الثلاثاء، 28 يونيو 2022

"عبدالرحمن الكواكبي" و حوار حول الثورات العربية والاستبداد

"عبدالرحمن الكواكبي" و حوار حول الثورات العربية والاستبداد

ياسر المطرفى 

12/01/2015 

يُعتبر الكواكبي واحداً من أبرز المفكرين العرب الذين ناقشوا موضوع الاستبداد في كتابه (طبائع الاستبداد)، في هذه الأيام يبدو كتابه هذا مهماً وملهماً في ظل ربيع هذه الثورات الذين يعيشها الوطن العربي.

من المهم أن نُعيد الحوار مع أفكار هذا الكتاب، ونستنطقها من جديد ... ونرى كيف يمكن تفعيلها في تفسير ما يحصل اليوم في الوطن العربي؟

حاولت أن أجري هذا الحوار مع الكواكبي من خلال أفكار كتابه، فتفضلت أفكاره بالموافقة لإجراء هذا الحوار الحصري، الذي أنفرد به بعد سنين من رحيل المؤلف(*).

وهو حوار سريع وبسيط وعفوي ربما أهم أهدافه أنه يبعث القارئ إلى معاودة النظر والتأمل في ما سطره الكواكبي في كتابه بالتفصيل.

بعيداً المقدمات، فالقارئ دونما شك في شوق لهذا الحوار، وماذا سيقول الكواكبي عن هذا الربيع العربي؟ فإلى هذا الحوار :

المحور الأول: حول كتاب طبائع الاستبداد ونظرية الكواكبي:

- قبل أن ندخل في تحليل الواقع الذي يعيشه الوطن العربي نريد أن نعرف على وجه الاختصار أين تكمن المشكلة في العالم العربي؟ وأين يكمن الحل؟ 

"إني قد تمحص عندي أن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية".

- أليس في هذا اختزال لموضوع كبير في سبب واحد؟

"قد استقر فكري على ذلك_كما لكل نبأ مستقر_ بعد بحث ثلاثين عاما ... بحثا أظنه كاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله ولكن لا يلبث أن يكتشف له بعد التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع لأصل، أو نتيجة لا وسيلة".

_ وهل هذا التفكير الطويل هو الذي دفع لإنتاج كتاب (طبائع الاستبداد)؟

"إني إراحة لفكر المطالعين أعددت لهم المباحث التي طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل إن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض ... نشرت ذلك في كتاب سميته (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)".

- لمن توجهت بهذا الكتاب؟

"جعلته هدية مني للناشئة العربية المباركة الأبية المعقودة آمال الأمة بيمن نواصيهم.. ولا غرو فلا شباب إلا الشباب".

- وكيف وجدت إقبال الشباب على الكتاب؟

"وجدت الكتاب قد نفذ في برهة قليلة".

- هذا الواقع الذي جعلك تهاجر من بلدك سوريا إلى مصر ربما يحمل البعض على القول بأن أفكارك التي ضمنتها في كتابك كان المقصود بها واقع بلد معين؟

"لا أقصد في مباحثي ظالما بعينه ولا حكومة أو أمة مخصوصة، وإنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه.

ولي قصد آخر وهو التنبيه لمورد الداء الدفين عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم فلا يعتبون على الأغيار ولا الأقدار. وإنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم التواكل ... وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون قبل الممات".


المحور الثاني: حول الثورات العربية ومفهوم الاستبداد:

- هناك سؤال أولي يدور في أذهان الكثير عند الحديث عن مصر أو تونس أو اليمن أو غيرها من الدول الاستبدادية ... كيف يقال أنها دولة مستبدة ونحن نشاهد فيها انتخابات وبرلمانات ومجالس تشريعية؟

"أشكال الحكومة المستبدة كثيرة ليس هذا البحث محل تفصيلها، ويكفي هنا أن نشير إلى أن صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي يتولى الحكم بالغلبة أو بالوراثة، تشمل كذلك أيضا الحاكم الفرد المقيد المنتخب متى كان غير مسؤول.

وتشمل حكومة الجمع ولو منتخبا لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد، وإنما قد يعدله الاختلاف نوعا ما، وقد يكون عند الاتفاق أضر من استبداد الفرد، ويشمل أيضا الحكومة الدستورية المفرقة فيها بالكلية قوة التشريع عن قوة التنفيذ وعن قوة المراقبة".

- إذا هذا يعني أن الاستبداد مراتب... في نظرك أي مراتب الاستبداد أشد؟   

"أشد مراتب الاستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش".

- تتحدث في كتابك عن داء الاستبداد ... ما هو النظام المستبد في نظرك ؟

"هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ في الحكم".

_ إذا كانت مشكلتنا تكمن في الاستبداد ... فمتى يمكن أن يترفع عن عالمنا العربي؟

"الاستبداد لا يرتفع مالم يكن هناك ارتباط في المسؤولية فيكون المنفذون مسؤولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمة، تلك الأمة التي تعرف صاحبة الشأن كله وتعرف أن تراقب أو تتقاضى الحساب".

_ مبرر السؤال السابق هو أننا نرى أنظمة الاستبداد طال بقاؤها؟

"لا يعهد في تاريخ الحكومات المدنية استمرار حكومة مسؤولة مدة أكثر من نصف قرن إلى غاية قرن ونصف، وما شذ من ذلك سوى الحكومة الحاضرة في إنكلترة، والسبب يقظة الإنكليز الذي لا يسكرهم انتصار ولا يخملهم انكسار، فلا يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم حتى إن الوزارة هي تنتخب للملك خدمة وحشمه فضلا عن الزوجة والصهر، وملوك الانكليز الذي فقدوا منذ قرون كل شيء ما عدا التاج لو تنسى الآن لأحدهم الاستبداد لغنمه حالا ولكن هيهات أن يظفر بغرة من قومه يستلم فيها زمام الجيش.

أما الحكومات البدوية التي تألف رعيتها كلها أو أكثرها من عشائر يقطنون البادية يسهل عليهم الرحيل والتفرق متى مست حكومتهم حريتهم الشخصية وسامتهم ضيما، ولم يقووا على الاستنصاف فهذه الحكومات قلما اندفعت إلى الاستبداد...".

- برأيك ما الأسباب التي تقود الشعوب لهذه الثورات؟ 

" العوام لا يثور غضبهم على المستبد غالباً إلا عقب أحوال مخصوصة مهيجة فورية منها:

عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد على مظلوم...

عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوبا...

عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين...

عقب تضييق شديد عام...

عقب مجاعة أو مصيبة عامة..

عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة والاستنصار.

عقب ظهور موالاة شديدة من المستبد لمن تعتبره الأمة عدوا لشرفها ...".

- وما المسار الذي ينبغي أن تتجه نحوه ثورة هذه الشعوب ... السلمية أم العنف... ؟

"الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصدا، نعم الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارا طبيعيا، فإذا كان في الأمة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعا وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذ يستعملون الحكومة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة...".

- لماذا يصنع المستبد كل هذا الظلم والبغي بالشعب؟

"المستبد يتجاوز الحد مالم ير حاجزا من حديد، فلو رأي الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم، كما يقال: ((الاستعداد للحرب يمنع الحرب))".

- هل يتأسس هذا النوع من الاستبداد على النصوص الشرعية؟ هناك من يقول إن الذي دعى هذه الشعوب إلى الاستبداد هو أن النصوص الشرعية ترسخ الاستبداد؟

"هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيدا للاستبداد السياسي ...

وليس من العذر شيء أن يقولوا : نحن لا ندرك حقائق القرآن نظرا لخفائه علينا في طي بلاغته وراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ القرون إلى الآن من استعانة مستبديهم بالدين".

"لا مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد مع تأسيسها على مئات من أمثال هذه الآيات البينات كقوله (( وشاورهم في الأمر)) ...".

_ لا حظنا ما كان يفعله القذافي مع شعبه والخطابات التي كان يلقيها بكل ثقة، مع أن الواقع من تحته يشهد بأن النهاية ستكون لصالح الثورة التي تتقدم وتنتصر، وهو إلى آخر لحظاته –حتى وهو مشرد- يلقي خطابات وكأنه عقله غائب عن الواقع، ومثله اليوم الحالة السورية، هل المستبد لا يملك عقل يجعله يفكر في أن التغيير قادم لا محالة؟ 

"أكثر ما تختم حياة المستبد بالجنون التام، قلت التام لأن المستبد لا يخلوا من الحمق قط لنفوره من البحث في الحقائق".

- لكننا نشاهد بعض المستبدين موصوف بالدهاء والذكاء؟

"إذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهراً إذا لم يسارعه الجنون أو العته".


- هذا عن المسبتد ... ماذا عن حاشيته؟ ألا يمكن تؤدي حاشية المستبد دور النصيحة الصادقة التي تسد جانب الحمق والغباء الذي تذكره؟

"القول الحق أن الصدق لا يدخل قصور الملوك بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف".


_ تحدثنا عن الشعوب والعلماء... دعنا ننتقل إلى الدوائر المرتبطة بهذه الأنظمة المستبدة هل ترى لها علاقة بالاستبداد؟

"الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا...

وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته".


_ مشهد يتكرر في عامة البلاد التي عمها الربيع العربي وهو ظاهرة تمجيد بعض النخب والمثقفين ورجال الأعمال لخطابات المستبد التي يقدمها للشعوب والتصفيق والتهليل لها ... ما دور هذا الصنف في ترسيخ الاستبداد؟

"المتمجدون أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصد المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكن بواسطتهم من التجبر والعدوان على الجيران فيوهمها أنه يريد نصرة الدين ...

والخلاصة أن المستبد يتخذ المتمجدين سماسرة لتغرير الأمة باسم خدمة الدين أو حب الوطن أو توسيع المملكة أو تحصيل منافع عامة... والحقيقة أن كل هذه الدواعي الفخيمة العنوان في الأسماع ماهي إلا تخييل وإيهام ...".


_ ولذلك لا يتأخر هؤلاء عن خدمة المستبد بأي شيء؟

"هؤلاء هم أشقى خلق الله في الحياة، يرتكبون كل جريمة وفظيعة لحساب المستبد الذي يجعلهم يُمسون ويُصبحون مخبولين مصروعين يجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرح".


_ ومع كل ما تقدمه هذه الحاشية للمستبد نسمع بين حين وآخر خصوصا في وقت الأزمات-كما هو الحال في بعض الثورات العربية- أن بعضهم بدأ يصفي بعض قيادات حاشيته، لماذا يصنع المستبد هذا بحاشيته؟

"إنه يخاف حاشيته لأن أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم".


- من زاوية أخرى وحتى تكتمل الصورة بموضوعية فإننا نشاهد هذه الأنظمة تستعمل بعض الشرفاء؟

"المستبد يجرب أحيانا في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضا اغترارا منه بأنه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشكل الذي يريد، فيكونوا له أعوانا خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو يُنكل بهم، ولهذا لا يستقر عند المستبد إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله". 


- وماذا يصنع المستبد حتى يخرج من ورطة هؤلاء الشرفاء الذين قد لا يأمن نهاية أمرهم ؟

"من هنا نشأ اعتمادهم في التجربة غالبا على العريقين في خدمة الاستبداد الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدين، ومن هنا ابتدأت الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب ... وبيوت الأصالة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: بيوت علم وفضيلة ، وبيوت مال وكرم وبيوت ظلم وإمارة وهذا القسم الأخير ... مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته".

"والمستبد نفسه ... يدر عليهم المال ويعينهم عليها ويعطيهم الألقاب والترب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس ليلتهوا بذلك عن مقاومة الاستبداد، ولأجل أن يألفوها مديدا فتفسد أخلاقهم فينفر منهم الناس ولا يبقى لهم ملجأ غير بابه فيصيرون أعوانا له بعد أن كانوا أضدادا".


- لكن هل يعني هذا أن نتهم جميع من ارتبط بالمستبد ممن له صلة به؟

"هذه حالة الأكثرين من الأصلاء، على أننا لا نبخس حق من نال منهم حظا من العلم وأوتي الحكمة وأراد الله به خيرا فأصابه بنصيب من القهر انخفض به شاموخ أنفه، فإن هؤلاء وقليل ما هم، ينجبون نجابة عظيمة عجيبة، فيصدق عليهم أنهم قد ورثوا قوة القلب يستعملونها في الخير لا في الشر ...".


- وكيف تتعامل هذه الأنظمة المستبدة مع هؤلاء الأصلاء...؟

"يستعمل المستبد مع الأصلاء سياسة الشد والإرخاء، والمنع والإعطاء والالتفات والإغضاء كي لا يبطروا، وسياسية إلقاء الفساد وإثارة الشحناء فيما بينهم كي لا يتفقوا عليه، وتارة يعاقب عقابا شديدا باسم العدالة إرضاء للعوام... والحاصل أن المستبد يذلل الأصلاء بكل وسيلة حتى يجعلهم مترامين دائما بين رجليه كي يتخذهم لجاما لتذليل الرعية".


- وهل يستخدم نفس هذه السياسة مع العلماء ؟

"يستعمل عين هذه السياسة مع العلماء ورؤساء الأديان الذين متى شم من أحدهم رائحة الغرور بعقله أو علمه يُنكل به أو يستبدله بالأحمق الجاهل".


- وما الذي يدفع المستبد للتنكيل بهؤلاء العلماء؟

"المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العالمين الراشدين المرشدين، لا من العلماء المنافقين أو الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبات مقفلة ...".

"العلماء والحكماء الذين ينبتون أحيانا في مضايق صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس ، والغالب أن رجال الاستبداد يطارودن رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وأكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا وماتوا غرباء".


- وماذا عن الصنف الآخر من العلماء؟

"لا يعدم المستبد أن يستخدمهم وسيلة في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد...".


- لكننا نشاهد بعض هؤلاء الوزراء أو العلماء الذين يحيطون بالمستبد يخرجون في القنوات وينكرون بعض الممارسات التي تقوم بها هذه الأنظمة المستبدة...؟

"ربما يغتر المطالع كما اغتر كثير من المؤرخين البسطاء بأن بعض وزراء المستبدين يتأوهون من المستبد ويتشكون من أعماله ويجهرون بملامه، ويظهرون لو أن ساعدهم الإمكان لعملوا وفعلوا وافتدوا الأمة بأموالهم بل وحياتهم، فكيف، والحالة هذه، يكون هؤلاء لؤماء؟ بل كيف ذلك وقد وجد منهم الذين خاطروا بأنفسهم والذين أقدموا فعلا على مقاومة الاستبداد فنالوا المراد أو بعضه أو هلكوا دونه؟

فجواب ذلك أن المستبد لا يخرج قط عن أنه خائن خائف محتاج لعصابة تعينه وتحميه فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان.

فهل يجوز العقل أن ينتخب رفاق من غير أهل الوفاق وهو هو الذي يستوزر إلا بعد تجربة واختبار عمر طويل؟

بناء عليه فالمستبد وهو من لا يجهل أن الناس أعداؤه لظلمه لا يأمن على بابه إلا من يثق به أنه أظلم للناس وأبعد منه عن أعدائه، وأما تلوُّم بعض الوزراء على لوم المستبد فهو إن لم يكن خداعا للأمة فهو حنق على المستبد لأنه بخس ذلك المتلوِّم حقه فقدَّم عليه من هو دونه في خدمته بتضحيته دينه ووجدانه.. والنتيجة أن وزير المستبد هو وزير المستبد لا وزير الأمة ...

وبناء عليه لا يغتر العقلاء بما يتشدق به الوزراء والقواد من الإنكار على الاستبداد والتفلسف بالإصلاح وإن تلهفوا وإن تأففوا، ولا ينخدعون لمظاهر غيرتهم وإن ناحوا وإن بكوا، ولا يثقون بهم وبوجدانهم مهما صلوا وسبحوا، لأن ذلك كله ينافي سيرهم وسيرتهم، ولا دليل على أنهم أصبحوا يخالفون ما شبوا وشابوا عليه؛ هم أقرب أن لا يقصدوا بتلك المظاهر غير إقلاق المستبد وتهديد سلطته ليشاركهم في استدرار دماء الرعية أي أموالها".


- هل يعني هذا عدم  وجود وزراء شرفاء في الأمة في هذه الحكومات المستبدة؟

"لا يجوز اليأس من وجود بعض أفراد من الوزراء والقواد عريقين في الشهامة فيظهر فيهم سر الوراثة ولو بعد بطون أو بعد الأربعين وربما السبعين من أعمارهم ظهورا بينا تلألأ في محيا صاحبه ثريا صدق النجابة، ولا ينبغي لأمة أن تتكل على أن يظهر فيها أمثال هؤلاء؛ لأن وجودهم من نوع الصدف التي لا تبني عليها آمال ولا أحلام".


المحور الثالث: الثورة على الاستبداد ودور الشعوب:

_ من صنع الثورات هم الشعوب، كيف تحولت هذه الشعوب والتي كثيراً ما توصف بالعوام والدهماء من خاضعين للذل إلى ثائرين على الظلم والاستبداد؟

"من هم العوام؟هم أولئك الذي إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا؟".


- هل يعني قولك (إذا جهلوا خافوا...) أن ثمة علاقة بين الاستبداد وجهل الشعوب؟

"ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم...

لا يخفى على المستبد مهما كان غبيا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه وعماء..".


- إلى أي حد يعتمد المستبد على هذا النوع من العوام...؟

"العوام هم قوة المستبد وقوته بهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ...".


- في نظرك ما الذي يقود هؤلاء إلى مثل هذا الصنيع؟

العوام يذبحون أنفسهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة.


- و ما الحل ليتجاوز العوام هذا الحال؟

"إذا ارتفع الجهل وتنور العقل زال الخوف وأصبح الناس لا ينقادون طبعا لغير منافعهم، كما قيل : العاقل لا يخدم نفسه".


- قد يبدو هذا الربط بين الجهل والاستبداد غير متفهم عند البعض، لأننا نرى كثيرا من الدول الاستبدادية تساهم بشكل كبير في تعليم شعوبها؟

"المستبد لا يخشى علوم اللغة ..وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد ..

وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضا لأن أهلها مسالمين صغار النفوس صغار الهمم يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز ...

ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة ... العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ماهي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب وكيف النوال وكيف الحفظ ؟".

"وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأن المستبد امروء عاجز مثلهم زال خوفهم منه وتقاضوا حقوقهم".

"قال المدققون: إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم أن يعرف الناس أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزها والشرف وعظمته والحقوق وكيف تحفظ والظلم وكيف يرفع والإنسانية وماهي وظائفها، والرحمة وما هي لذاتها، أما المستبدون الشرقيون فأفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم، كأن العلم نار وأجسامهم من بارود".

"والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيوم الأسر، وساء مصير المستبدين من رؤساء سياسة أو رؤساء دين".


- هل يعني تجهيل المستبد لشعبه أنه يخاف منه ولذلك لا يريد تعليمه؟

"إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقونه منهم، وخوفهم ناشيء عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط ...

وخوفه على فقد الحياة ، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام،

وخوفه على كل شيء تحت سماء ملكه وخوفهم على حياة تعسية فقط".

- لكن ظاهر الطغيان التي يراه الشعوب من المستبد توهمهم بأنه لا يخافهم؟

"كلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته وحتى من هواجسه وخيالاته".


- وهل يمكن أن يكون هذا الخوف من المستبد هو الذي يجعله يقدم التنازلات -كما نرى في بعض الدول التي عمَّها الربيع العربي-؟ 

"كم أجبرت الأمم بترقيها المستبد اللئيم على الترقي معها والانقلاب رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس عادل يخشى الانتقام، وأب حليم يتلذذ بالتحاب الأمة حياة رخاء ونماء، حياة عزة وسعادة ...

ويكون حظ الرئيس فيها رأس الحظوظ بعد أن كان في دور الاستبداد أشقى العباد...".


- ختاماً  ... كيف ترى المستقبل ؟

"أختم .. هذا بخاتمة بشرى، وذلك أن بواسق العلم وما بلغ إليه، تدل على أن يوم الله قريب.

ذلك اليوم الذي يقل فيه التفاوت في العلم وما يفيده من القوة، وعندئذ تتكافأ القوات البشرية، فتنحل السلة، ويرتفع التغالب، فيسود بين الناس العدل والتوادد، فيعيشون بشرا لا شعوبا، وشركات لا دولاً، وحينئذ يعلمون ما معنى الحياة الطيبة ... ؟".


 مركز نماء للبحوث والدراسات*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق