دينها الإسلام “خطاب مفتوح إلى الرئيس التونسي قيس سعيد”
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
تابعت المداخلة الصَّحفية للرئيس التونسي السيد قيس سعيد، والتي أعلن فيها صراحةً، بأن الدستور التونسي الذي تم إعداده مؤخراً، وسيتم الاستفتاء عليه في تونس لا ينص على “دولة دينها الإسلام”، معتبراً بأن الإسلام “دين الأمة” وليس “دين الدولة”، أردت توجيه هذا الخطاب المفتوح، وذلك للذكرى والنصيحة، فالذكرى تنفع المؤمنين، والنصيحة واجب على المسلمين.
أولاً: مرجعية الدولة العليا في الإسلام
يا سيادة الرئيس؛ إن مرجعية الدولة المسلمة هو الدين الإسلامي
ولقد بيَّن القرآن الكريم مجالات المرجعية لمكونات الدولة، فأما مرجعية الأمة ففي قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، وهو ما استدليت به في خطابك.
ومرجعية السلطة التنفيذية “الحُكام” في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
ومرجعية السلطة التشريعية، في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ (النساء: 59).
أيّ إن تنازعتم في شيء مهما صَغُرَ أو كَبُرْ، فَرُدّوه إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ﷺ)، سواء على صعيد الحياة الشخصية أو الحياة الاجتماعية والأسرية أو السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية أو الاجتهادات الدستورية أو العلاقات الدولية، وذلك كله خير، استدلالاً بقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).
ومرجعية الأفراد، فالدين الإسلامي هو مرجعية الأفراد، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:85).
ومرجعية الأُسر، قال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (التحريم: 6).
يا سيادة الرئيس… ربما من توفيق الله وإرادته سبحانه في إحقاق الحق والاستدلال المنطقي بأهل التقى والصلاح، بأن تستدل في خطابك بما قاله الشيخ العلامة محمد الخضر حسين (رحمه الله)، وهو الذي كان قاضياً وعالماً كبيراً من علماء تونس، وأصبح شيخاً للأزهر الشريف في زمانه، فأنت استحضرت ما قاله في محاضرته في مدينة بنزرت التونسية حول الحرية في الإسلام، ومقاصد الشريعة، وهذا يزيدنا يقيناً، ويدعم رأينا، إذ نرجع إلى شيخنا الخضر حسين في هذه القضية، فقد أشار هذا العالم في عبارة عميقة لها دلالاتها على تفقه الشيخ بالمقاصد الشرعية، وفهمه لهذا الدين العظيم، وسمى فصل الإسلام عن الدولة، وإبعاد المرجعية الإسلامية للدولة التي تحكم المسلمين بهذا المصطلح الذي تميز به العلامة الخضر حسين “ضلالة فصل الدين عن السياسة”.
ثانياً: آراء الشيخ محمد الخضر حسين (رحمه الله) في علاقة الدين بالدولة، ومقالته “ضلالة فصل الدين عن السياسة”
يا سيادة الرئيس… اختار العلامة محمد الخضر حسين، بأن يعبر عن فصل الدين عن السياسة الذي دعا إليه أحد الكُتاب بعبارة (ضلالة) وهو تعبير شرعي صحيح، لأنه أمر محدث ومبتدع في الأمة، وكل بدعة ضلالة، كما في الحديث الصحيح([1]).
وممّا قاله العلامة محمد الخضر في هذه المقالة العلمية الرصينة: نعرف أن الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة فريقان:
فريق أول، اعترف بأن للدين أحكاماً وأصولاً تتصل بالقضاء والسياسة ولكنهم ينكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة للمصالح آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب، ولم يُبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة، لأنهم مقرون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن.
ب. فريق ثانٍ رأى بأن الاعتراف بأن في الدين أصولاً لا قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذان بالانفصال عن الدين، وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن السياسة، كان قصده مفضوحاً، وسعيه خائباً فاخترع هؤلاء طريقاً حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يدَّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه، لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة، فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة، أو كلاهما يبغي من أصحاب السلطان: أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها، وكِلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات وقصور النظر لشريعة الإسلام من حِكم بالغات.
يا سيادة الرئيس… كان حديثك عن مفهوم الدولة والحرية على ضوء محاضرة الشيخ الخضر يجعلنا نبين مكانة الحرية في الدين الإسلامي، وبأنه كانت من مقاصد دعوات الأنبياء والمرسلين الحرية في اختيار العقائد والأحكام والتصورات كما قال نوح لقومه، وجاء ذلك في قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ (هود: 28).
تعد كلمة ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ من أطول الكلمات في القرآن الكريم، وهي تتكون من استفهام وفعل وفاعل ومفعول به، بل مفعولين، فكأنه خمس في واحد فتأمل هذه اللغة، وتأمل القرآن الذي هو تاج اللغة، وفيه أشرقت شمس البلاغة، وفي “وأنتم لها كارهون”: الواو حالية على الأرجح، والجملة تتكون من مبتدأ وخبر، أي وأنتم لهذه الحجة والبينة كارهون مفارقون، فكيف يكون هذا والدين اختيار وليس إجباراً [2]. فدل هذا البيان على أن قاعدة (لا إكراه في الدين)، قاعدة ثابتة في الرسالات الربانية كلها[3].
﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ أيّ أنفرضها عليكم بالقهر وأنتم لا تريدونها وتكرهونها؟ طبعاً لا؛ لأن الإيمان بالنسبة للإنسان لا بد أن يكون طواعية وعن اختيار، ولو أن الله سبحانه أراد كل خلقه مكرهين لكانوا كذلك، ولكن الله تعالى يريد أن يأتيه الإنسان عن حب واختيار وليس عن قهر، لأن الإكراه هو إخضاع القوالب، والله يريد قلوباً تخشع وليس قوالباً تخضع، ولو أن الحق يريد الإخضاع بالإكراه لأخضعنا كما أخضع كل الكون وجعلهم مقهورين لأمره[4].
إذن، فالدين لم يأت للإكراه ولكنه جاء لنؤمن به طواعية واختياراً، والله يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: 256)، وهذا مبدأ عظيم وقويم، مبدأ الاختيار في العقيدة والاقتناع بالنظر والتَّدبُّر، لا بالقهر والسلطان والاستعلاء، ومن هذا يتبين أن:
الدين إقناع وليس بالإخضاع.
الأنبياء يستخدمون الحجة لإلزام الناس المحجة وليس الإكراه.
الحجاج فن يحتاج إلى ملكة وتدريب، والأنبياء هم أساتذة هذا الفن.
البينة حجة عقلية وبرهان قد تخفى على المادي في تفكيره، والمحبوس في قوقعة مألوفاته.
يا سيادة الرئيس… يضيف الشيخ الخضر: هذا البيان القرآني في الدعوة الربانية، وأنت الذي استوعبت اللغة العربية وتتفنن بالحديث بها، فيجب أن تكون من أكثر الناس فهماً لهذه الآية، فالحرية مقصد قديم وراسخ من مبادئ الإسلام العظيم، وفي القرآن الكريم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ويزيد الشيخ الخضر: أما أن الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين إذ كانوا يزِنون الحوادث بقسطاس الشريعة ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله.
ويا سيادة الرئيس… قد بيّن الشيخ بأنّ: في القرآن الكريم شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
وكل حكم يخالف شرع الله فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى: ﴿لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ إيماء بأن غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام رب البرية، وتهوى أنفسهم تبدلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]، ففرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبَّه على أن من لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أثر الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له من أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكماً يلائم بغيتهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]،
وفي آية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47].
وفي آية ثالثة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44].
وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد وأحكام للنكاح والطلاق واللعان، والولاء والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فساداً، وذكر الشيخ آيات تتعلق بالسلم والحرب والمعاهدات والعلاقات الدولية، ثم قال: وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا، ممّا يدل على أن مَن يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصوّر ديناً آخراً غير الإسلام.
يا سيادة الرئيس… كما يستشهد الشيخ الخضر في سيرة أصحاب رسول الله (ﷺ) ـ وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة ـ ويدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطاناً في السياسة، فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته على شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله (ﷺ).
ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة.
وفي صحيح البخاري: كانت الأئمة بعد النبي (ﷺ) يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبي (ﷺ) ([5])، ومن شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على التفقه في حديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله»([6]).
ويستدل عمر بن الخطاب على عدم قتالهم بالحديث، وأبو بكر يُبيّن له الدليل، ووجه الشاهد بقوله في الحديث: إلا بحقها، ويقول: الزكاة من حق الأموال، ولو لم يكونوا على يقين أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدين بأن تخطوها، ما أورد عمر بن الخطاب هذا الحديث عن رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة.
ومن شواهد أن ربط السياسة بالدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حداً، فتلت عليه امرأة قوله تعالى: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ (النساء: 20). فما زاد على أن قال: رجل أخطأ وامرأة أصابت([7]). ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين وهذه سياسة، وكتب السنة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد ـ حتى في الأمراء المعروفين بالفجور ـ من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدين من الوجهة العملية وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما أذن الله به، جهالة منهم أو طغياناً.
أراد الحجاج أن يأخذ رجلاً بجريمة بعض أقاربه فذكره الرجل بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ (الأنعام: 164) فتركه([8])، ولم يخطر على باله، وهو ذلك الطاغية، بأن يقول له ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة([9]). ثم قال: فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يُقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل ما يعتدي به الأجنبي على الدين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فَصَلوا الدين عن السياسة علناً كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثال مقال الكاتب لو ملكت قوةً، لألغت محاكم يقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرف من لا يرجون لله وقاراً([10]).
يا سيادة الرئيس… هذا ما قاله العالم التونسي الجليل، وأنت استحضرت قوله في خطابك، وأما الخطاب القرآني فقد أتى بسنن الأولين والأنبياء الملوك وأولي العزم من رسله ليبين مكانة الدين الإسلامي في إدارة شؤون البشر.
ثالثاً: مرجعيات الأنبياء ومناهجهم في الحياة وإدارة الدول
يا سيادة الرئيس، ذكر الله سبحانه وتعالى لنا دولة داود (عليه السلام)، وأشار فيها إلى النبي الملك الذي آتاه الله الملك والحكمة.
في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (البقرة: 251)
وقوله تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص: 20)
وقال سبحانه: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص: 26)
إن دولة داود (عليه السلام) التي حكمت في الأرض، وقادت المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية كانت مرجعيتها شريعة الله الربانية.
وأما دولة سليمان (عليه السلام)، قال فيها سبحانه: ﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (سورة آل عمران: 8).
وعندما كان في مقام المتابعة والمراقبة لجنوده وموظفي الدولة، وتفقد الطير، فقال: ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ (النمل: 20 -21)
كانت دولة سليمان قائمة على العدل ودفع الظلم ومناصرة المستضعفين ومرجعيتها شريعة الله الربانية المستمدة من هدايات السماء.
فالأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) قد جمعوا بين النبوة وبين الحكم، فهؤلاء الأنبياء الملوك أقاموا شرع الله في دولهم.
وأما دولة ذي القرنين، فهي واضحة المعالم في ارتباطها بالمرجعية الربانية والقيم والمبادئ الروحية السامية، قال تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ (الكهف: 84).
وقد سار ذو القرنين على النهج الذي يُرضي الله عز وجل، قال تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا* وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ (الكهف: 87).
وساعدت دولة ذي القرنين المستضعفين، وشيدت لهم السدود لتحميهم، وفَجَّرت طاقات أولئك المستضعفين، وأكسبتهم وسائل الدفاع عن أنفسهم، ولم تستغلهم، فكان نموذجاً للحاكم الصالح، والذي يُريد أن يسير وفق منهج الله في الأرض، فعندما عرضوا عليه الأموال قال: ﴿قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا* فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ (الكهف: 95 – 97).
فكان بناء ذي القرنين، بناءً حضارياً عظيماً أقامه لحماية المستضعفين من بطش الظالمين، وسخَّر لذلك الجيوش وإمكانات الدولة بغية مناصرة المستضعفين، ووفق مراد الله سبحانه وتعالى.
هذه ثلاثة نماذج ذُكرت في القرآن الكريم في الحكم الرشيد والبناء الإيماني المؤسس على دفع المفاسد وجلب المصالح، وإعلاء كلمة الحق، والاستنارة بالهدي الرباني، ولكن مقابل هؤلاء، كانت هناك دولة الاستبداد والطغيان والجبروت، فدولة الفراعنة التي قال زعيمها فرعون لكليم الله موسى (عليه السلام): ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر: 26).
وكما قال فرعون، وجاء ذلك في القرآن الكريم: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 29). ولما قامت عليه الحجة من سيدنا موسى (عليه السلام)، قال لموسى: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (الشعراء: 29).
هذه إشارات سريعة لمرجعيات الأنبياء ومناهجهم في الحياة وإدارة الدول، وكيف قادوا الشعوب والأمم، مقابل، ما كانت عليه نظم الاستبداد والطغيان والدكتاتورية من عناد وكِبر وإقصاء وتنكيل وقمع للحريات لكل من يدعوهم إلى الحق وصراط مستقيم.
رابعاً: دستور المدينة المنورة وقِيمه الإسلامية الإنسانية والحضارية
يا سيادة الرئيس… لا شك بأنك تعتز بدستور المدينة المنورة، والذي كتبه سيدنا وقائدنا محمد رسول الله ﷺ في عهده، وكانت تلك الصحيفة الرائعة التي كتبت في وسط الجزيرة العربية في زمان الجاهلية العمياء، وكانت الإنسانية تعيش في تيه وضياع بين إمبراطورتين متصارعتين قائمتين على الطغيان والإفساد، وسلب حريات الشعوب وكرامتها، وهما: “الإمبراطورية الرومانية” و”الإمبراطورية الفارسية”.
ومن باب الإحاطة والتذكير، احتوت صحيفة المدينة المنورة على قيم حضارية ومبادئ دستورية عامة، درجت عليها دساتير دول حديثة في مجال الحريات والعدالة وحقوق الإنسان واحترام العقائد والعبادات والأفكار.
الإسلام مرجعية عليا في دستور الدولة الجديدة “الرجوع إلى الله ورسوله”
جعلت الصَّحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله، ورسوله ﷺ، فقد نصَّت على مرجع فضِّ الخلاف في الفقرة (23)، وقد جاء فيها: «وإنَّه مهما اختلفتم فيه من شيءٍ، فإنَّ مردَّه إلى الله، وإلى محمَّد ﷺ»، والمغزى من ذلك واضحٌ، وهو تأكيدُ سلطةٍ عليا دينيَّةٍ، تُهيمن على المدينة، وتفصل في الخلافات؛ منعاً لقيام اضطراباتٍ في الدَّاخل من جرَّاء تعدُّد السُّلطات، وفي الوقت نفسه تأكيدٌ ضمنيٌّ برئاسة الرَّسول ﷺ على الدَّولة([11])، فقد حدَّدت الصَّحيفة مصدر السُّلطات الثلاثة: التَّشريعية، والقضائية، والتَّنفيذية، فكان رسول الله ﷺ، حريصاً على تنفيذ أوامر الله، من خلال دولته الجديدة؛ لأنَّ تحقيق الحاكمية لله على الأمَّة هو محض العبوديَّة لله تعالى؛ لأنَّه بذلك يتحقَّق التَّوحيد، ويقوم الدِّين.
قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40]؛ يعني: «ما الحكم الحـقُّ في الرُّبوبيـة، والعقائـد، والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده، يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لا يمكن لبشرٍ أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولا بعقله واستدلاله، ولا باجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله، لا تختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة» ([12]).
نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبوديَّة، والحاكميَّة لله تعالى، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: 2 – 3].
وقـال تعالـى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105] فكما أنَّ تحقيق العبودية غايةٌ من إنزال الكتاب؛ فكذلك تطبيق الحاكميَّة غايةٌ من إنزاله، وكما أنَّ العبادة لا تكون إلا عن وحي مُنَزَّل؛ فكذلك لا ينبغي أن يُحكم إلا بشرع منزَّلٍ، أو بما له أصلٌ في شرعٍ مُنزَّلٍ ([13]).
إنَّ تحقيق الحاكميَّة تمكينٌ للعبوديَّة، وقيامٌ بالغاية الَّتي من أجلها خُلق الإنسان، والجان، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
المواطنة في دستور المدينة “اليهود مواطنون في الدولة الجديدة”
اعترف اليهود في صَّحيفة المدينة، بوجود سلطة قضائيَّة عليا، يرجع إليها سكَّان المدينة – بما فيهم اليهود – بموجب بند رقم (43)، لكنَّ اليهود لم يُلزَموا بالرُّجوع إلى القضاء الإسلاميِّ دائماً؛ بل فقط عندما يكون الحدث، أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أمَّا في قضاياهم الخاصَّة، وأحوالهم الشَّخصيَّة، فهم يحتكمون إلى التَّوراة، ويقضي بينهم أحبارها، ولكن إذا شاؤوا يمكنهم الاحتكام إلى النَّبيِّ ﷺ، وقد خيَّر القرآن الكريم النَّبيَّ ﷺ بين قبول الحكم فيهم، أو ردِّهم إلى أحبارهم، قال تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42].
واعتبرت الصَّحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدَّولة الإسلاميَّة، وعنصراً من عناصرها؛ ولذلك قيل في الصَّحيفة: «وإنَّه من تبعنا من يهود، فإنَّ له النَّصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصرٌ عليهم» (الفقرة 16)، ثمَّ زاد هذا الحكم إيضاحاً، في الفقرة (25) وما يليها؛ حيث نصَّ فيها صراحةً بقوله: «وإنَّ يهود بني عوف أمَّةٌ مع المؤمنين…».
وبهذا ترى: أنَّ الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب؛ الَّذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنَّهم أمَّةٌ مع المؤمنين، ما داموا قائمين بالواجبات المترتِّبة عليهم؛ فاختلاف الدِّين ليس – بمقتضى أحكام الصَّحيفة – سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة ([14]).
وهكذا، كانت وثيقة المدينة المنورة “دستور الدولة الجديدة”، قد اشتملت على أتمِّ ما قد تحتاجه الدَّولة، من مقوِّماتها الدُّستوريَّة، والإداريَّة، وعلاقة الأفراد بالدَّولة، وظَلَّ القرآن يتنزَّل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السِّياسة، وشؤون المجتمع، وأحكام الحرام والحلال، وأسس التَّقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدَّولة المسلمة في الدَّاخل، والخارج، والسُّنَّة الشريفة تدعم هذا، وتشيده، وتفصِّلـه في تنوير وتبصرةٍ، فالوثيقة خطَّت خطوطاً عريضة في التَّرتيبات الدُّستورية، وتُعَدُّ في قمَّة المعاهدات الَّتي تحدِّد صلة المسلمين بالأجانب الكفَّار المقيمين معهم، في شيءٍ كثيرٍ من التَّسامح، والعدل، والمساواة، وعلى التَّخصيص إذا لُوحِظَ أنَّها أوَّل وثيقةٍ إسلاميَّة، تُسَجَّل، وتنفَّذ في أقوامٍ كانوا – منذ قريب – وقبل الإسلام – أسرى العصبية القَبَلِيَّة، ولا يشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلُّط، وبالتَّخوض في حقوق الآخرين، وأشيائهم ([15]).
فكانت هذه الوثيقة، فيها من المعاني الحضاريَّة الشيء الكثير، وما توافق النَّاس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وأنَّه لا بدَّ على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها ([16]).
ومجمل القول: إن القرآن والسنة النبوية هما مرجعية عليا لدستور المدينة، والتأسيس الحضاري لدولة المسلمين في العهد النبوي.
خامساً: دولة أبي بكر الصديق دولة مدنية شُورية ودينها الإسلام
يا سيادة الرئيس… لقد ألقى خطبته الشهيرة بعد توليه قيادة الدولة الإسلامية، وكانت خطبته بالمفهوم الحديث بمثابة البيان الوزاري للسلطة التنفيذية؛ والتي تمت على البيعة العامة، وإعطاء الثقة في المسجد بعد البيعة الخاصة في السقيفة في ضوئه.
إن من الواجب الإشارة، بأن الإجماع على بيعة أبي بكر انتصاراً لمبدأ الشورى على العصبيات الوراثية التي كانت تسود في الجاهلية، وبهذا القرار الإجماعي دخل الإسلام مرحلة جديدة؛ إذ أنشأ الصحابة دولة مدنية لا يرأسها نبي يتلقى الوحي، كما كان الأمر في حياة الرسول، بل يتولاها رجل اختاروه بالإجماع بعد تشاور وتنافس وخلاف، فأصبحت الخلافة بذلك حكومة مدنية بخلاف حكومة الرسول ﷺ ذات الطابع الديني الموجه الإلهي، ولكن أبا بكر اختار أن يسمى خليفة الرسول ليؤكد عزمه على السير على المنهج الذي وضعه النبي قبل وفاته في الشؤون الدينية والدنيوية، وبعده جاء عمر، واتخذ لقب أمير المؤمنين، لتأكيد صفته كممثل للأمة وجماعة المسلمين([17]).
وعلى فكرة يا سيادة الرئيس، كانت دولة الصديق مدنية شورية ؛ لأن من يترأس الدولة لم تكن سلطته مطلقة، ويكفي ذلك أن ترجع إلى خطبة أبي بكر، بعد تولي الخلافة حيث قال: إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، ثم أضاف: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم”. ومعنى ذلك أنه أعطى للأمة حق الرقابة على عمله ومحاسبته، فضلاً عن أنها هي التي اختارته بواسطة من يمثلونها، وهذان المبدآن هما أساس النظام الديمقراطي في العصر الحديث… إن حكومة الصديق قامت على الأصول الشورية الثابتة وروحها، والقابلة للتطور، ومن هذه الأصول العامة الثابتة ما يلي:
أنه كان يرى أنه مسؤول عن المال العام.
ومسؤول عن أي خطأ أو انحراف عن العدل.
وكان يتشاور مع الناس ويخضع لرقابتهم.
وكان يلتزم بأحكام الشريعة والعدالة.
وكان يتولى القضاء بنفسه، أو يعين قضاة يتولون هذه المهمة، وسار الخلفاء بعد ذلك على النهج نفسه([18]).
كانت دولة الصديق قائمة على الشورى والمواطنة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وحقوق المرأة…إلخ المستمدة من مقاصد القرآن الكريم، والتوجيهات النبوية الرشيدة.
إن دولة الإسلام في عهد أبي بكر الصديق والخلفاء الراشدين كانت مدنية بامتياز، وليست دولة دينية، فهناك فرق كبير بين الدولة الإسلامية، أي: الدولة التي تقوم على أساس الإسلام والدولة الدينية التي عرفها الغرب النصراني في العصور الوسطى، وعلى ذلك فإن هناك خلطاً كبيراً بين ما هو إسلامي وما هو ديني، فكثيرون يحسبون أن كل ما هو إسلامي يكون دينياً، والواقع أن الإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين، حتى إن علماء الأصول المسلمين جعلوا «الدين» إحدى الضرورات الخمس، أو الست التي جاءت الشريعة لحفظها، وهي:
الدين
والنفس
والعقل
والنسل
والمال.
وأضاف بعضهم: العِرض، وسأضرب مثالاً موضحاً: نحن ندعو إلى تربية إسلامية متكاملة، وهذه التربية تشمل أنواعاً من التربية تبلغ بضعة عشر نوعاً، إحداها التربية البدنية، إلى جوار التربية العقلية والجسمية والخلقية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية والأدبية والمهنية والفنية والجنسية… إلخ.
فالتربية الدينية شعبة واحدة من شعب التربية الإسلامية الكثيرة، فالخطأ كل الخطأ الظن بأن الدولة الإسلامية التي قادها الصديق دولة دينية، إنما الدولة الإسلامية «دولة مدنية» تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى، ومسؤولية الحاكم أمام الأمة، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح لهذا الحاكم، ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، بل يعتبر الإسلام هذا واجباً كفائياً على المسلمين، ويصبح فرض عين إذا قدر عليه وعجز غيره عنه، أو جبن عن أدائه.
إن الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، فهناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره {ربّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ *} لا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام أو يجمدوها، فلا ملك، ولا رئيس، ولا برلمان، ولا حكومة، ولا مجلس شورى، ولا لجنة مركزية، ولا مؤتمر للشعب، ولا أي قوة في الأرض تملك أن تغير من أحكام الله الثابتة([19]).
استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق رضي الله عنه، وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرِّره.
في المجتمع الإسلامي ودولته “الإسلام مرجعية الجميع”، ويخضع لذلك الحاكم والمحكوم، ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله؛ لأن رسول الله ﷺ قال: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف»، ولكن في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عصى الله ورسوله ـ بتعطيل شيء من شرع الله ـ فلا طاعة له على الناس.
وفي نهاية المطاف، يمكن أن نلخص لكم ما أردت قوله يا سيادة الرئيس بــ:
إن تجارب الأنبياء والمرسلين تعتبر نبراساً، وأسوة حسنة يُقتدى بها، ومنارات للحق في الإدارة والحكم والمعاملات وبناء المجتمعات، والمحافظة على القيم والأخلاق الرفيعة.
إن دستور المدينة المنورة هو دستور أُسس على العدل والتسامح والمواطنة والحريات في إطار الفقه النبوي وأحكام الدين الإسلامي.
يعتبر عهد الخلافة الراشدة مرجعية كبرى في الفقه السياسي، وبناء الدول، وازدهار الحضارات؛ لذلك يجب دراسته بكل دقة؛ لأنه يقدم لنا السوابق التاريخية التي تعتبر حجة في فقه «الرئاسة» المنضبطة بمقاصد القرآن الكريم والسنة النبوية، والإسلام هو المرجعية في حياة المسلمين كأفراد ودول وحُكام وأمة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)
لولا الإطالة لحدثتك عن مرجعية الإسلام في دولة الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز ومحمد الفاتح ويوسف بن تاشفين ونور الدين زنكي (رضي الله عنهم ورحمهم جميعاً). وإن موضوع أن الإسلام هو دين الدولة لم يكن يوماً من الأيام محل خلاف في تاريخ الأمة وحضارتها قديماً وحديثاً إلا بعد الغزو الاستعماري الغربي ودخول الأفكار الطارئة على بلاد المسلمين، ومحاولة السيطرة بأفكارهم وقوانينهم وحضارتهم على شعوبنا وأمتنا التي ناضلت وتناضل لأجل القيم الإنسانية الرفيعة كالحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية ودولة القانون والقضاء المستقل، مستمدّين ذلك من عقيدتنا وتاريخنا وحضارتنا وإسلامنا الذي جعله الله هداية للناس أجمعين.
عندما تكون المرجعية الإسلامية للأفراد والأسر والحكام والدول والأمم، يتحقق الأمن والاستقرار والطمأنينة ورغد العيش وسعادة النفوس والمرور بسلام من الدنيا إلى الآخرة.
إن الأمة الإسلامية طوال تاريخها أفراداً وشعوباً كانت السيادة في دساتيرها ومرجعياتها وهويتها وتاريخها وحضارتها وثقافتها لــ “الإسلام”.
إن الإسلام لم يحدد لأتباعه نظاماً سياسياً محدداً؛ لأن منطق صلاحيته لكل زمان ومكان يقتضي ترك النظم المتجددة بحكم التطور الإنساني الرشيد تحدد طبيعتها وفق مصلحة المجموع، ويفتح باب الاجتهاد الإنساني في دفع المفاسد وجلب المصالح في كافة شؤون الحياة.
إن النص على “دين الدولة الإسلام” هو نص دستوري يعبر عن هوية الشعب التونسي وتاريخه وثقافته وحضارته.
وفي ختام هذا الخطاب أُذكّر نفسي وكل القراء بقول الحق سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 281).
([1]) أخرجه مسلم، رقم: 867.
[2] أحمد نوفل، تفسير سورة هود: دراسة تحليلية موضوعية، جمعية المحافظة على القرآن الكريم، ص 119.
[3] عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، نوح عليه السلام وقومه في القرآن المجيد، المرجع السابق، ص 92.
[4] الميداني، المرجع السابق، ص 92.
([5]) من كلام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.
([6]) أخرجه البخاري، رقم 1400.
([7]) سنن البيهقي، 7 / 233.
([8]) البداية والنهاية، ابن كثير، 9 / 124.
([9]) الدولة الحديثة المسلمة، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط3 2014م، ص 13 – 16. منقول بتصرف من: مقالة ضلالة الدين عن السياسة من (رسائل الإصلاح)، ص: 159 ـ 173.
([10]) انظر المقال، المصدر السابق، ص: 159 ـ 173.
([11]) التَّاريخ السِّياسيُّ والحضاريُّ للدولة العربية، السيد عبد العزيز سالم، ص 102.
([12]) انظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، 12/309.
([13])الحكم والتَّحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، (1/433).
([14]) انظر: نظام الحكم ، لظافر القاسمي (1/37).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق