الجنرال والوطن في متاهة
وائل قنديل
كانوا يعيبون على الجمعيات الأهلية، وبشكل خاص تلك التي يقال إنها على علاقة بجماعة الإخوان المسلمين، أنها تخلط الزيت والسكر بالسياسة، وتمزج بين أشكال المساندة الاجتماعية للفئات الأكثر احتياجًا والممارسة السياسية التي تتخذ شكلًا دعويًا.
الآن، يتنافس الجيش والشرطة في مصر على ميراث الأخونة، من خلال التغول على أنشطة اجتماعية ذات طبيعة اقتصادية كانت دومًا وثيقة الارتباط بالمجتمع المدني، والعمل الأهلي، فتنطلق حملات ترويجية ضخمة للإعلان عن قيام المؤسستين الأمنية والعسكرية بطرح السلع في الأسواق بأسعار منافسة للقطاعين العام والخاص.
من المفترض، نظريًا وفعليًا، أن وظيفة النظام السياسي، والحكومة هي ذراعه التنفيذية، هي توفير الخدمات والسلع الأساسية للمواطن، دافع الضرائب والعنصر الأول في العملات الإنتاجية، لكن الحاصل أن أجهزة النظام تسلك بعقلية التاجر الشاطر، الباحث عن الأرباح السياسية والاقتصادية، وليس المدير، فيتحول المصري هنا من مواطن له حقوق أساسية يضمنها الدستور، إلى زبون مستهدف من قبل محتكري السوق، الذين هم أجهزة الدولة الأمنية.
في سياق سعيها الدؤوب للسطو على أدوار المجتمع المدني لم تكتف الأجهزة الأمنية للسلطة باعتقال كبار المستثمرين الوطنيين ومصادرة مؤسساتهم الاقتصادية والسيطرة عليها، بل راحت تمارس هذه الأنشطة بنفسها، فتعلن وزارة الداخلية، مثلًا، عن استمرار عروضها التسويقية السنوية لتوفير مستلزمات المدارس بتخفيضات تصل إلى 30% فتنشر الصحف خبرًا موحدًا يقول "تتخذ وزارة الداخلية كافة الإجراءات، لإطلاق فعاليات المرحلة الثالثة والعشرين من مبادرة كلنا واحد تحت رعاية رئيس الجمهورية اعتبارا من اليوم الخميس، ولمدة شهر، وذلك بمناسبة قرب بداية العام الدراسي الجديد 2022/2023 لتوفير كافة المتطلبات المدرسية "أدوات مدرسية – زي دراسي – أحذية"، بأسعار مخفضة تصل إلى 30%، وذلك بالتنسيق مع مختلف قطاعات الوزارة ومديريات الأمن على مستوى الجمهورية، حيث تتوافر السلع بجودة عالية وأسعار مخفضة".
هذا بالضبط، ما كانت تقوم به جمعيات العمل الأهلي في سنوات سابقة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، لتوفير مظلة مساعدة اجتماعية للمضارين من تخلي الدولة عن أدوارها الواجبة، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وهو الدور الذي خفف فعلًا من وطأة أزمات المعيشة، ومنح هذه الجمعيات مساحات من القبول الشعبي، انعكس على نتائج أول انتخابات سليمة أجريت في البلاد، وهو الأمر الذي دفع النظام الأمني في مصر إلى ذبح هذه الجمعيات، ومصادرة أموالها والهيمنة على ميراثها الاجتماعي.
لا تسأل هنا عن وزارة التموين أو الشؤون الاجتماعية، فما هي إلا يافطات ديكورية لا عمل لها، بينما النشاط كله تمارسه مؤسسات الجيش والمخابرات والشرطة، في إطار سعيها للسيطرة على وعي المواطن وولائه المطلق لها، وإخضاعه لنفوذها الاقتصادي، جنبًا إلى جنب جبروتها الأمني.
في العام 2016 تسابقت الصحف الخاضعة للسطوة الأمنية لنشر خبر احتفالي بدخول وزارة الداخلية، على خط المشاركة في حملة محاربة غلاء الأسعار، من خلال افتتاح منافذ بيع السلع الأساسيه «أمان» بأسعار مخفضة، على غرار منافذ القوات المسلحة والمخابرات العامة، لبيع اللحوم والفراخ والبقوليات بأقل من أسعارها في السوق المحلي.
جنون المنافسة على احتكار السوق يزداد اشتعالًا في الأوقات الذي يستشعر فيه النظام تململًا من المواطن من الفقر والغلاء الناتجين عن فشل وفساد ظاهرين للأعمى، فيكون الحل الساذج، وفق التفكير الأمني، هو أنه بالإمكان هدهدة التململ ببعض العروض التسويقية المخفضة، تظهر من خلالها أجهزة القمع الأمني في صورة فاعل الخير البار بمجتمعه.
يكشف كل ذلك عن حالة صارخة من التحايل والخداع الذي تمارسه كل الأطراف على بعضها البعض، بما يشي بما يمكن وصفه بتعطل وسائل الإدراك السليم لديها، فلا النظام عاد يفهم الشعب، ولا المعارضة تملك اللغة اللازمة للتعامل مع هذا الشعب، بحيث يفكر فيها بديلًا معقولًا يعفيه من كل ذلك، ولا الشعب أصبح معنيا بفهم ما يريده منه النظام أو المعارضة، بعد أن سمع مئات المرات من السلطة عن مواعيد الانفراجة والخروج من الأزمة، كما سمع عشرات المرات، خلال العامين الماضيين، مما تسمي نفسها معارضة مواعيد محددة باليوم والشهر لسقوط النظام، وقدوم التغيير.
حالة من التيه والهذيان في الخطاب والتلعثم في الإجراءات والعجز الكامل عن إبداع معادلات سياسية واجتماعية جديدة، يمكن التفاؤل معها بإمكانية حصول تغيير حقيقي في البنية السياسية لوطن تيبست أطرافه، وأصيب بشلل دماغي مرعب، في انتظار المجهول.
ليس وحده "الجنرال في متاهة" والاقتباس من عنوان رواية شهيرة لماركيز، بل الجميع في متاهة، لا أحد يعرف طريقًا للخروج منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق