وزير الأوقاف الأردني والدرس الكوري
بعيدا عن قنابل الدخان والتشتيت، يبدو أن قرارا سياسيا اتخذ في الأردن باستيلاء الحكومة على جمعية المحافظة على القرآن الكريم، كما حصل مع جمعية المركز الإسلامي.
في تلك المعركة مع الجمعية بدأ الحديث عن فساد فيها، تبيّن بعد أكثر من عقد في المحاكم أنه غير صحيح. وبعض من اتهموا ظلما توفاهم الله قبل الحكم.
القصة توجد نظرة استشراقية أمنية لجمعيات القرآن عمّمت على العالم العربي والإسلامي، تعتبرها محاضن لنشر ثقافة الإرهاب. وفي ظل الأحكام العرفية التي تشهدها البلاد منذ جائحة كورونا، من السهل أن يستولي وزير الأوقاف على الجمعية، وسنرى بعدها النجاحات الحكومية التي يخبرها المواطن.
أتمنّى أن يكون تحليلي مخطئاً، أو أن يتراجع عن خطئه إن كنت مصيبا. في مقابلته مع قناة المملكة، سأل الوزير: "هل يعقل أن نفتح تعليم قرآن لطفل عمره خمس سنوات؟".
وهنا أجيبه من كوريا الجنوبية التي حقّقت نهوضا اقتصاديا اعتمادا على نظامها التعليمي الذي يعد من أفضل عشرة أنظمة عالميا. "على بعد حوالي ساعة بالسيارة شمال سيول، في جبال كوانغجو، يتأمل ما يقرب من خمسين طفلًا كوريًا جنوبيًا في كتاب. النص خيار غير متوقع: التلمود، كتاب الشرائع اليهودية البالغ من العمر ألفاً وخمسمائة عام. الطلاب ليسوا يهودًا ولا أساتذتهم وليست لديهم مصلحة في التحوّل. معظمهم لم يقابل يهوديًا من قبل. ولكن، وفقًا لمؤسس مدرستهم، التحق الطلاب بهدف الحصول على "تعليم يهودي" بالإضافة إلى تعليم كوري".
يصف الكاتب في مجلة نيويوركر الأميركية الشهيرة أجواء دراسة التلمود "عندما تجولت في المدرسة الداخلية العام الماضي، كان الطلاب الذين تراوحت أعمارهم بين الرابعة والتاسعة عشرة يجلسون القرفصاء على أرضية قاعة صغيرة تشبه الخيمة". التحقيق المطوّل الذي نشرته المجلة يكشف انتشار دروس التلمود في اليابان وكوريا، مع أنه، حسب نصه، يُحرّم تدريسه على غير اليهود.
أفتخر بمشهد الطفل الأردني محمد نوح العنانزة الذي فاز بالمرتبة الأولى في العالم في حفظ القرآن في إثيوبيا التي شارك فيها 56 بلدا.
احتشد عشرات آلاف من الإثيوبيين تحت شمس أفريقيا يستمعون إلى لسان عربي مبين. بمنطق الثقافة، القرآن جسر العروبة إلى ملياري مسلم، وهذا ينعكس مصالح ونفوذا وتأثيرا، خصوصا في وقت تواجه اللغة العربية تحدّيات في مهدها في ظل هيمنة الثقافة الغربية وضعف مناهج تعليم العربية.
يعلم الوزير أن الموضوع لا علاقة له بالتربية، فلا تزال خلاوي القرآن الكريم في مجاهل أفريقيا تحفظ لغة القرآن وتنشرها، رغم اعتمادها وسائل تعليمية تعود إلى أكثر من ألف عام. ولا أحد يختلف معه على ضرورة تطوير التعليم، سواء العلوم المادية أم الدينية وفق أحدث الأساليب والنظريات. نختلف معه في الأولويات وفي الأسلوب، في زحمة الضغوط والتحدّيات التي تواجه الأردن اقتصاديا وسياسيا.
بدلا من أن يكون وزير الأوقاف محضر خير في إطفاء الحرائق وحل المشكلات وخوض المعارك المجدية والمفيدة، فتح معركة مع جمعية المحافظة على القرآن الكريم، وكأنه حل كل مشاكل الوزارة بأوقافها ومساجدها وصندوق الزكاة، وفوق ذلك دائرة المسجد الأقصى التابعة لها، والتي تعني أكثر من ملياري مسلم يخشون عليه من هجمات المستوطنين اليومية، ويواجه خطر التهويد والتدمير.
تراجعت تلك الأولويات كلها لصالح المعركة مع هذه الجمعية، من خلال ملاحظات عليها، حتى لو كانت دقيقة، تُحلّ على فنجان قهوة مع القائمين عليها، وهم من خيرة رجال البلد الذين يحملون عبئا كبيرا عن الدولة، وعن وزارة الأوقاف خصوصا. والجمعية تساعد الوزارة في مهامها، وليست بديلا لها ولا تحتكر تحفيظ القرآن ولا تدريسه.
خرّجت الجمعية التي يدرس أكثر من 150 ألفا في مراكزها ال 1050 في مختلف مناطق المملكة نحو عشرة آلاف حافظ للقرآن الكريم، وأجازت 15 ألف قارئ بالسند المتصل (القراءة المتقنة لقارئ عن قارئ وصولا إلى النبي عليه السلام)، وهو جهد جبّار تنوء به الحكومات. ولأول مرّة في تاريخ الإسلام، يترجم القرآن الكريم إلى لغة الصمّ بجهود متطوّعيها فضلا عن طباعة القرآن وتفسيره بلغة بريل للمكفوفين.
لا أحتاج للمقابلة التلفزيونية المتوترة لمعرفة الجمعية، فقد خبرتها من اليوم الأول من خلال مؤسّسها إبراهيم زيد الكيلاني عميد كلية الشريعة ووزير الأوقاف رحمه الله، والفريق المؤسّس معه، والذي لا يزال حاملا للأمانة. أولادي رند وآية وعلي ورؤيا درسوا في الجمعية، ووجدوا في المتطوعين، ومنهم من كانوا طلابا في كليات الطب والهندسة وغيرهما، قدوة صالحة. ومن غير اللائق أن يتجاهل الوزير جهود آلاف المتطوعين، ليحدّثنا عن راتب مدير فيها يصل إلى راتب أمين عام وزارة. مع أني أعتقد أن من القائمين على الجمعية من يستحق راتب وزير، والمدير الذي تحدّث عنه تفرّغ مديرا عاما للجمعية بأقل من امتيازاته في عمله السابق، وحقّق قفزات نوعية للجمعية بعد تفرغه، ولو بقي في عمله السابق لحقّق دخلا أعلى. المجتمع الأردني وخصوصا الأطفال يواجهون تحدّيات خطيرة أخلاقية وتربوية وحري بالوزير أن يدعم الجمعية لتبقى وقفا يخدم الأجيال، فالمنصب زائل والحياة زائلة، ولا يبقى غير الأثر وصالح العمل. سلفه الوزير إبراهيم زيد الكيلاني نموذج لذلك. والمأمول أن تمرّ الأزمة كسحابة صيف، فالبلد لا يحتمل مزيدا من الأزمات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق