الاثنين، 20 يونيو 2022

الشاعر ومهمته في الحياة


 هكذا تحدث قطب.. عن الشاعر ومهمته في الحياة

 

صافي ناز كاظم
الثلاثـاء 08 ذو القعـدة 1425 هـ 21 ديسمبر 2004

لم يتيسر لي معرفة تراث الشهيد سيد قطب الثقافي والفكري والعلمي، الا بعد استشهاده بسنوات، وكنت قد قرأت كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، الذي أصدره عام 1947 في العهد الملكي، مترجما إلى اللغة الانجليزية حين وجدته، قدرا، في مكتبة نيويورك، وأنا أبحث عن مراجع لبعض مواد دراستي في المسرح. 

وكان ذلك عام 1965، وكان اسم سيد قطب كفيلا بإلقاء الرهبة في القلب والاحساس بالخطورة، ذلك لأنني من الجيل الذي ومنذ وعي، لا يعرف اسم سيد قطب الا متهما ومدانا وراء القضبان. 

أمسكت بالكتاب اقرؤه لأعرف أبواب الخلل في فكر هذا المتهم بالتخريب والارهاب والتآمر على أهداف «ثورة يوليو 1952»، والتي كما كانوا يقولون، تسعى لتحقيق «الاشتراكية العربية» الرامية الى «العدالة الاجتماعية».

 لم أصدق عيني ودعوة الكتاب منذ 1947 تندد بالظلم الاجتماعي، وتؤكد ضرورة صياغة «اشتراكية» نابعة من العقيدة الاسلامية. 

أدق بيدي على صفحات الكتاب وأقول لأصدقائي: هذا رجل نطق بكلمة العدالة الاجتماعية في العهد الملكي، وقت أن كانت الاشتراكية تعد من مفرادت الكلمات القبيحة! 

لم افهم بتاتا كيف يمكن لمثل هذا الكاتب أن يكون «هو» من أعداء «أهداف» يوليو 1952، وكيف يمكن أن يكون متآمرا على مصالح شعبنا الفقير، بينما كنت أرى أمامي موفدين من قبل نظام الحكم الناصري يبعثرون «العملة الصعبة» في تفاهات وشراء سلع استهلاكية، يعودون بها من «أمريكا» إلى أرض الوطن المزروعة بلافتات الصراخ ضد الامبريالية الأمريكية.

في 7 أغسطس 1966، عدت إلى مصر بعد غيبة ست سنوات متواصلة، قضيتها في الدراسة والعمل بالولايات المتحدة. 

ذهبت أتفقد اصدقائي أسلم عليهم، وكان من بينهم الكاتب أحمد بهجت بمبني الاهرام القديم، بشارع مظلوم بباب اللوق، وجدته واجما يهمس: «اليوم تم تنفيذ حكم الاعدام في سيد قطب»، لعله كان يوم 20 أغسطس 1966، بلعت غصتي، وتذكرت مآسي ومحن السابقين من الكتاب والمفكرين والمجتهدين، الذين نكل بهم الطغاة الأغبياء الجهلة: تذكرت ابن حنبل، وابن المقفع، وتاج الدين السبكي والكثير غيرهم من المعروفين أو المجهولين، في قوائم وسجلات أمة الإسلام المليئة بوجع القلب.

ظلت كتابات سيد قطب ممنوعة ومحظورة طوال المرحلة الناصرية من 1954 حتى 1970، لا تتوفر قراءتها لجيلي ـ من مواليد الثلاثينيات ـ حتى جاءت مرحلة حكم أنور السادات، حين بدأت ـ تدريجيا ـ السماح لدور النشر بالإفراج عن عمله الموسوعي الجليل في تفسير القرآن الكريم «في ظلال القرآن»، الذي مكنه الله سبحانه وتعالي بما يشبه المعجزة، من تنقيحه ومراجعته وزيادته، قبل استشهاده في ظروف المرض والتعذيب والآلام المبرحة في سجنه الطويل، حتى بلغ اكتماله الحالي ليصل الي ستة مجلدات بلغ مجموع صفحاتها 4012 صفحة، ثم اتسعت الانفراجة وتدفقت مؤلفات سيد قطب.

رغم أن مرحلة حكم السادات كانت بالنسبة لي شخصيا، سنوات قحط وظلم وعسف، ذقت فيها الحرمان من النشر، الذي استمر 12 سنة كاملة، مع الاعتقال وتلفيق القضايا الوهمية والاتهامات الجائرة من أغسطس 1971 حتى 25 مارس، إلا أنني اشكر لتلك الحقبة الساداتية أنها مكنتني من قراءة مكتبة سيد قطب كاملة والحمد لله، وأذكر حينما انتهيت من إتمام قراءة «في ظلال القرآن»، الذي أعود إليه كثيرا، أنني كنت متعجبة من البشاشة والهدوء وأجواء السلام، التي تنبعث من سطور تلك المجلدات، كأنها لم تكن مكتوبة من وراء قضبان، ولا في وقفات الاستراحة الخاطفة بين وجبات التعذيب، ودورات التحقيق وظلمات الظلم.

وكان ما استلفت اهتمامي كتيبه الجميل تحت عنوان: «مهمة الشاعر في الحياة»، الذي صدر في الطبعة الأولى عام 1932، واقتنيته في مايو 1975، ويقع في 98 صفحة، في طبعة دار الشروق، وقدم له الدكتور محمد مهدي علام أستاذ التربية بدار العلوم بكلمة مؤرخة 28 فبراير 1932، وهذا يعني أن سيد قطب نشر هذا الكتيب، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.

يبدو كتيب «مهمة الشاعر في الحياة»، كأنه عريضة دفاع عن الشعراء الجدد عام 1932، وتبشير بنهضة جيل من الشباب، يحرث أرض الشعر ويسقيها الحيوية والعافية، ولكنني بعد كل هذه السنوات، وعلى ضوء كل كتابات سيد قطب وملحمة حياته وقلمه حتى استشهاده، أجده الخريطة الكاشفة لمهمة سيد قطب في الحياة، والتي حددها لنفسه منذ البداية واستقام عليها، نافية ما ظنه البعض من تحولات وتغيرات وانتقال. يقول سيد قطب في تقديمه للكتيب: «هذا مجهود ضئيل صغير الحجم، أعد ليكون محاضرة فحسب.. والذي أريد أن أقوله في مقدمة هذا المجهود الضئيل الصغير الحجم: أن أهم ما فيه اقتناعي بما فيه، اقتناعا كاملا متغلغلا في نفسي، حتى لهو جزء من عقيدتي، أدافع عنه كما يدافع كل مؤمن عن عقيدته.. »

وبعد ان يتكلم عن: من هو الشاعر، الخيال في الشعر، ذوق الشاعر، التعبيرات الشعرية، شخصية الشاعر، ينهي كتيبه بكلمات غاضبة لاسعة تقول:«.. لاحظتم في كل النماذج التي أخذناها لشعرائنا الناشئين لمحة من البؤس الصامت أو الصارخ، وبعضكم يعجب بهذه الظاهرة المتشائمة الشاكية.. ولكن ذلك في نظرنا دليل صدق هؤلاء الشعراء وسلامة فطرتهم، فهم صورة من النفسية المصرية العامة في هذه الفترة.. مدوا أبصاركم في كل نواحي الحياة المصرية ألا ترون التصادم بين القوى الناشئة والظروف المحيطة التي تناوئها مناوأة قاسية؟ ألا تسمعون الصيحات داوية بالألم والاستنكار من كل جانب؟ فعلام اذن لا يكون كذلك الشعر؟.. علام يغرد الشعراء بأناشيد الفرح والمراح، وكيف تدب روح النشاط الطروب في الفنون؟ انتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء؟ افتحنا في العالم فتحا جديدا؟ لا.. أحصلنا على استقلالنا المغصوب؟ أنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟.. كل ما في البلد جدير بالشكوى وكل ما فيها يلذع بالألم.. وإن التألم والشكاة لدليل عدم الرضاء، ودليل السعي لتغيير هذه الحال.. ولو إن هذه الشكوى الدائبة صمتت اليوم أو انقلبت الى لهو ومراح، لكان ذلك دليلا على الموت والاضمحلال.. إن الذين يهزلون اليوم أو يغنون ويمرحون هم أحد فريقين: فريق أناني مجرم لا يعنى بهذه الأمة، ولا يحفل بآلامها لأنه في ظل نعمة.. وفريق ميت الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به حياة إلا كالدواب والجراثيم...».

كتب سيد قطب هذه الكلمات ونشرها في ظل حكم الملك فؤاد الأول، وتحت وطأة الاحتلال الانجليزي في العام الذي توفي فيه الشاعران حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، واستغرق مشواره في الحياة 60 عاما، الا 51 يوما ما بين يوم مولده في 9 أكتوبر 1906 في قرية صغيرة من قرى صعيد مصر اسمها «موشا»، تقع في زمام محافظة أسيوط، حتى يوم 20 أغسطس 1966 حين قدم عنقه ليلتف عليه حبل المشنقة، من «دون تلعثم أو تحرج» على حد تعبير له، كتبه في واحد من مقالاته التي نشرها في 2 أغسطس 1951 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق