ناصر والسيسي.. المستنقع واحد
المؤرخ . محمد إلهامي
منذ طلع علينا عصر اليوتيوب، وأخرج الناس فيه ما كانوا يحتفظون به من المواد القديمة والنادرة، كنتُ مهتما بسماع خُطب جمال عبد الناصر.
ذلك أن تراث التليفزيون المصري لم يكن يتحفنا إلا بالقليل النادر منه! بينما ما نقرؤه في الكتب، وما نسمعه عن الأجداد أن الناس كانت تهيم عشقا في عبد الناصر، وتحرص على سماع خطبه، ويتحدث الناس عما يتمتع به من الكاريزما التي هي جاذبية الزعامة!
خطاب إلى عبد الناصر
وكان لي صديق، يحكي لنا عن والده، أنه أرسل خطابا إلى عبد الناصر يُعلِّق فيه على خطابه، ثم بعد فترة جاءه الرد من عبد الناصر.. ووالده هذا ظل ناصريا حتى فارقتُه، والله أعلم هل تاب منها أم لا.
ومع أني كنتُ أعرف أن خطابات عبد الناصر يكتبها هيكل، وكتب هيكل كانت متاحة، وهو بغير شك صاحب قلم أدبي لذيذ، إلا أن هذا لا يشفي من يريد أن يفهم كيف كان يخطب عبد الناصر، وكيف كان يملك التأثير في مستمعيه!
لكنني صدمت حقا، حين استمعت لبعض خطاباته، وبدت لي سمجة وساذجة وفقيرة وتافهة، ولم أجد الفارق ضخما بينها وبين خطابات السادات -وهو لا يخلو من كاريزما- وخطابات حسني مبارك الخالية تماما من الكاريزما!
وشعرتُ أن ثمة شيء مفقود بيني وبين أهل ذلك العصر، وبقي الأمر محتاجا إلى تفسير: كيف كانت هذه الخطابات العادية بل السمجة تصنع كل هذا التصفيق والإعجاب والانبهار؟!!
ما السر؟!
لما مضت الأيام، وتزوّد المرء من العلم والفهم، صرت على يقين بأن الخطابات في ذاتها لم تكن هي السرّ.. بل السرّ فيها هو ما تُسبغه عليها الآلة الإعلامية الجبارة والوحيدة من المحاسن والفضائل..
فالإعلام قادر على تحويل الحسن إلى قبيح، والقبيح إلى حسن..
هل تذكر كيف حوَّل الإعلام كلمة مرسي “أهلي وعشيرتي”، وهي من فصيح الكلام، إلى معنى يدل على العنصرية والإقصاء والانغلاق؟.. وكيف حوَّل كلمته “الحق أبلج والباطل لجلج” إلى معنى يدل على الثقل والسخافة والتنطع؟!
ثم انظر كيف يفعل الإعلام مع السيسي الذي هو نموذج في البلاهة والسفاهة إذا تكلم.. لا يستطيع تركيب جملة باللغة العربية، بل ولا يستطيع الإفصاح عن المعنى بالعامية إلا بعد لف ودوران وتهتهة وتلعثم..
فلولا أن كنا في عصر الفضائيات ووسائل التواصل التي تركز على هذه الفضائح لكنتَ ستحسب أن السيسي صاحب كاريزما عظيمة، وصاحب خطابات تنتزع تصفيق الجماهير!!
أرى أحدا يقول: حرامٌ عليك أن تقارن بين السيسي وعبد الناصر.. فأين هذا من هذا؟!
وأقول: صحيح.. ولكن يجب أن تضع في ذهنك، أن عبد الناصر كان يخاطب مجتمعا قد صُنِع ذوقه على يد أحمد حسن الزيات والعقاد وطه حسين والمازني وسيد قطب وأحمد أمين، وقبلهم: الرافعي ورشيد رضا وشكيب أرسلان وداود بركات وغيرهم ممن قد لا يستطيع أهل العصر الحالي أن يفهم كلامهم فضلا عن أن يستمتع بحلاوة بيانهم!
وقع كلام السيسي كوقع كلام ناصر
إن وقع كلام السيسي على أسماعنا الآن، هو نفس وقع كلام عبد الناصر على أسماع ذلك الجيل.. لكننا الآن نملك أن نعبّر عن تفاهة هذا وسخافته، بينما كان أولئك مجبورين على التصفيق والمدح والتطبيل، فإن لم يفعلوا سكتوا!
إننا ثمرة هذا التجهيل الذي بدأه عبد الناصر حتى صار يصنع ثقافتنا ومستوى تذوقنا أمثال عمرو أديب وأحمد موسى ونشأت الديهي ومصطفى بكري وممتاز القط وياسر رزق ومحمد الباز!!
وحقا، لا أستطيع أن أتصور إلى أي حد قد يصل الانهيار إذا استمر الحال على ما نحن فيه الآن!!
هل تتصور أن يكون أحمد موسى زعيم مدرسة إعلامية يجري تدريسها وبيان خصائصها واستخراج الدروس المستفادة منها في مستقبل الأيام؟!
هلْ تتصور أن يتفاخر أحدهم يوما ما بأنه كان يعمل معدا في فريق الأستاذ الكبير أحمد موسى؟!! ثم يؤتى به كخبير يُعلِّم الطلاب كيف يكون الإعلام؟!!
آخر صيحات السيسي أنه بعد أن ينتهي من مصر، فلن يترك دولة في العالم دون أن ينهض بها!!
وهذا كما قالوا: كلام يُغني إيراده عن ردّه!! ولا يمكن أن يصدر إلا عن مخبول لا يدري ما يقول!!
فهل رأيت شحاذا وقف في الطريق يعلم الناس: كيف يكسبون مليار جنيه؟!
هل رأيت فاشلا لم يحصل على شهادة الابتدائية فتح أكاديمية يعلم الناس فيها كيف يصعدون إلى الفضاء؟!
هل رأيت عاهرة نصبت منبرا لتعلم الناس: كيف تكون العفة في زمن الفتن؟!!
ها أنت ترى أحدهم بعدما نكب الناس وأفقرهم وقتلهم جوعا وعطشا.. يبشرهم بأنه سينهض بالدول الأخرى!! ولا يستطيع أحد تحت حكمه إلا أن يصفق ويصطنع السعادة والفرحة بالقائد الزعيم!
وقديما قالوا:
إذا كان الغراب دليل قوم .. يمرّ بهم على جيف الكلاب!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق