بقلم: د. يوسف القرضاوي
التوكل عبادة من أفضل عبادات القلوب، وخُلُق من أعظم أخلاق الإيمان، وهو -كما قال الإمام الغزالي- منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معالي درجات المقرَّبين، بل هو -كما قال الإمام ابن القيم: "التوكل" نصف الدين، والنصف الآخر "الإنابة"، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88). فإن الدين عبادة واستعانة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) والتوكل استعانة، والإنابة عبادة.
وحاجة المسلم -السالك لطريق الله- إلى التوكل حاجة شديدة، وخصوصاً في قضية "الرزق" الذي شغل عقول الناس وقلوبهم، وأورث كثيراً منهم -بل أكثرهم- تعب البدن، وهم النفس، وأرق الليل، وعناء النهار.
وربما قبل أحدهم أن يذل نفسه، ويحني رأسه، ويبذل كرامته، من أجل لقمة العيش التي يحسبها أنها في يد مخلوق مثله، إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، فحياته وحياة أولاده في قبضته، فهو قادر -في نظره- أن يحيي ويميت كما قال "نمرود" في محاجة الخليل إبراهيم عليه السلام.
بل ربما زاد أحدهم على ذلك، فأفتى نفسه بأكل السحت، وأخذ الرشوة، واستباحة الربا، وأكل المال بالباطل، خوفاً على نفسه إذا شاخ بعد الشباب، أو مرض بعد الصحة، أو تعطل بعد العمل، أو خشية على ذرية ضعفاء من بعده، وقد قال الإمام عبد الله بن المبارك: من أكل فلساً من حرام فليس بمتوكل، والمخرج من هذا كله هو الاعتصام بالتوكل على الله تعالى.
وأحوج ما يكون المسلم إلى التوكل إذا كان صاحب دعوة، وحامل رسالة، وطالب إصلاح، فهو يجد في التوكل ركناً ركيناً، وحصناً حصيناً، يلوذ به في مواجهة طواغيت الكفر، و "فراعنة " الظلم، و"قوارين" البغي، و "هوامين" الفساد.
فهو ينتصر بالله، ويستعز بالله، ومن انتصر بالله فلن يغلب أبداً، ومن استغنى به فلن يفتقر أبداً، ومن استعزَّ بالله فلن يذل أبداً.. {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 160).
حقيقة التوكل كما يشرحها الغزالي
وقال الإمام الغزالي في "الإحياء" وبيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل: "أعلم أن التوكل من باب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من: علم: هو الأصل، وعمل: هو الثمرة، وحال: هو المراد باسم التوكل".
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيماناً في أصل اللسان، إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي سمي يقيناً، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحاج منها إلى ما نبني عليه التوكل وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، والإيمان بالقُدرة التي يترجم عنها قولك: "له المُلك"، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك: "وله الحمد..".
فمن قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه، فأما التوحيد فهو الأصل والقول فيه يطول".
وبعد أن أطال الغزالي الكلام عن " العلم " انتقل إلى " الحال " فقال: " فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه. وإنما العلم أصله، والعمل ثمرته. وقد أكثر الخائضون في بيان حد التوكل، اختلفت عباراتهم، وتكلم كل واحد عن مقام نفسه، وأخبر عن حده، كما جرت عادة أهل التصوف به، ولا فائدة في النقل والإكثار، فلنكشف الغطاء عنه ونقول:
التوكل: مشتق من " الوكالة ". يقال: وكَّل أمره إلى فلان، أي فوَّضه إليه، واعتمد عليه فيه. ويسمى الموكول إليه " وكيلاً ". ويسمى المفوِّض إليه متكلاً عليه، ومتوكِّلاً عليه، مهما اطمأنت إليه نفسه، ووثق به، ولم يتهمه فيه بتقصير، ولم يعتقد فيه عجزاً وقصوراً، فالتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده".
وبهذا نتبين أن التوكل، كسائر أبواب الإيمان ومقامات الارتقاء الروحي - تشتمل على جوانب ثلاثة: الجانب المعرفي الإدراكي.. والجانب الوجداني العاطفي (الذي يُعبر عنه بـ "الحال")، والجانب الإرادي السلوكي الذي يُعبر عنه بالعمل.
* المصدر: كتاب "التوكل" لفضيلة الشيخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق