"ضربة جزاء" ضد السيسي ونظامه
جمال الجمل
(1)
لا تصدقوا الشعار الذي يتحدث عن ضرورة فصل السياسة عن الرياضة، ففي بلاد مثل بلادنا تتقدم الرياضة (خاصة كرة القدم) على لقمة العيش ونشاط الأحزاب وأخبار الحكومات، بحيث يمكن القول إن جمهور الرياضة هو الشعب الفاعل والمؤثر في نطاق اهتمامه، صحيح أن انتماءه مقيد بلون فانلة فريقه، لكن عصبية الانتماء الكروي تتفوق على أي انتماء سياسي أو فكري، لهذا أتابع مجريات الأزمة المتصاعدة ين النادي الأهلي المصري وبين النظام الحاكم، باعتبارها صداما جديدا من نوعه بين السلطة السياسية وأكبر حزب شعبي في مصر.
يتردد في صفحات الرياضة وكتب التفاخر التذكاري أن "الأهلي" هونادي الوطنية المصرية الذي نشأ في مواجهة أندية أسسها الاحتلال الأنجليزي بشكل كامل أو "مختلط"..
ويركز المتفاخرون على أسماء رؤساء النادي وداعميه باعتبارها دليل الوطنية، فيذكرون مصطفي كامل وعبد الخالق ثروت ومحمد محمود وعزيز عزت وعمر لطفي وعبود باشا، وكذلك يستخدمون اسم سعد زغلول وسياسين آخرين حتى لو لم يشاركوا في إدارة النادي، لأن الغرض هو تثبيت فكرة أن النادي الأهلي له تاريخ وطني شعبي مناويء للأنجليز، على عكس الزمالك نادي السلطة والاحتلال الذي حمل لفترة اسم الملك فاروق بعد أن كان يحمل اسم "المختلط" في إشارة للشراكة المعيبة بين المحتل الأنجليزي والعنصر المصري..
على المستوى الظاهري تكتسب المعلومة وجاهة ومصداقية لأن "الأهلي" نشأ ضمن صعود "حالة أهلية" في السياسة والاقتصاد والتعليم في بدايات القرن العشرين أثناء حكم عباس حلمي الثاني، وسرعان ما تبلورت هذه "الحالة الأهلية" في مد شعبي ثوري عام 1919 بعد سنوات قليلة من نشأة الأهلي في ربيع 1907.
يؤسفني أن أصدمكم فأقول إن التفاخر بالوطنية بين أكبر وأعرق نادين في مصر مجرد ادعاءات لا تستند إلي واقع فعلي، لذلك تتلون الحقائق حسب كل عصر، وحسب كل دعاية تتخذ من الرياضة غطاء لأوضاع سياسية واقتصادية ارتبطت بتاريخ ونشأة ومسارات النادين، فكلاهما (بصرف النظر عن الأسماء والإدعاءات) نشأ في ظل الاحتلال وبمساعدة شخصيات أجنبية ارتبطت بالاحتلال، فقد ساهم الانجليزي "ألفريد ميتيشل ينيس" في تأسيس النادي الأهلي المصري وكان أول رئيس رسمي له، وبرغم أن رئاسته لم تتجاوز العام إلا أن الدلالة السياسية لارتباط اسمه بنشأة الأهلي توضح لنا الكثير من ارتباط الرياضة المصرية بالسياسة والاقتصاد وهيمنة النخبة المسيطرة على مجالات الحياة.
فقد جاء ميتشيل إلي القاهرة للعمل في لجنة الرقابة المالية الثنائية التي فرضها الإستعمار على مصر بسبب سياسات الخديوي إسماعيل التي أدت إلى إفلاس مصر عمليا وفرض الرقابة ثم الوصاية عليها، وهكذا تعبر شخصية ميتشيل عن العوامل الرئيسية التي تشكلت منها النخبة الحاكمة في ذلك الوقت (العمل الدبلوماسي والمالي والعسكري) وهي عوامل ذات طابع رسمي وليست شعبي، فقد كانت (ولا تزال) فكرة النوادي فكرة لصالح طبقة ما أو مجال عمل ما..
بعد مرور 4 سنوات فقط من تأسيس النادي الأهلي بفكرة مصرية من المحامي عمر لطفي ودعم من الرقيب المالي الأنجليزي ميتشيل، تأسس النادي "الثاني" بجهود أجنبية خالصة على يد رجل قانون يهودي يحمل الجنسية البلجيكية / الفرنسية (جورج مزرباخ)، ولما كان مزرباخ رئيسا لإحدى المحاكم المختلطة فقد حمل النادي اسم "المختلط" بعد تسمية أولى وقصيرة ارتبطت بموقعه الجغرافي قرب ثكنات الاحتلال بجوار "قصر النيل"..
في تلك الفترة كانت الفكرة الوطنية (الأهلية) تتصاعد بدعم من الخديوي عباس الثاني الذي أراد الانتقام من الأنجليز لأسباب نفسية وعائلية تمثلت في نفيهم وإذلالهم لجده إسماعيل، وإهانتهم واستهانتهم بوالده توفيق الذي جلب الاحتلال بشكله المباشر، لذلك سعى عباس في بداية حكمه لتكوين حركة سياسية مصرية من طلبة المدارس والحقوقيين ورجال الأعمال، مع أعداد كبيرة من العسكر والتكنوقراط الألمان والمجريين والنمساويين للاستعانة بهم في صراعه "الفاشل " مع الأنجليز، والذي انتهي بعزله ونفيه مثل جده..
ما يهمنا أن عباس الثاني ساهم بهذه السياسة (السايكوعائلية) في تأسيس نوع من "الوطنية المصنوعة" التي برز فيها تلميذه مصطفى كامل وأسماء مثل لطفي السيد وعبد العزيز جاويش ومحمد فريد تحت مسمي راية "الحزب الوطني" الذي تم إعلانه كغطاء لجمعية سرية يديرها الخديو بنفسه في الخفاء قبل أن ينشب الخلاف ويتفرق الشركاء..
إشارتي لهذا "التصنيع السلطوي" للوطنية، تعد بمثابة دعوة هادئة لإعادة قراءة تاريخنا الحديث لنفهم عوامل الفشل البنيوي في "الحركة الوطنية المصرية" التي نشأت بدوافع من صراعات في القمة، ثم عكست نفسها في الشارع لتستخدم الجماهير كغطاء وليس أكثر (كما رأينا بأنفسنا في وطنية 30 يونيو 2013" التي تم تصنيعها لأهداف سلطوية تحت غطاء شعبي
نستخلص من هذا السرد المختصر أن الرياضة في مصر انعكاس صافي للعلاقة بين السلطة المهيمنة بأذرعها العسكرية والمالية والاقتصادية والقانونية من جانب وبين الاستخدام الميكافيللي للجماهير في تحقيق مصالح النخبة الحاكمة على الجانب الموازي، لذلك فإن نظرة سريعة لرؤساء ومجالس ادارات الناديين الكبيرين في مصر توضح طبيعة السلطة المهيمنة على البلاد في مرحلة ما، كما توضح طبيعة العلاقة بين تلك السلطة والجماهير المخدوعة بالشعارات وضرورات المعيشة، ففي نشأة الأهلي برزت سلطة وحضور الرقابة المالية الانجليزية (ميتشيل)، بينما ظهر في الزمالك الشق الفرنسي من الرقابة المالية الثنائية لسلطة المحاكم المختلطة (مزرباخ)، وكلنا يعرف أن المحاكم المختلطة تشبه مرتضى وقوانينه، فقد كانت تمثل القضاء المنحاز للأجانب ضد أهل البلد، كما تمثل إزدواجية القوانين وحالة الخلط والإختلاط.
الرياضة في مصر انعكاس صافي للعلاقة بين السلطة المهيمنة بأذرعها العسكرية والمالية والاقتصادية والقانونية من جانب وبين الاستخدام الميكافيللي للجماهير في تحقيق مصالح النخبة الحاكمة على الجانب الموازي،
وفي مرحلة لاحقة بعد النشأة، تفاخر "نادي الوطنية المصرية" بأسماء مثل عبد الخالق ثروت (جزار الحرية وراعي الأحكام العرفية وذراع الاحتلال) وأحمد حسنين (ثعلب القصرالملكي وقواد الفساد) وعبود باشا (رجل المال السياسي المستفيد من الحالة الأهلية في الاقتصاد التي سبقه غليها طلعت حرب) والفريق مرتجي (رجل البرستيج العسكري) وكلها شخصيات تم تقديمها للجماهير كرموز مضيئة للوطنية، بالرغم من الاختلاف الفادح والفاضح فيما بينهم..
كذلك استمر الزمالك تحت حكم الخلطة العسكرية والمالية والقانونية من مزرباخ وبيانكي وحيدر باشا إلى مرتضي منصور، القاضي الفاسد الذي فرض أسلوبه علي الملعب، وكشف الغطاء (بغباء مشكور) عن اللعبة الخفية، واستدراج الأهلي للعب في مباراة مفتوحة بلا قواعد، لذلك لا يستبعد العقلاء أن يؤدي هذا الخروج عن القواعد إلى نزول الجماهير لأرض الملعب لتشارك بنفسها في الصراع .
في أثناء ثورة يناير تبين أن "الجماهير المنظمة" التي كان يعدها جمال مبارك وشقيقه علاء لمساندة مشروع توريث الحكم صارت رقما مؤثرا في الحراك الشعبي ولاعبا مهما في لعبة "الوطنية المصنوعة" التي أسسها عباس الثاني، لهذا برزت حالة من الصراع الفوقي للاستحواذ على هذه القوة الشعبية المنظمة (تشكيلات الألتراس)، وانتهى الصراع بعد 3 يوليو بقرار سلطوي يهدف لتفكيك هذه التشكيلات الجماهيرية لصعوبة التحكم في حركتها والسيطرة على ردود أفعالها، وكانت صدمة التخويف الدموي في استاد بورسعيد علامة فارقة في انقلاب السلطة علي الألتراس.
وبالرغم من حجب المعلومات ووقف التحقيقات في (مذبحة الـ74 شهيدا) إلا أن الأسلوب التسويفي والتفكيك استمر، وانتقل من النادي الأول (الأهلي) إلى النادي الثاني (الزمالك) الذي تذوقت جماهيره طعم دمها في مذبحة ملعب الدفاع الجوي، وأعقب المذبحة مواجهات خاضها (مرتضي منصور) ضد مشجعي النادي الذي يترأسه، وانكشفت مهمة منصور في معركة تكسير الألتراس نيابة عن سلطة أكبر، واستخدم ضد جماهيره تعبيرات أمنية وسياسية متداولة في الخطاب السياسي الرسمي مثل الإرهاب والبلطجة وخروج الألتراس عن القانون، في المقابل فرض جمهور الأهلي أسلوبه "الشعبي" على الإدارة وجعلوا من ضحاياهم "شهداء" لا يفرطون في إحياء ذكراهم والتنديد بما حدث لهم والمطالبة بالقصاص من قاتليهم.
هذه الزاوية في النظر لما وصلت إليه العلاقة بين الناديين الكبيرين تفتح أمامنا ممرا خفيا لفهم خلفيات الصراع باعتباره "صراعا رئيسيا بين سلطة وجماهير"، وليس مجرد صراع فردي بين منصور والخصيب، أو تنافس رياضي بين فريقين، قد كان مسكوتا عن الأهلي عندما كان قريبا من السلطة ويلعب لتحقيق أهدافها، لكن "موقعة بور سعيد" قطعت الجسور بين السلطة والأهلي وصنعت تاريخا جديدا يشبه "الحالة الينايرية"، فقد (ركب الشعب الأهلاوي يا باشا) وأجبر قيادته على الاختيار الصعب: إما الولاء للنادي وجماهيره أو التضحية بدماء أبنائه والإستمرار في حضن السلطة، وكان اللاعب النزيه محمد أبو تريكة قائدا شعبيا لاتجاه عدم التفريط بالدم للحفاظ على مكاسب خسيسة تراعي الشهرة والمال وحضانة السلطة علي حساب القيم الاسانية والولاء للنادي وأخلاق الرياضة، ودفع أبو تريكة ثمن موقفه وصار متهما بما يفوح من فم منصور ومن وراءه من تهم ملفقة كريهة الرائحة والتوجه.
جماهير الأهلي والزمالك وبقية الأندية، هم في الأصل شعب واحد يعاني الظلم نفسه والاختلال نفسه ومن مصلحة الجميع أن يعملوا معا لضمان دولة قانون يسري فيها العدل والمساواة والحرية والكرامة والاحترام بدلا من المحسوبية والبذاءة وإهدار القوانين،
وتوالت المواقف التي تؤكد قوة "الشعب الأهلاوي"، وأبرزها رفض وصاية الكفيل الذي استخدم ثغرة الدعم الخليجي القديم للنادي الأهلي ليتسلل إلى منصب الرئاسة الشرفية للنادي ويضع سمعته في امتحان عسير، لكن الجماهير اتخذخ القار ونفذته في هتاف علني شهير أطاح بفيروس الترفيه وأنهى فترة العلاقة المشبوهة بين ادارة الأهلي ومزرباخ النفط المسموم..
هذا الدورالمؤثر لجمهور الأهلي أشعر الأجهزة بالخطر وحفزها على إطلاق السلاح القذر ضد الأهلي وإدارته، ليس كرها في الخطيب وإدارته، ولكن عقابا لهم علي عدم تكسيرهم للجماهير الثائرة الحرة، كما فعل منصور بالوايت نايتس..
تصور الخطيب أن القانون يكفي لوقف بذاءات منصورضده وضد النادي الأهلي فلجأ إلى المحاكم، وانتظر عبثا رفع الحصانة عن النائب المشمول برعاية الأجهزة، والذي حرص الرجل الكبير في بداية عهده على رعاية مصالحه بينه وبين الأهلاوي شوبير، لكن الأحداث أثبتت أن منصور أكبر من القانون وأن الهدف المخطط له أكبر من كرة القدم، لهذا اضطر الخطيب للاستعانة بشعبه، وسمح (وربما ساهم بالدعم الناعم) في إطلاق عشرات الصفحات والمجموعات على السوشيال ميديا، لترتفع فيها أصوات "التالتة شمال" لتهز سلطات وجبال..
وبين يوم وليلة تحولت هتافات جماهير الأهلي إلى منشورات سياسية تفضح وتتوعد وتتحدث عن دولة البلطجة وغياب القانون وسلط #حنفي_الدكر، وتندد بتدخل كبار رجال السلطة في الصراع المريب ضد الأهلي.
وكما تم من قبل استخدام أسماء سعد زغلول وعبد الحكيم عامر لدعم نفوذ الناديين خارج المستطيل الأخضر، ترددت أسماء كامل الوزير "والكبير أوي" وصارت الكرة في حوزة جماهير الأهلي بما ينذر بصراع يصعب توقع نتائجه، لهذا قد تبادر السلطة باحتواء الموقف الخطير قبل وصوله إلى ذروة لا يمكن تفاديها، وقد تتغافل فتدفع ثمن حماقتها وقراراتها الخاطئة، لكن في كل الأحوال ومهما كانت جهود الاحتواء فإن رصيد الغضب لدى قطاع واسع من الشعب قد زاد وفاض ولمس الحدود الحمراء، خاصة وأن "كل شيء انكشف وبان" أمام جماهير غفيرة لم تكن تهتم قبل ذلك بالحديث عن مستوى نزاهة القضاء أو انحيازاته، ولم تندد بتدخلات الأجهزة واستخدامها المعيب للقوانين، لكنها في هذه الأزمة تتحدث بلغة تمرد سياسي لا تحجبها غدارة الناي بل تشجعها وتتعامل معها باعتبارها سبيلا لإعادة الاعتبار بعد أن تبينت أوهام دولة القانون..
وحتى لا أطيل أكثر، أوضح وأنبه إلى ضرورة استثمار الحالة الشعبية لضمان العدل واحترام القانون بعيدا عن التصب والاحتراب بين الجماهير، فجماهير الأهلي والزمالك وبقية الأندية، هم في الأصل شعب واحد يعاني الظلم نفسه والاختلال نفسه ومن مصلحة الجميع أن يعملوا معا لضمان دولة قانون يسري فيها العدل والمساواة والحرية والكرامة والاحترام بدلا من المحسوبية والبذاءة وإهدار القوانين، والعاقل من يدرك أنه لا يستطيع تمرير الفساد والتزوير في زمن "الفار" والتوثيق والسماوات المفتوحة..
اللهم لا تعاقبنا بإشعال الحرائق بيننا، وأنعم علينا بثورة عدل وصيحة حق ضد كل قبيح وفاجروظالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق