سلبي للغاية على الاقتصاد المصري.
ما مدى دقة التقارير التي تتحدث عن احتمالية اتجاه مصر نحو الإفلاس؟ وهل هذا وارد مستقبلا أم لا؟
التقارير التي تشير إلى الإفلاس الوشيك لمصر تقارير غير دقيقة، فالاقتصاد المصري كبير، ولديه دعم ضخم من المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي.. النظام المصري لديه علاقات وثيقة جدا بإسرائيل، التي لديها تأثير كبير على «اللوبيات» أو جماعات الضغط التي تتحكم في صناعة القرار في الولايات المتحدة، وكذلك داعما النظام الكبيران الإمارات، والسعودية، لن يتركا النظام المصري يسقط.
لكن الفشل الاقتصادي، وعدم وجود خطط تنموية سيؤدي، كما ذكرت، إلى وجود لحظة للحقيقة، ولن يستطيع أحد إقراض ودعم النظام المصري للأبد، وفي تقديري أن الفشل الاقتصادي سيؤدي إلى نوع من أنواع الانفجار المجتمعي وموجة ثورية ثانية، وأتوقع أن يكون ذلك في نهاية العام المقبل (2023) أو العام الذي يليه على أقصى تقدير (2024)؛ لأنه العام الذي سيشهد انتخابات رئاسية، كما نص على ذلك التعديل الدستوري الذي حاول النظام العسكري به أن يبقى الرئيس السيسي رئيسا إلى الأبد، ولكن الفشل الكبير والذريع في الإدارة، والفشل الاقتصادي، لن يجعل الناس تصبر عليه أو تتقبله، وكون أن هناك تقارير تشير إلى إفلاس مصر الوشيك فهذه تقارير غير دقيقة، وأظن أن بها قدرا من المبالغة.
هل استمرار تفاقم الأوضاع الاقتصادية في مصر سيؤدي إلى اضطرابات سياسية واسعة أو انفجار مجتمعي محتمل؟
الفشل الاقتصادي، وازدياد معدلات الفقر، والفشل الذريع في إدارة الدولة بشكل عام، وفساد غير مسبوق، وارتفاع مستوى الدين الخارجي والداخلي لمعدلات لم تشهدها مصر مطلقا في التاريخ الحديث أو القديم.. فنحن أمام مشهد يُنذر بانفجار مجتمعي خطير، وموجة ثورية ستكون أكثر حدة وشراسة؛ لأن الناس تئن بشكل كبير، خاصة في ظل الانقسام المجتمعي، والفشل في اجتذاب استثمارات خارجية، واستمرار تدهور أحوال المواطنين، وتآكل الطبقة الوسطى، وهي كلها عوامل تُنذر بعدم الاستقرار الذي ستكون عواقبه وخيمة.
ونتمنى أن يكون هناك نوع من أنواع التعقل لدى السلطة الحاكمة، وتحاول التخفيف عن كاهل المواطنين، وتنقل السلطة بشكل سلس، ووجود نوع من أنواع العدالة الانتقالية، وأن نرى تغييرا كبيرا أولا في مَن يدير المشهد السياسي والاقتصادي، ونتمنى أن يتنحى الرئيس السيسي؛ لأنه أثبت أنه غير جدير بحكم مصر، ونتمنى أن يكون هناك وجوه جديدة لديها شفافية وغير ملوثة بالفساد، ولديها رغبة حقيقية وجادة في الإصلاح، وخطط تنموية تضع المواطن البسيط على قمة الأولويات.
اقرأ أيضا: هل يستغل السيسي الحوار الوطني كـ"غطاء" لبيع أصول الدولة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق