الأربعاء، 22 يونيو 2022

تونس ودستور قيس سعيّد

 تونس ودستور قيس سعيّد

علي أنوزلا

تعتبر لحظة وضع الدساتير في الدول تأسيسية بامتياز، لأنها اللحظة التي توضع فيها أسس الدولة وركائز مؤسساتها العتيدة التي تنظم عمل السلطات الثلاث الأساسية داخلها. وفي الحالات الطبيعية، يتم التهيئة لهذه اللحظة بتوافق سياسي وحالة من الانفراج الاجتماعي لإشراك أكبر قدر من الناس في صياغة الوثيقة التي تعتبر عقدا اجتماعيا تلتف حوله غالبية الشعب. لكن من يتابع ما يجري اليوم في تونس، يتهيأ له أن البلاد على أهبة الدخول في حرب أهلية، وليست بصدد وضع دستور جديد، فالحالة التونسية اليوم هي نتاج مزاج فردي فرضه الرئيس قيس سعيّد منذ انقلابه على السلطة قبل عام، لأنه أراد أن يغير كل شيء في البلاد بشكل فردي، وبطريقة فيها كثير من العجرفة الزائفة والتسلط المقيت، نحو مصير مجهول وغامض.

حتى أيام معدودات من يوم الاقتراع على مشروع الدستور المقترح، ما زال التونسيون لم يطلعوا على نسخته التي سيُستفتون حولها، وكل ما تسرّب من مضامين هذه الوثيقة "السرّية"، يطرح تساؤلاتٍ بشأن مستقبل الدولة اليي يريد سعيّد أن يفرضها على مواطنيه. دولة بلا أحزاب سياسية، وبسلطات مطلقة بين يدي رئيس مزاجي غامض، وفي صراع يومي مع أكثر من جهة داخل مؤسسات البلاد، فالوثيقة التي يريد سعيّد عرضها على التونسيين للتصويت عليها تضع منصب رئيس الدولة أعلى من كل الهياكل الدستورية والحزبية، بحيث يكون الرئيس هو من يختار رئيس الحكومة ويعينه، بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات التشريعية ومن سيفوز فيها من الأحزاب التي ستتحوّل إلى مجرّد ديكورات داخل البرلمان، للمصادقة على برنامج رئيس الحكومة الذي يضع الرئيس برنامج حكومته، بحيث تصبح الحكومة المكلفة بالمهام التدبيرية والبرلمان المكلف بالمصادقة والتزكية مجرّد أداتين، تنفيذية وتشريعية، في خدمة الرئيس الذي سيكون، في الوقت نفسه، رئيس السلطة القضائية، يعين القضاة ويعزلهم. ولا ضرورة لوجود مؤسسات دستورية موازية يعتبرها سعيّد مجرد أدوات تعطيل لمشاريعه التي لم تر النور!

الهدف، في حالة مشروع دستور سعيد، من إثارة الجدل حوله إحداث مزيد من التقسيم داخل الصف التونسي

صحيحٌ أن المزاج العام في تونس كان، حتى قبيل انقلاب سعيّد في 25 يوليو/ تموز 2021، ضد شكل النظام السياسي السابق الذي وضعه دستور ثورة 2011، الذي شتّت السلطات الثلاث ما بين الرئيس والبرلمان ورئيس الحكومة، وجعلها جزرا متنافرة، ولعب البرلمان السابق، بعد أن احتله الشعبويون، دورا مسرّعا في حمل التونسيين على فقدان ثقتهم في المؤسسات السياسية لبلادهم، خصوصا بعد أن تحول إلى مسرح للعراك بالأيدي والتنابز بالألقاب بين برلمانيين نساء ورجال، ربما كانوا مدفوعين إلى لعب تلك الأدوار التهريجية داخل المؤسسة التشريعية، لدفع الناس إلى نبذ أنشطتها ومتابعة نقاشاتها البيزنطية. وحتى بدون وجود مبرّرات حقيقية، فإن النظام الذي وضعه دستور عام 2014، المنبثق عن توافق سياسي كبير بين كل أطراف الطيف السياسي التونسي، استنفد مهمته، وأثبت فشله وأدخل البلاد في صراع سياسي على الصلاحيات، أدّى إلى إضعاف الدولة وتعطيل التنمية، وبالتالي كان لزاما تغييره، لكن الطريقة التي اتبعها سعيّد لإحداث تغييره القسري زادت من توتير الوضع، بدلا من إصلاحه. وقد أثبتت سنة من القرارات الفردية التي أقدم عليها الرئيس عن رغبةٍ جامحةٍ لديه للاستفراد بجميع السلطات، وجمعها بين يديه، في سعيه إلى إعادة البلد إلى عهد الدكتاتورية السابقة التي لم يسبق لسعيّد أن انتقد أسلوبها في الحكم الذي كان أحد أسباب ثورة التونسيين ضدّها.

منذ انقلابه على نظام الحكم السابق، تصرّف سعيّد مثل رئيسٍ مطلق الصلاحيات، لا يتراجع عن قراراته، وقد استطاع، إلى حينه، أن يمضي في تنفيذ كل ما خطّط له غير آبه برأي الشارع أو باحتجاجات معارضيه وانتقاداتهم. وبالرغم من أنه أصبح شبه معزول، بعد أن تخلّى عنه كل مؤيديه والمنتصرين لانقلابه، إلا أنه ماضٍ في تعنته. وإذا كان قد نجح في شيء، فقد نجح في توحيد صفوف خصومه ومؤيديه ضده، وفي عودة حالة الاصطفاف إلى الشارع التونسي المنقسم بين من يرغبون في تحقيق تغيير حقيقي يرون آثاره على حياتهم المعيشية ومن يبدون تخوفهم من حالة اللايقين التي أدخل إليها رئيسٌ غامضٌ بلادهم إليها، وهو يقودُها بشكل قسري نحو مصير مجهول وغامض.

يبقى على ذكاء التونسيات والتونسيين أن يقرّروا مصيرهم بأيديهم

من المتوقع أن يثير مشروع الدستور الجديد، بعد عرضه على الجمهور، جدلا واسعا في الأوساط السياسية، وهذا صحّي، لو يتعلق الأمر بمشروع دستورٍ جرى إعداده في ظروف طبيعية، لكن الهدف، في حالة مشروع دستور سعيد، من إثارة الجدل حوله إحداث مزيد من التقسيم داخل الصف التونسي، حتى ليبدو أن الغرض من قرار حذف الإشارة إلى المرجعية الإسلامية للدولة التونسية التي نصّ عليها الدستور الحالي تركيز النقاش حول هذه النقطة بالذات دون غيرها من الأمور الأخرى التي تهم توزيع الصلاحيات بين السلطات الثلاث، وتنظم حياة التونسيين مستقبلا. الهدف من وراء هذا الحذف الاستفزازي، الموجّه، في اعتقادي، نحو كسب استعطاف الغرب، هو إثارة مزيد من الانقسام داخل الشارع التونسي، ما سيتيح لسعيّد تمرير خططه الغامضة، وفرض أمره الواقع بغطرسةٍ وعنجهيةٍ كما يفعل اليوم.

.. سيبقى على ذكاء التونسيات والتونسيين أن يقرّروا مصيرهم بأيديهم، فالكرة اليوم في ملعبهم لإنقاذ بلادهم من العودة إلى عهد الدكتاتوريات الرئاسية التي تسلّطت عليهم منذ استقلال بلادهم قبل أكثر من 60 سنة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق