30 يونيو: قبل أن تحترق الذاكرة
وائل قنديل
29 يونيو 2022
قبل أسابيع، قال عبدالفتاح السيسي لمجموعة من الصحافيين والإعلاميين في افتتاح مشروعات إنتاج حيواني، إن ما يسمّيها ثورة 30 يونيو لم تحدُث في التاريخ، تحرك شعب في العالم كله بهذه الأحجام لتغيير واقع في مصر أو المنطقة أو العالم.
لم يكذب السيسي في القول إن المقصود كان تغيير الواقع في مصر والمنطقة. .. أما في مصر فالحال لا يخفى على أحد، وأما على مستوى المنطقة فها هي الدول العربية، في معظمها، منضوية تحت الراية الإسرائيلية، ناتو عربي إسرائيلي، وشراكة في سرقة غاز فلسطين، ومرحلة من العناق السياسي الكامل تجعل مفردة "التطبيع" قد عفا عليها الزمن.
حارب العرب مجتمعين في العام 1973، فعبروا إلا قليلاً وانتصروا إلا قليلاً، وثار العرب في 2011 فغيّروا إلا قليلاً وتحرّروا إلا قليلاً. في العام 1973 كانت الثغرة التي صنعتها القيادات، بتراخ أو بتواطؤ فتبدّد الانتصار. في العام 2011 كانت ثغرة أكبر فكان الانكسار .. أو الانتحار.
أما الآن، فالعرب يحتشدون مجتمعين، إلا قليلًا مع الكيان الصهيوني، في إعلان صارخ على أن الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 لم تكن مشروعًا مصريًا محليًا، بل كانت مشروعًا شرق أوسطيًا كاملًا، نجح فيما أخفقت فيه كامب ديفيد وأوسلو.
لم تكن إسرائيل غائبةً في مسار الغضب الشعبي 2011 ولم تكن غائبة في الانقلاب على الثورة، في 30 يونيو 2013 بل كانت صاحبة الحضور الأكبر والأبرز.
كانت أعلام فلسطين، في العام 2011، حاضرةً في كل ميادين الثورات، من تونس الخضراء إلى القاهرة التي تحاول استعادة خضرتها، مروراً بصنعاء ودمشق، في كرنفال تحرير مفتوح وممتدّ بطول خارطة الأحلام العربية وعرضها.
في تلك الأثناء، عادت القضية الأم تتبوأ مكانها ومكانتها، في قائمة اهتمامات الجيل الجديد، واستعاد صنّاع الربيع قصة الأرض، وأدركوا بالفطرة البسيطة أين يقف العدو الأصلي بعد التخلّص من وكلائه، وكان هذا بالتحديد الفارق الذي صنعته ثورات الربيع العربي، والثمرة الأولى لمحاولة تحرير المواطن العربي من احتلال دولة الاستبداد والقهر.
وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم سر هذه الهمّة الإسرائيلية في دعم واحتضان كل المشاريع العكسية المضادة للثورات العربية .. إنهم لا يريدون جيلاً يتذكّر أسماء أسلافه الذين ماتوا دفاعاً عن الأرض، أو يحفظ أسماء المدن وتواريخ المجازر والمذابح.
أن الاحتلال الإسرائيلي كان حاضراً بقوة في التجهيز للانقلاب، يقدّم آفي ديختر عضو الكنيست والرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي (الأمن العام) دليلاً إضافياً على الدور الإسرائيلي في تصنيع سلطة عبد الفتاح السيسي، حين يعلن أن إسرائيل أنفقت المليارات لإنهاء حكم الرئيس القادم من جماعة الإخوان المسلمين. المدهش أكثر أن "رئيس الشاباك" ردّد في محاضرة ألقاها ديختر، في المعبد الكبير في تل أبيب احتفالاً بعيد "الحانوكا اليهودي" المقولة نفسها التي بنى عليها انقلاب السيسي خطابه التحريضي لحشد الجماهير ضد الرئيس محمد مرسي، إذ يقول إن جماعة الإخوان المسلمين "استولت على الحكم" و"ركبت ثورة الشبان الليبراليين".
ثمّة ما يشبه الإجماع على أن كارثية لحظة يونيو/ حزيران 2013 أشدّ وأقسى من لحظة يونيو/ حزيران 1967، ذلك أن الثانية، على الرغم من الهزيمة العسكرية المذلّة، لم تقدّم للكيان الصهيوني ربع ما حصلت عليه، بعد نكبة صيف 2013 في مصر، ويكفي أنه، عقب النكسة، قبل نحو نصف قرن، لم تقهر إرادة المصريين والعرب في النهوض واستئناف المقاومة، والتهيؤ للحرب. نكسة 1967 لم تحوّل مصر إلى عالة على المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي، ولم تخرجها من المعادلات الإقليمية والدولية، ولم تقسم المصريين إلى بشر أسوياء ووحوش مسعورة لا تشبع من القبح والرداءة.
عن التنظيم الدولي للثورات المضادة. .. من الأكاذيب المشهرة طوال الوقت أن "30 يونيو" كان انتفاضة قوى مدنية ضد الدولة الدينية، فهل كانت 30 يونيو، تحرّكًا لما تسمى نفسها القوى المدنية فعلاً؟ إن سلمنا بأن المدني هو نقيض الديني، وهذا منتهى التدليس والترويج للعسكرة، بوصفها المدنية، فماذا نقول عن جحافل سلفيي حزب النور وأسراب الصوفيين، الذين حاربوا في صفوف جريمة الانقلاب ببسالة؟ وماذا نقول عن الجنرالات، جيشًا وشرطة، الذين تصدّروا الفوج الأول المقتحم لميدان التحرير، محمولاً على ظهور ما يسمّى الشباب المدني، مطالبًا برأس الرئيس المنتخب؟ وماذا نقول عن اللواء مدير مكتب، عمر سليمان، وهو بين أحضان ما تسمّى القوى المدنية في مركز إعداد القادة، الساعات الأخيرة قبل التحرّك، معلنًا النفير لعزل الرئيس المنتخب؟ وماذا نقول عن حضور ضابط الشرطة اجتماعات الوطنية للتغيير، بيضة ديك ما تسمّى القوى المدنية، تحضيرًا للانقلاب؟
ستّ سنوات مضت تكشف أن ما تصنّف نفسها "قوى مدنية ديمقراطية" لا تزيد عن كونها جزءً من جهاز الخدمة المدنية في القوات المسلحة، أو مجموعة من أفراد الشرطة في زي مدني، بهذا الخطاب الاستئصالي المتطرّف، لفصيل وصل للسلطة عبر الانتخابات الوحيدة السليمة في مصر.
ما يجري الآن على بعد تسع سنوات من الخطيئة الحضارية التي سلمت مصر والمنطقة لإسرائيل أن الجنرال السيسي لا يزال مشغولًا بهاجس انتزاع اعترافات داخلية وخارجية بأنه قائد ثورة، وليس رأس انقلاب إقليمي ..
هذا الإحساس بالخواء يكفي وحده دليلًا على أنها لم تكن ثورة، بل كانت جريمة إقليمية، سفكت دماء كثيرة في مصر والبلاد العربية، لن تمحوها شهادات اعتراف ولا حتى جوائز دولية.
نقولها قبل أن يبدأ موسم إشعال الحرائق في أرشيفات الذاكرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق