الأحد، 4 سبتمبر 2022

خطر فكرة الانغلاق على المغرب – رد على انعزالية الريسوني

خطر فكرة الانغلاق على المغرب – رد على انعزالية الريسوني


محمد الأحمري

14\8\2022[1]

شرّف الأستاذ الأصولي المحترم أحمد الريسومقالا مقاني مجلس أسمار وأفكار بحضوره، وطرح رؤيته حول كتابه “الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب”، وكانت حلقة مفيدة ماتعة وتلخيصًا لكتابه. 

وقد علقت وقتها بما تيسر، ورأيت أنه قد جانبه الصواب، وجانب ما يليق به من خطاب الجمع للمسلمين والوحدة والوفاق، خاصة وهو يقوم على رأس اتحاد علماء المسلمين. كان الكتيب قد وصلني قبيل الحلقة وقرأته وأبديت لحظتها رأيي في الكتاب وأشدت بجودة بحثه، وذكرت أن “الاعتراضات عليه كثيرة”، قبل أن يتوسع النقاش حولها لاحقًا، وحذرت من أثر هذه النظرية وما تسببه من انغلاق وجمود، وأشرت إلى ما يمكن أن تسببه من الفقر الفكري مقارنة بالمجتمعات المنفتحة على غيرها[2]

ثم قرأت بعد ذلك تعقيب الأستاذ عصام البشير المراكشي عليه، وهو رد علمي حصيف، ثم رأيت تعليقات على بعض أدبيات حركة التوحيد والإصلاح تؤكد هذه الإشكالية[3].

والذي يهمني هنا أن خطاب الانغلاق كما أكده ونصره الأستاذ الريسوني في خطابه وكتابه على مذهب مالك والجنيد السالك والمذهب الأشعري وقراءة نافع، وبعضهم زاد خاصية خامسة، قد جاء معدودًا من مكاسب الحركة في المغرب، إلا أن هذه الفكرة ليست مكسبًا ولا توجيهًا لمكسب، بل نية طيبة غالبًا تنتج انغلاقًا فكريًّا ومذهبيًّا مشينًا. والذي أشارك به في مقالتي هذه هو إعادة التفكير في مسلمات خطاب الريسوني ومن تبعه بعد ذلك في الحركة أو غيرها.

أولًا: لا يعرف الفكر جمودًا، بل حين يكون موجودًا حيًّا فإنه يتميز بالحركية المستمرة شاء الناس أم أبوا، وبهذا فالرأي الذي يقال اعتمدته حركة التوحيد والإصلاح ورأي الريسوني في إطار خوفه من التحولات قد يكون متفهمًا ظرفيًّا، ولكنه مرفوض شرعًا وعقلًا من حيث كونه جمودًا يضر بالمصالح العامة والخاصة، وفوق ذلك يصطدم بالواقع المتحرك أيضًا.

ثانيا: ثم إن الأديان، غير العنصرية كاليهودية، هي دعوة للانطلاق والتحرر من قيود المكان وعبور الأفاق المعرفية والروحية عبر الأزمان، فمن أهم سماتها العالمية انتشارا وفهما وقد يكون التطبيق بحسب الفهم والبيئة، ولكنها عالمية خارقة للحدود، عابرة بين الأمم، لا تستسلم لهواة القيود وعشاق الحدود،  قال ميخائيل نعيمة الغارق في روحانيته المسيحية: “كل دين يعمل على انغلاق الإنسان لا على انطلاقه ليس بالدين الذي يليق بنا أن نتخذه نبراسا لنا ودليلا إلى الحرية.”[4]  وأعجب من أن يصدر القيد الروحي والفقهي من عالم مسلم، وليس القيد للأسف ضد مخالفين في الدين بل قيود ضد المسلمين أنفسهم من جغرافيا قريبة وأصل ديني واحد هو يعترف  بوحدته التامة.

ثالثا: الشيخ منصبه إسلامي عالمي، فهو رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وعجبًا أنه يريد أن يغلق على المغرب في دائرة تصوف الجنيد ومذهب مالك وعقيدة الأشعري، حنينًا وتأييدًا لما قاله ابن عاشر الفاسي في مقدمة منظومته:

وبعد فالعون من الله المجيد        في نظم أبيات للأميّ تفيدْ

في عقد الأشعري وفقه مالك     وفي طريقة الجنيد السَّالكِ

ثم زاد الشيخ على التجميد على عقيدة الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد قراءة نافع المدني الليثي. ومع التقدير الكبير لتصوف الجنيد ومذهب مالك وعقيدة الأشعري، فإن هذا الإغلاق على شعب لا يليق بمنصب الشيخ ولا علمه ولا تخصصه في المقاصد، فهو لا يشمل بقية المسلمين في مذهبه، بل يريد أن يرجع بالمسلمين إلى زمن التشدد والتمذهب والانغلاق، وهذا زمن مضى كان سابقًا لزمن التجديد والاصلاح المعاصر، ماذا يقول لبقية علماء المسلمين الذين اختاروه رئيسًا؟ ألم يكن من علامات التمزق والاختلاف والتخلف ما كانت تعيشه المساجد من تنابز وتنافر مذهبي، فقد كان يُصلى في كثير من جوامع المسلمين الرئيسة ومنها الحرم المكي بأربع جماعات بأربعة أئمة مختلفي التوقيت والإمام بل أحيانًا الأذان؟

هذه القرارات مخالفة صريحة لمذهب الإمام مالك وطريقته، فهو الذي رفض مبكرًا تقييد الناس بمذهبه وكتابه، وقد رفض عرض هارون الرشيد عليه بتعميم الموطأ على المسلمين، مع أن تعميم كتاب لمؤلف أو رأي هي أمنية كل كاتب، ولكن مالك رحمه الله بلغ من سعة العلم والعقل أن رفض تعميم اختياراته وكتابه، تقديرًا لانتشار العلم في الآفاق، وانتشار الصحابة والتابعين وتعدد الأفهام، فكيف نأتي من وراء القرون ثم نقيد الفقه والفهم والسلوك بمذهب واحد؟

ثم لا يزايد على الكاتب أحد في تقدير الإمام مالك، فعلم الله أني حين أذكر مواقفه العظيمة لأعجب من توفيقه، وأشعر بإمام تخلص من أمراض الناس وارتقى إلى أعلى منازل الهمم التي يصبو إليها كل صاحب طموح. 

أما موقفه عند سؤال السائل عن الاستواء، استواء الله كما في الآية، وكان يكره الجدل في العقائد، فقد اغتم للسؤال وظهر عليه الضيق والاشمئزاز، لكنه إمام ومرجع للأمة وعليه أن يجيب، فقال: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة”[5]

وفي رواية ترتيب المدارك: “الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب”[6]

وفي رواية قال أخرجوه [يعني السائل] فإنه مبتدع. 

وإني منذ عرفت النص صغيرًا إلى يومنا هذا لأعجب من توفيقه في الجواب وشموله وفصاحته وعلميته، حتى لتغرورق عيناي بالدموع إعجابًا وتقديرًا.

وكان مالك لا ينتمي إلى شيء من مذاهب الناس الفقهية ولا الصوفية، وهو القائل وقد سأله رجل: من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ فقال: “الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا رافضي ولا قدري”[7].  

والنص التالي: قيل لمالك: الرجل له علم بالسنة يجادل عنها؟ قال: “لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبل منه وإلا سكت”[8].

وكان تقديري للشيخ الريسوني ومازال عاليًا، ولكن لا يمنع الحب والتقدير أن نقول ما نؤمن به لمن نحب ونقدر وقد سبق بالعلم والسن. 

فقد ذكر هذا الالتزام وكان في بيتي في مجلس أسمار وأفكار، وهي مشاركة مفيدة مقدرة منه كما نقدر لجميع العلماء والمفكرين الذين يشاركون في هذا المجلس، غير أن الموقف لما تكرر في مواطن أخرى من أحد زعماء حركة سياسية كبرى فإن السكوت لا يليق وقد انتشر الرأي.

أما الرابعة: المتعلقة بنوع من التصوف فالقول فيها يتبع ما يجد اليوم من نقاش للتصوف ومصير استخدامه الذي يعرفه الشيخ. والرابعة، قراءة نافع، فهو يقر بأن القراءات الأخرى السبع أو العشر صحيحة، فلم يحجّر واسعًا تعامل معه المسلمون كذلك في كل الأقطار ما دام القرآن هو نفسه القرآن؟ 

أما القاعدة الخامسة التي وضعها الدكتور وهي البيعة والطاعة للملك، فهذا أمر محلي يقدر بقدره، وفعلًا في المغرب قدر من الحرية للناس ومن الأمن والاستقرار يحسده عليه المسلمون في بلدان كثيرة، وسكان تلك البلاد الأحرار لهم تقدير ما يحدث في بلادهم ولا نزايد عليهم في شيء من ذلك، خاصة ما نراه من حساسية عامة تجاه الموضوعات السياسية في مشرق العالم الإسلامي ومغربه.

إن هذا التحجير مما لا يليق بمدرسة تجديدية للحياة الإسلامية، ونحن نعلم أن استقرار هذه المذهبيات كان بعد مالك بن أنس بأكثر من قرنين، واستقرارها في المغرب والأندلس بعد ذلك، فلماذا هذا الإصرار على التقييد؟ وهل هذا السعي من الدكتور حرص على المفاصلة مع بعض المدارس المشرقية؟ أم هو اختيار علمي؟ أما في حال الاختيار العلمي فإن العلماء يبينون آراءهم ويدللون عليها، ولا يليق أن يربط المذهب والقول والرأي بأنه لمنطقة أو إقليم، ثم ماذا عن مشارقة ومغاربة منتشرين في العالم يأخذون من ذلك ويرفضون؟

إذا كنا بصدد التجديد الإسلامي، أليس الأليق الذهاب إلى المنبع من كتاب وسنة وحياة وفكر ونقاشات المسلمين ما قبل التقسيم وما قبل الاستقرار والتمذهب والجمود؟ ولماذا نجمد مذهب قوم وإقليم على طريقة ومنهج واختيار في أي زمن مهما كان صحيحًا؟ ثم إن مفهوم هذا التحجير قد يفهم أنه انتقاص ورفض واتهام للمخالفين، فيما لا وجه لهذا التحجير لا عقلًا ولا شرعًا. 

وماذا لو ساد فقه أبي حنيفة ومدرسة الرأي أو مدرسة الحديث مدرسة أحمد بن حنبل أو مدرسة الشافعي، هل ستعتبرونها خروجًا على فقهكم ثم تنالون بالنقد والعقوبة من اقتنع بغير هذه المحددات المذهبية؟

إن الإسلام في العصر الحديث بتواصله وانفتاح الأمة بعضها على بعض قد حقق ما كان يتمناه العقلاء عبر العصور، وهذا التنوع الفقهي والسلوكي مما يجب أن نحمده ونرعاه وألا نرجع منه إلى إغلاق وجهل وتعصب مرة أخرى.

ومن الأمور الجيدة في النقاش أنه عن نمط التدين وليس عن الدين، وهذه حالة وعي مهمة؛ لأن الذين يناقشون عادة يكونون من العلماء أو الفقهاء أو الشباب الذين هم على دراية أن النقاش هو عن طريقة التدين وليس الدين. 

وقد استقر في الوعي الإسلامي السني أنك لا تسأل عن مذهب إمام الصلاة ولا عقيدته أسلفية هي أم أشعرية وهل مذهبه حنبلي أو مالكي صوفيًّا كان أم غيره، وحظر هذا السؤال يوفر الوحدة والاجتماع وينفي الاختلاف والتنافر. 

وقد كسب عالمنا الإسلامي هذه المكاسب من الوحدة والتواصل، فالتراجع عنها ردة ثقافية معيبة، تجاوزنا فيها زمن التمزيقات الشكلية المؤلمة. وإن كان يريد من النقاش التدين المغربي مقصدًا آخر هو الحالة السياسية[9]، فإن السياسة ونظام الحكم هي خمس القصة أو ربعها أو ثلثها، وليس هناك عاقل يقول للمغاربة استوردوا القلق ولا الفوضى ولا الثورة إن كان قد تم الإصلاح وتجاوز الخلل، بل الجواب أن حافظوا على خير ما عندكم وخذوا فضائل غيركم. أما التوجيه للانغلاق فهذا ضرر محض وتقديس للنفس منكوس. فما كان المشرق صافيًا ولا المغرب سالمًا مما يقع في مجتمعات الناس، وإن كان قد ظهر إرهاب في الشرق فتقليد مالك والجنيد السالك لن يحجز فكرًا منحرفًا أن يصل إلى أي مكان.

ثم إن الحفاظ على التطور السياسي والتقدم إليه سلميًّا كما حدث في المغرب على إثر الربيع العربي ما دام قد حدث أو حدث بعضه فإن هذه غنيمة تعمم ولا يغلق عليها في المغرب، وإن حدث ما يفيد من بلد آخر فلا يليق الزعم بأن الخير محلي والشر آفاقي، وكثيرًا ما رأينا هذه الأساليب وسائل تجهيل وإفقار للفكر وتهوين من العقل، فالعقل البشري الحي يأخذ ما ينفعه من أي مكان، فكيف ببني أمته الذين هم له وهو لهم.

انتقد الشيخ في حلقة أسمار وأفكار تسخير المذهب الحنبلي في الجزيرة العربية للسياسة، وقوله هذا حق، ولكن أليست الحالة التي يدعو إليها كانت نتاجًا لضغط سياسي بدأ في المغرب قديمًا منذ زمن ابن تومرت الأشعري الصوفي الموحدي؟ وقد شرح هذا الجانب الشيخ المراكشي بوضوح في رده على الشيخ الريسوني، وكذا ردّ الأستاذ سمير قدوري في الحقلة المذكورة نفسها أن مذهب مالك فرضه الأمير الأندلسي هشام بن الحكم المتوفى سنة 206هـ في الأندلس. 

وبهذا يلزم الشيخ إما أن يقبل أنه يرى الضغط السياسي والإلزام الحكومي بالمذهب هو حق في المغرب والمشرق، أو أن يرفضهما لينسجم خطابه في الحالتين. 

ثم عجبًا لنا كيف نستسلم للخطأ أو القهر إذا كان قديمًا ونرفض الحديث منه، أليس منطق الحالين واحدًا؟ أم إن المصلحة في المهادنة للوضع القائم تجعلنا نؤيد ونطالب بأحدهما وننكر الآخر؟ وقد أعجبني تعليق الأستاذ محمد بن المختار في الحلقة المذكورة بأن هذا الكتاب يصلح أن يكون وصفًا لما كان وليس لما سيكون مستقبلًا، وهي لمحة مهمة ولكن المؤلف يقصد المستقبل بصراحة في الكتاب وفي الأحاديث. 

وعقّب المختار على خطاب الانغلاق بأن أهم مشايخ الطرق الصوفية السائدة في الغرب الإسلامي ليسوا مالكية، فشيخ الطريقة القادرية حنبلي وشيخ الشاذلية شافعي، كما ألمح إلى أن الموقف الذي يروج له الشيخ الريسوني قد يكون انتصارًا من الشيخ نفسه لمذهبه، وزاد الأستاذ الدويري ملاحظًا أن رأي الشيخ الريسوني كان ربما ردة فعل، كما بين في كلامه.

ثم هناك جانب آخر ارتبط بالطرق الصوفية في العصر الحديث، وهو أن الطرق أصبحت صديقة للمستعمر ويوصي بها ويساندها ويراها وسيلة لإخضاع المجتمع الإسلامي له، وهذه من المعلومات العامة لم يعد أحد يجهلها، ولا يصح في زماننا الاحتجاج بأن الصوفية في بعض الأزمنة كانوا يجاهدون الغزاة، فالعبرة بالحال الموجودة وما يجري الان وليس بما كان.

إنني هنا لا أؤيد الطرفين المذهبي ولا غير المذهبي، وأطالب كغيري بالعودة إلى الكتاب والسنة واحترام الاجتهاد المطلق أو المذهبي حين يصح من الأهل له دون أن يكون مقهورًا حكوميًّا ولا جماهيريًّا ولا يختار مراعاة لمصلحة فردية ولا منفعة حزبية، بل لأن الاجتهاد الحر ساقه لهذا عن علم وعدل.

وإذا كان الجابري قد سن التقسيم والتفريق بين العقل المشرقي والعقل المغربي لأسباب تبدو لي أنها أحاطت بحياته الشخصية[10] ثم حاول أن يفلسفها لاحقًا، فإن هذا الداء يجب ألا يقع فيه العقلاء فضلًا عن ذوي التصور الإسلامي. ثم إن الظرف الشخصي الذي توسع عند الجابري سبق له أن شرحه في مذكراته لاحقًا بعد حواره مع حسن حنفي، وقد بدأ من أنه أثناء وجوده في دمشق في عيادة طبيب أسنان تعلق قلبه بممرضة كانت في العيادة، وخطبها ليتزوجها فرفضته ثم قالت له: إن ذلك مستحيل، فاستغرب هذا الجواب، ولم الاستحالة؟ فبينت له أنها مسيحية وهو مسلم ولن يتم بينهما زواج.

هذه الحادثة الغائرة في مشاعر الجابري بنى عليها أشياء من تفكيره في الفوارق بين المشرق والمغرب، وأعجب منه كيف يجعل رموز المشرق روحانيين وصوفية وخرافيين ورموز المغرب عقلانيين، وهذه قسمة ضيزى وغير واقعية، فنحن نرى في زماننا تهمة المغرب بالصوفية والمشرق بالوهابية، والمعتزلة مشارقة والتيجانية وغيرها من الطرق الصوفية الكبرى مغاربية، والتشيع مشرقي والتصوف مغربي، ولهذا فالذي يبدو لي أن هذا التمييز محض خرافة؛ ذلك أن التربية والتعليم في أي مجتمع هي من تحدد غلبة عقلانيته أو غلبة خرافيته، ومثل هذا حصل قديمًا مع ابن خلدون حين رأى في سكان شمال أوروبا عقولًا جامدة لا أمل أن تفهم لكون البرد قد بلد رؤوسهم. وكذا غير ذلك من الشعوب التي قضى عليهم كتاب ومفكرون بقوانين صارمة نهائية ظالمة في المدح أو القدح، فالتربية وما يسود في بيئة الإنسان هي ما تحدد توجه الإنسان وفكره.

وهذا موطن أساس لمخالفة الشيخ فيما ذهب إليه؛ فالتجديد المعاصر الذي اعترف به الريسوني في مكان آخر رائده في العصر الحديث هو ابن تيمية، كما قال عنه أيضًا إنه مجدد القرن الثامن الهجري، ويضعه من حيث الأهمية بجانب الأئمة الأربعة[11]، علمًا أنه السلفي خصم الأشاعرة والفلاسفة وغلاة المتصوفة. وابن تيمية الذي يرجع إليه المسلمون في عصرنا الحاضر ويرونه مجدد عصرهم كما يقول الشيخ قد توسع في هذا التجديد ليأخذ من الفقهاء الأربعة ومن غيرهم من المجتهدين. وكذلك الإحياء الإسلامي المعاصر تعددت موارده، بل شعر أغلب المفكرين المسلمين مشرقًا ومغربًا بأن هذا تراثهم تراث واحد يأخذون منه ما يرونه حقًّا أو نافعًا أو مستجيبًا لحاجاتهم، فلماذا الارتكاس إلى التقليد أيًّا كان مشرقيًّا أو مغربيًّا؟ وإذا غاب عن المشارقة فقه مالك فليست هذه فضيلة للمشارقة بل تقصير، وقد كان بعض العلماء يغير مذهبه الفقهي إلى مذهب مجهول في بلده ليغني بلده بفقه إسلامي غائب عن مجتمعه، سوى الأسباب الأخرى التي يتحول لأجلها فقيه عن مذهب إلى آخر بسببه، فإذا قصر المشارقة فلا يبرر ذلك أن ينغلق المغاربة، أو أن يقولوا ما دام مذهبنا غريبًا عندكم فنجعل مذاهبكم غريبة عندنا، فهذا هو الانغلاق العقلي المضر، بل علينا أن نعتبر الإمام مالك وغيره من تراثنا، ونجمعه إلى تراث الجميع فسيفيد ولن يضر بلدًا ولا حركة ولا حكومة، وما كان من تطرف أو داء تلبس بمذهب أو غيره فسوف يظهر عند الجميع والفكر لا يعرف السدود والحواجز إلا في عقول من توهموها.

أما فكرة الانغلاق على قراءة نافع، مع التسليم كما ذكر الريسوني نفسه بأن بقية القراءات السبع والعشر صحيحة تمامًا، فلا تقل خطلًا عن سابقاتها؛ إذ في اختلاف القراءات فقه وغنى فقهي عظيم، فكيف تعرض عن قراءة للقرآن وتحجب فقه القراءات عنها؟ فإن قال إن المقصود صوت القارئ وليس تعدد فقه القراءات فلكل أذن ما تحب وسيكون قوله من الاختزال المخل بالمطلوب.

وإذا كانت الدعوة إلى الاجتهاد والانفتاح على فقه المسلمين في كل مكان وتجديد الحياة والفكر هي مطالب المسلمين في عصرنا، فنعوذ بالله من أن نطالب بفقه منفتح ثم نؤسس للانغلاق ونقبع على فقه منغلق لأبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو لأحمد، بل الحق أن ما كان من مذاهب المسلمين العقدية والفقهية التي سلمت من الغلو والجفاء وسلمت من الجهل والتقليد فهي لنا كلها، وهي مذاهبنا ونتمنى أن يقوم بالاجتهاد في كل علم ومجال من يجيده وينفع به أمته. 

ثم إن الدعوة إلى الانعزال المغربي حرمان فعلي من كل الاجتهاد الذي جرى ويجري في بقية المذاهب، وحرمان من تطور مدارس الحديث والفقه المعاصرة لجميع المذاهب.

وإذا كان الانغلاق بسبب انحراف وتطرف في بعض المدارس، كالتشدد التكفيري أو التساهل الجبري عند بعض المنحرفين المتسلفة، فإن هذا داء قد عم كل المذاهب، وفي فقه مالك ما ينفع لمواجهة الجبرية، وفي سلفية أحمد ما يصون عن غلو التصوف والجبرية أيضًا.

وخاتمة ما أشير إليه هنا هو هل هذه الدعوة من الانعزالية دعوة انغلاق أشبه بالعزلة اللغوية التي تفرضها فرنسا لأتباعها تحت شعار الحفاظ على اللغة الأمازيغية وتعليمها ونشرها؟ أليست الطريقة والنتيجة واحدة؟ فإذا كانت تلك في مجال اللغة فإن دعوة الريسوني لها الآثار نفسها، ولكن الدعوة هي في مجال التدين أو الفقه والسلوك، وإن بدت هذه اختيارات فإن الإلزام كثيرًا ما جاء قبل إلزامات خارجية أو معها.

ثم إنني أرى في بعض التيارات العلمانية بهذا الخصوص في هذه القضية من هم أقل انغلاقًا من دعوة إلى العزلة باسم الدين. 

ومن نماذج ذلك في المغرب العروي الذي رفض الانغلاق والانعزال اللهجي على الدارجة، وألح على بقاء المغرب في بحر اللغة العربية يفيد منها وتفيدها المجتمعات كلها، ولا تنعزل المغرب تحت شعار الدارجة أو الأمازيغية، فإن ذلك في النهاية قتل للمعرفة والتطور اللغوي في المجتمع. 

ومثل ذلك الجابري في ترويجه للسلفية المناضلة للاستعمار وهو ضد التصوف التي استغلته فرنسا، فليت الشيخ الريسوني قبل بالاتساع الأفقي للمذاهب كما اتسع أفق الجابري للعالم العربي، فإني أرى هذا الأخير بالرغم من علمانيته أقرب باتساع نظريته إلى التصور الإسلامي من الشيخ الريسوني في تقليديته وانغلاقه. ثم إن كانت لأي عالم أو فقيه أو مفكر ملاحظات على مدرسة فقهية فإن دوره سيكون مشكورًا ومؤثرًا على مستوى المذاهب الأخرى في كل مكان.

ختامًا

إن الفكر الانعزالي هذا لا يضر إلا من يقتنع به ومن يعتمده وينفذه. فهذا الانغلاق لا يمكن أن يدعو إليه مجدد ولا أن تدعو إليه حركة تجديدية ولا أن تقره، كما أنه لن يضر أي مسلم مشرقيًّا كان أو مغربيًّا يفتح ذهنه لهذا التعدد الغني المغني في كل الجوانب، بل إنما نكسب ونجدد بالتعرف والمقارنة وترقية الاجتهاد المشترك لكل هذه المذاهب والمدارس التي صحت علمًا وصدقت في بحثها عن الحق، كما نشكره أن أعاد وكرر النقاش في هذه الأمور لنتبين الحق في هذه الرؤية من غيره.


[1] هذا المقال تم إرساله للناشر يوم الأحد 14\ 8\ 2022 قبل ظهور الضجة حول تصريحات الريسوني الأخيرة وذلك إثر مشاهدتي لمقاطع بصرية له على اليوتيوب تأكيدية للفكرة المطروحة هنا.

[2] من الدقيقة الثالثة والثلاثين إلى السادسة والثلاثين في:


https://www.youtube.com/watch?v=8a6A0FCiyOA&t=30s

[3] محمد عليلو، حركة التوحيد والإصلاح المغربية بقيادة عبد الرحيم الشيخي: تأملات في الحصيلة، أواصر الثقافية، 3 أغسطس، 2022، في:

https://bit.ly/3JRe4Hy

[4] النور والديجور، نوفل، بيروت، 1973، ص.184

[5] أورده ابن باز عن مالك في جوابه عن إحدى المسائل.

[6] ترتيب المدارك، ج. 1 ص 170-171.

[7] المرجع نفسه، ج. 1 ص 172.

[8] المرجع نفسه، ج. 1 ص 170.

[9] كمال القصير، “التدين المغربي: خطورة التفسيرات الباردة”، القدس العربي، 17 يونيو 2022.

[10] سرد مأساته تلك في كتابه حفريات في الذاكرة من بعيد (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية).

[11] https://www.youtube.com/watch?v=rhWdkhGXRt4






























ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق