الإسلام والجاهلية عودة العصبيات من جديد
إن الحديث عن فتنة الردة ليس بالأمر السهل إذا اختلطت فيها المفاهيم، فتلونت العصبية مع ضعف أثر الدين بميل نفوس الأعراب إلى حياة الفوضى والغزو، وحنينهم إلى ماضٍ قريب ألفوه قروناً متطاولة..
عودة العصبيات من جديد
تحدثنا في المقال السابق [موقف الإسلام من العصبية القبلية] عن أثر هذا الدين الحنيف في تذويب العصبيات ورواسبها، وكيف أن أصحاب رسول – صلى الله عليه وسلم – سَمَوا بأنفسهم فوق تقاليد الآباء، وأعراف الأجداد.
إلا أننا نلاحظ عودة العصبية، عندما كان وازع العقيدة ضعيفاً.. وبذور الإيمان لم تزدهر بعد.. والتربية القرآنية لم تلامس بعض القلوب.. وذلك في مظاهر متعددة برزت في:
1- حروب الردة.
2- العصر الأموي.
3- أحقاد الشعوبية.
4- عصبية القومية والوطنية في العصر الحديث.
1- حروب الردة
إن الحديث عن فتنة الردة ليس بالأمر السهل إذا اختلطت فيها المفاهيم، فتلونت العصبية مع ضعف أثر الدين بميل نفوس الأعراب إلى حياة الفوضى والغزو، وحنينهم إلى ماضٍ قريب ألفوه قروناً متطاولة..
لقد كانت النزعات بين المرتدين ليست واحدة، وكانت شعاراتهم متباينة، يجمعها التفاف حول متنبئين كذابين، هم يعلمون كذبهم، إلا أنها عُبيَّةُ 1 الجاهلية، وعصبية القبيلة لأحد أبنائها ونتن الوثنية الذي عاد من بعض الوجوه..
(لما توفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم- عظم الخطب، واشتد الحال، ونجم النفاق في المدينة، وارتد من ارتد من أحياء العرب حول المدينة، وامتنع آخرون عن أداء الزكاة إلى الصديق، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق كما في (صحيح البخاري) عن ابن عباس، وكانت ثقيف بالطائف قد ثبتوا على الإسلام…) .
(وقد روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث القاسم عن …عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت …العرب قاطبة وأشربت النفاق، واللهِ لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كأنهم معزى مطيرة في حُشٍ في ليلة مطيرة بأرض مسبعة … )2.
(وقال محمد بن إسحاق: ارتدت العرب عند وفاة رسول الله، … ماخلا أهل المسجدين مكة والمدينة، وارتدت أسد وغطفان وعليهم طليحة الأسدي، وارتدت كندة ومن يليها وعليهم الأشعث بن قيس الكندي.. وارتدت ربيعة وكانت حنيفة مقيمة على أمرها مع مسيلمة الكذاب … وارتدت سُليم مع الفجأة، … وارتدت بنو تميم مع سجاح الكاهنة…3.
اختلاف الشعارات والنزعات بين المرتدين
(جعلت وفود العرب تقدم المدينة: يقرُّون بالصلاة ويمتنعون عن أداء … الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها للصديق، ومنهم من احتج بقوله تعالى: … [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ] . قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكنٌ لنا4.
لقد غاب عن بال هؤلاء: أن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وعندما عقد الصديق- رضي الله عنه-لواء الجيش لخالد بن الوليد، أوصاه وبيّن له وضع القبائل، إذ يقول له: (سر في أصحابك على تعبية جيدة، فإذا لقيت أسداً وغطفان …فبعضهم لك وبعضهم عليك، وبعضهم لا لك ولا عليك، متربص دائرة السوء، ينظر لمن تكون الدّبرة) (أى: النصرة والغلبة) فيميل مع من تكون له … الغلبة، ولكن الخوف عندي من أهل اليمامة، فاستعن بالله على قتالهم، فإنه بلغني أنهم رجعوا بأسرهم5.
وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة، ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم.. ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه.. وقد روى الجماعة سوى ابن ماجه عن أبي هريرة: (أن عمر بن الخطاب- …رضي الله عنه- قال لأبي بكر: علام تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله: أمرت … أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا … قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ؟ فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقاً- وفي رواية: عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأقاتلنهم على منعها، إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة … والزكاة، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت … أنه الحق)6.
وبعد عودة جيش أسامة بن زيد، عقد أبو بكر الألوية، فعقد أحد عشر لواءً.. عقد لخالد بن الوليد وأمره بطليحة، فإذا فرغ ساروا إلى مالك بن … نويرة إنْ أقام له، ولعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة … إلخ7.
ولقد عرض الصديق على كبار الصحابة قيادة الجيش فأبوا عليه ذلك وكانوا يطمحون للشهادة …
(دعا أبو بكر زيدَ بن الخطاب لذلك، فقال: يا خليفة رسول الله قد … كنت أرجو أن أرزق الشهادة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أرزقها، فأنا أرجو أن أرزقها في هذا الوجه، وإن أمير الجيش لا ينبغي أن يباشر القتال … بنفسه، فدعا أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، فقال مثل ما قال زيد، فدعا سالماً مولى أبي حذيفة ليستعمله فأبى عليه، فدعا أبو بكر خالدَ بن الوليد فأمّره على … الناس)8… واستشهد هؤلاء الصحابة الذين اعتذروا عن القيادة – رحمهم الله جميعاً-.
بعد هذا العرض السريع لفتنة الردة وانتقاض القبائل على خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.. مع اختلاف النزعات والشعارات، نلاحظ أمرين … واضحين، هما:
1- قوة العصبية في نفوس الأعراب.
2- تعالي أصحاب الإيمان على هذه العصبية من الصحابة، (وقسم من أهل القبائل) وقفوا لقومهم محاربين مقاتلين كما سنلاحظ ذلك..
العصبية راسخة الجذور في الجزيرة العربية
والمتتبع لحروب الردة، يجد أن سواد الأعراب لم يدخل الإيمان قلوبهم، ولقد وصفهم القرآن بذلك: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا ولَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وإن تُطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً) …[الحجرات: 4] .
(هولاء الأعراب وقف معظمهم من الدين الإسلامي بالذهنية المغلقة …المتعصبة التي لا تدرك معنى الدين؛ (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ) [التوبة: 97] .
(كانوا يعدون الرسول رجلاً أوتي السلطان على العرب؛ فيطيعونه … على أنه رئيس مقتدر..) . (وكان العرب المسلمون ينظرون إلى الأعراب المتبدين … نظرة حذر وارتياب، وكانوا لا يرتضون لأعرابيٍّ تحضَّر أن يتبدى.. وكان للقبيلة الواحدة حاضر وبادية، والتمازج حاصل بين سكنة الحواضر … … وسكنة البوادي.. وكان الرسول الكريم يفرق بين الأعراب الموغلين في الصحراء، والأعراب المقيمين في الضواحي والمستجيبين لدعوة الإسلام..)9…
كان الأعراب بعيدين عن التربية المباشرة، تربية العقيدة والإيمان، كانت فترة الإعداد غير كافية لاقتلاع رواسب الجاهلية الموغلة في نفوسهم. إن جذور العصبية عريقة، والتعلق بعادات الغزو والنهب والفهم لحياة الفوضى، وكرههم للطاعة وحياة الانضباط، كل ذلك مع ضعف العقيدة سبَّب ردةً عنيفة في جزيرة العرب..
بعض المواقف التي تجلّي لنا منطق الجاهلية ورجسها
– عندما واجه خالد بن الوليد – رضي الله عنه -بجيوش المسلمين طليحة …الأسدي أُسر حِبال بن أبى حبال، ولما أراد المسلمون أن يبعثوا به إلى أبي بكر …الصديق قال: (اضربوا عنقي ولا تُروني محمَّدِيكُم هذا) ؛ فضربوا عنقه10…
– نزل عمرو بن العاص وهو عائد من عُمان على سيد بني عامر (قرة بن هبيرة القشيري) ، وذلك بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال قرة … لعمرو: (إن لك عندي نصيحة وأنا أحب أن تسمعها. إن صاحبك قد توفي. قال عمرو: أو صاحبنا هو؛ لا أمَّ لك- يعني: دونك؟ قال له قرة: وإنكم يا معشر قريش كنتم في حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس ثم خرج منكم رجل.. فلما … بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا: رجل من مضر يريد يسوق الناس، وقد توفي، والناس … إليكم سراع، وإنهم غير معطيكم شيئاً؛ فالْحقوا بحرمكم تأمنون فيه11.
وعندما اقترب عمرو من مشارف المدينة لقيه عيينة بن حصن خارجاً من … المدينة، فقال له: ما وراءك يا عيينة؟ قال له: يا عمرو استوينا نحن وأنتم، فقال له عمرو: كذبت يا ابن الأخابث من مضر. ثم لحق عيينة بطليحة الأسدي12.
هذا هو منطق الجاهلية ورجسها، وعقلية مشايخ القبائل، ولننظر … في مواقف عجيبة صدرت عن أصحابها خلال حرب اليمامة.. مع مسيلمة الكذاب … وقومه.
ضلال عجيب، وعصبية قاتلة
– كان (الرجال بن عُنْفوة) به من الخشوع، ولزوم قراءة القرآن والخير … … شيء عجيب.. وفد على رسول الله مع قومه وكان من أكبر من أضل أهل … اليمامة حتى اتبعوا مسيلمة، وكان قد أرسله الصديق لأهل اليمامة يدعوهم … إلى الله، فارتد مع مسيلمة، وشهد له بالنبوة.. سُمع الرجال هذا وهو يقول: (كبشان انتطحا، فأحبهما إلينا كبشنا)13.
ضلال عجيب، وعصبية قاتلة أوردته المهالك. …وها هو مسيلمة يقف مخذولاً أمام كتائب الإيمان ليقول لقومه في حديقة الموت: (اليوم يوم الغيرة.. إن هزمتم تستنكح النساء سبيات.. فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم)14.
– وبقوة الحسب ومجد العشيرة يستثيرهم محكم بن طفيل أكبر مؤيدي … مسيلمة – خذله الله – إذ يقول: (ما كان عندكم من حسب فأخرجوه)15.
– (قال قائل لمسيلمة: يا أبا ثمامة أين ما كنت وعدتنا؟ (وذلك بعد أن قتل … محكم بن طفيل) قال الكذاب: أما الدِّين: فلا دين، ولكن قاتلوا عن أحسابكم، …فاستيقن القوم أنهم على غير شيء)16.
وأخيراً: أسوق الخبر التالي، وهو يدل على عصبية عجيبة لا تدانيها … إلا عصبية ما قبل الإسلام:
(جاء رجل إلى اليمامة وقال: أين مسيلمة؟ دلُّوه عليه، فقال له: من يأتيك؟ قال: رجس. قال: أفي نور أم في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: … … أشهد أنك كذاب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، … واتبعه هذا الأعرابي الجلف – لعنه الله- حتى قتل معه يوم عقربا، لا رحمه الله)17.
هكذا نلاحظ أن العصبية الجاهلية برزت قوية جائرة، سببت فتنة أريقت لها دماء، وأزهقت فيها أرواح.. والإسلام ينادي: (دعوها؛ فإنها … … منتنة) على لسان رسوله -عليه أفضل الصلاة والسلام-.
ومن مستلزمات الجاهلية، والحياة القبلية كما مر معنا في الشعر الجاهلي: … حياة الغزو، وأحياناً على بكر أخينا، وهذه النفسية ظهرت خلال فتنة … … الردة واضحة.
– قدم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس على الصديق، يطلبان جعلاً ليخذلان من وراءهما من القبائل، فرفض الصديق ذلك، وبعد عودتهما شن خارجة بن حصن (أخو عيينة) غارة على المدينة المنورة، فخرج … إليهم الصديق بمن معه من المسلمين وهزمهم في ذي القصة18.
– وهذا الفجاءة من بني سليم كان قدم على الصديق وزعم أنه أسلم، وسأله أن يجهز معه جيشاً يقاتل به أهل الردة فجهز معه جيشاً، فلما سار … … جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله وأخذ ماله.. فلما سمع الصديق بعث … وراءه جيشاً فرده وقد جمعت يداه إلى قفاه وقُتل.
من شحّت نفوسهم بدفع الزكاة
وهنالك بعض المرتدين امتنعوا عن دفع المال وتأدية الزكاة لخليفة رسول الله..قال الأشعث بن قيس لأبي بكر الصديق: (والله ما كفرت بعد إسلامي، ولكني شححت على مالي) ، وذلك عندما جيء به وبقومه من أسرى كندة بعد هزيمتهم.. وقال وفد كندة أيضاً نفس القول: (والله ما رجعنا عن الإسلام، ولكنا شححنا على أموالنا)19.
(وكان الذين حبسوا صدقات قومهم وفرقوها بينهم مالك بن نويرة … وتيس بن عاصم، والأقرع بن حابس التميمي، وكذلك فعل حذيفة بن بدر الفزاري، ومثله بنو سليم، وحاولت طيء أن تقلد جيرانهم بني أسد إلا أن عدي بن حاتم رفض ذلك وأقنع قومه، وقدم بالصدقات على أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-) 20 .
الغزو وحياة الفوضى
وهكذا نلاحظ أن العرب الذين كانوا يأنفون من الانصياع إلى سلطة واحدة، صعُب عليهم أن يخضعوا لرجل من قريش يؤدون إليه أموالهم. وهذا شاعر كندة حارثة بن سُراقة يقول:
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا … فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر؟
أيورثنا بكراً إذا مات بعده … فتلك إذن والله قاصمة الظهر21
جاءت سجاح بمن معها من قبيلتها (تغلب) من الجزيرة وقد ادعت النبوة، وهي من نصارى العرب، ولما مرت ببلاد بني تميم دعتهم إلى أمرها، فاستجاب لها عامتهم، وكان ممن استجاب لها مالك بن نويرة التميمي، وعطارد بن حاجب..ثم اتفق أتباعها على قتال الناس فقالت لهم فيما تسجعه: (أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب فليس دونهم حجاب) . ثم قصدت اليمامة لتأخذها من مسيلمة.
واتفق الكذّابان؛ (وتزوجها مسيلمة وأقامت عنده ثلاثة أيام، ثم رجعت إلى قومها … وقد نادى مؤذّنها: إن مسيلمة قد وضع عنكم صلاتين مما آتاكم به محمد-يعني: صلاة الفجر وصلاة العشاء … ثم انثنت راجعة إلى بلادها الجزيرة وأقامت في قومها بني تغلب..)22.
إغارة ونهب وفوضى…وحنين إلى مظاهر الجاهلية تلك. ولقد قال أحد أتباعها (عطاء بن حاجب) بعد أن رجع إلى الإسلام في سجاح23:
أضحتْ نبيتنا أنثى نطيف بها … وأصبحت أنبياء الناس ذُكراناً
فلعنة الله رب الناس كلهم … على سجاح ومن بالكفر أغْوانا
دعاة كذبة، ما كان يمكن أن يصدقوا لو كانت روابط الإيمان قوية، وجذور الدين راسخة.
حفظة القرآن، وأصحاب الإيمان
هؤلاء الأتقياء الأبرار، هم الذين حسموا الموقف في هذه الفتنة، وارتفعوا فوق التقاليد والأهواء، فقد حاربوا قومهم وقبائلهم مع كتائب الإيمان.. ولقد استمر القتل في الصفوف من حفظة القرآن في اليمامة، (وجعل منادي المسلمين، ينادي: يا أهل القرآن فيجيبون المنادي فرادى ومثنى، فاستمر بهم القتل؛ فرحم الله تلك الوجوه)24– كما روي عن عمر- رضي الله عنه – وهو يذكر تلك الأيام.
(وصبر الصحابة في هذا الموطن صبراً لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم.. وكان جملة من قتلوا في … … حديقة الموت وفى المعركة قريباً من عشرة آلاف مقاتل، وقيل: أحد وعشرون ألفاً (من المرتدين) ، ومن المسلمين: استشهد ستمائة، وقيل: خمسمائة؛ … … فالله أعلم، وفيهم من سادات الصحابة أمثال: ثابت بن قيس بن شماس … الأنصاري الخزرجي، ومنهم: زيد بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب لأبيه، … … ومنهم: أبو دجانة، ومنهم: عباد بن بشر الأنصاري، وأبو حذيفة بن عتبة … ومولاه سالم … )25-رحمهم الله أجمعين-.
كانت المعارك ضارية، حتى أن المسلمين تراجعوا عدة مرات أمام بني حنيفة، إذ جاء الخلل إلى الصفوف من الأعراب، وعندها صاح أحد … أصحاب رسول الله (ثابت بن قيس) -رضي الله عنه-: أخلفنا يا خالد.. فقال: … … ذلك إليك، فنادِ في أصحابك، فأخذ الراية ونادى: ياللأنصار.. فتسللت إليه رجلا رجلاً.. أربعمائة رجل لا يخالطهم أحد.. ونادى خالد: ياللمهاجرين.. فأحدقوا … به، ونادى عدي ومكنف بن زيد الخيل الطائي لطيءٍ؛ فثابت إليهما طيءٌ وكانوا … أهل بلاء حسن، وعزلت الأعراب ناحية…ويكمل الرواية رافع بن خديج فيقول: (وإنما كنا نؤتى من قبل الأعراب.. …وأجهضهم أهل السوابق والبصائر، فهُم في نحورهم..)26.
إن العقائد تقاس بالابتلاء والشدائد، وعامة الناس لا يجدون نفعاً في هذه المواطن، وما أجدر … الدعاة أن يستفيدوا من مثل هذه الدروس.. أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأهل السوابق على قلة عددهم هم الذين قلبوا ميزان المعركة.. … وكثرة الأعراب من المسلمين سرعان ما كانوا يتراجعون عندما عضهم السيوف. …
لقد وقف عدي من قومه موقفاً صلباً مؤمناً، وحارب إلى جانب خالد بن الوليد، ولقد قاتل المسلمون من بني سليم المشركين من قومهم، فانهزم الأعراب من المرتدين (من بنى عبس وذبيان ومَنْ معهم من مدد طليحة لهم بابنه حِبال) الذين أغاروا على المدينة، وقتل حبال، وكان أول الفتح، وذل بهذه الموقعة المشركون، وعز المسلمون، عندها وثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، وفعل من وراءهم كفعلهم، فحلف أبو بكر ليقتلن من كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.. وجعل خالد -رضي الله عنه- بعد أن هزم طليحة وأسداً يتردد شهراً يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهُرهم …حين ارتدوا..)27.
وكان ابن عمرو اليشكري من أشراف اليمامة، وكان مسلماً يكتم إسلامه، وكان صديقاً للرّجال، فقال شعراً، فشا في اليمامة منه هذه الأبيات28:
يا سعاد الفؤاد بنت أثال … طال ليل بفتنة الرّجَال
فتن القوم بالشهادة29 والله … عزيز ذو قوة ومحال
إن ديني دين النبي وفي القوم …رجال على الهدى أمثالي30
أهلك القوم محكم بن طفيل … ورجال ليسوا لنا برجال31
قلت للنفس إذ تعاظمها الصبرُ … وساءت مقالةُ الأقوال
إن تكن ميتتي على فطرة الله … حنيفاُ فإنني لا أبالي
فبلغ ذلك مسيلمة ومحكماً وأشراف أهل اليمامة، فطلبوه، ففاتهم ولحق بخالد بن الوليد، فأخبره بحال أهل اليمامة ودلّه على عوراتهم.
إنه الإيمان يستعلي في نفس ابن عمرو اليشكري، جعله يضحِّي بقومه …في سبيل دينه.
دروس وعبر
هذه هي حروب الردة، فتنة عمياء، وعصبية هوجاء، إلا أنها لا تخلو من عبر وعظات..
1 – العصبية خطيرة خبيثة من فتن الجاهلية، تتلون وتخدع أصحابها، فلا يرون الحق، ويدافعون عن الباطل، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.
2 – التعلق بالمال والمتاع الزائل، مع ضعف الإيمان وغبش التصور أودى ببعض المرتدين المهالك، فشحت نفوسهم عن دفع الزكاة.
3 – إن قوة الإيمان، وفهم العقيدة، من هدي الإسلام.. الذي يصنع العجائب وهذا ما ظهر في موقف الصدِّيق وصموده، وعدم تهاونه في أداء الزكاة، ولقد قرر بحزم أن يحارب المرتدين، وأن يرسل جيش أسامة ابن زيد إلى تُخُوم البلقاء والشام، (واللهِ لا أحل عقدةً عقدها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ولو أن الطير تخطفنا والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت … بأرجل أمهات المؤمنين؛ لأجهزنَّ جيش أسامة…) وظهرت مواقف حفظة القرآن وأصحاب الإيمان عظيمة غيَّرت مجرى التاريخ..
4 – إن مهادنة المشركين باسم المصلحة وضعف الإمكانيات ليس له ما يبرره، وواقع الصديق وما كان فيه هو وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين – من ضيق وشدة، وانتقاض العرب، ما جعله يتنازل عن حق من حقوق الله، … ولا أن يسالم أو يساوم في دين الله.
إن مواقف الصحابة تنفي علينا في هذا الزمن كل التواءٍ وخداعٍ، وجرأةٍ على الفتوى باسم الدين.
5 – إن العودة إلى التربية الصافية، إيمانية خالصة ضرورة ملحة، … وفرض محتم، ينقذ المسلمين مما هم فيه من تسيب وضياع وانهزام. …
6 – إن القلة المؤمنة هي رصيد الشدائد، وعماد كل نهضة جادة وصحوة يقظة، مادامت (هذه النخبة) متمسكة بكتاب الله وسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم – كما فهمها سلف هذه الأمة.
7 – وصورة الردة تتمثل بإيجاز في:
(أن العرب افترقت في ردتها؛- فطائفة رجعت إلى عبادة الأصنام وقالوا: لو كان نبياً لما مات.
– وفرقة قالت: نؤمن بالله ولا نصلي.
– وطائفة أقروا بالإسلام وصلُّوا، ولكن منعوا الزكاة.
– وطائفة شهدوا: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكن صدَّقوا مسيلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أشركه معه في النبوة.. …
ولم يشكّ أحدٌ من الصحابة في كفر من ذكرنا ووجوب قتالهم إلا مانع الزكاة ثم زالت الشبهة عن الصحابة -رضي الله عنهم- وعرفوا وجوب قتالهم؛ فقاتلوهم 32.
وها نحن في هذا العصر نرى مَنْ ينكر الزكاة، ويجحد أركان الإسلام، ويتفلت من تحكيم شرع الله، ثم يزعم أنه مسلم، ويجد من يفتي له بإسلامه، مادام يتلفظ بالشهادتين، ولو لم يأت بأي عمل من أعمال الإسلام، فأي عجب أكثر من هذا؟ ! .
الهوامش
(1) عبية الجاهلية: كْبرها ونخوتها.
(2) البداية والنهاية لابن كثير: 6 / 304.
(3) المرجع السابق: 6 / 312.
(4) المرجع السابق: 6 / 311.
(5) الخلافة الراشدة والبطولة الخالدة في حروب الردة، للشهيد المحدث المؤرخ أبي الربيع سليمان ابن موسى الكلاعي الاندلسي (565 634 هـ) تحقيق ونشر د أحمد غنيم (ص 67) .
(6) البداية والنهاية: 6 /311، 315.
(7) البداية والنهاية: 6 /311، 315.
(8) حروب الردة: الكلاعى (ص 56 57) .
(9) الشعر الجاهلي، د يحيى الجبوري، ?3236.
(10) حروب الردة: الكلاعي، ص 74.
(11) حروب الردة الكلاعي، ص 85 86.
(12) حروب الردة الكلاعي، ص 85 86.
(13) انظر البداية والنهاية، 6 /323، وحروب الردة، ص 104.
(14) البداية والنهاية، 6 /324.
(15) حروب الردة الكلاعي، ص 143و145.
(16) حروب الردة الكلاعي، ص 143و145.
(17) البداية والنهاية 6 / 327، 313، 319، وحروب الردة: ص 53، 4 5 و39 و40.
(18) البداية والنهاية 6 / 327، 313، 319، وحروب الردة: ص 53، 4 5 و39 و40.
(19) انظر حروب الردة: الكلاعي، ص 328، 44?50?226.
(20) انظر حروب الردة الكلاعي، ص 238، 44?50?226 وانظر رواية ابن كثير للأبيات 6/313 ففيها بعض الاختلاف.
(21) انظر حروب الردة الكلاعي، ص 238، 44?50?226 وانظر رواية ابن كثير للأبيات 6/313 ففيها بعض الاختلاف.
(22) البداية والنهاية 60/320321.
(23) الإصابة لابن حجر: 2 /477.
(24) انظر حروب الردة للكلاعي، ص 177.
(25) انظر البداية والنهاية، 6 / 325 وما بعدها.
(26) انظر حروب الردة 133138، والبداية والنهاية: 6 /324.
(27) البداية والنهاية 6 /313، 319.
(28) حروب الردة: الكلاعي، ص 105 106.
(29) كان قد شهد (الرجال) لمسيلمة بالنبوة، ففتن الناس.
(30) لم يصرح باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يعرض بأن لا نبي سواه وأن مسيلمة مفتر على الله.
(31) محكم بن طفيل من أكبر أعوان مسيلمة.
(32) مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 29، 30.
المصدر
مجلة البيان: العدد 8 ، محمد الناصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق