دعاة السلطان والموقف من إيران !
نجحت الأنظمة المستبدة في تكوين أذرع دينية وفرق دعوية، تستخدمها في السيطرة على الجماهير من ناحية شرعية، ليس حبا في الدين ولا إذعانا لأحكام الشريعة، وإنما لأن المزاج العام عند عامة المسلمين يتأثر بالخطاب الديني، ويصعب عليه الخروج عن مظلة الشريعة، حتى لو بقي المقصر مقصرا في حدود الله وتكاليفه، واعتمدت هذه الأنظمة قديمًا على الطرق الصوفية، التي استثنت خمر السلطة من بين المسكرات، وكرعت فيها حتى ثملت، لكن الخطاب الصوفي بهت وخفت، ولم يصبح له كبير تأثير إلا على المجاذيب والدراويش، ومن هنا ظهرت السلفية الأمنية التي تسبح بحمد الحاكم، ولا ترى له نقيصة، وإن زنا وإن سرق، ولا يخلعون يدهم من يد الحاكم أو يسخطون عليه إلا إذا كان عادلا، أو مختارا ومنتخبا من الشعب.
ومع موجة التطبيع المجاني مع الاحتلال الصهيوني، وهرولة الجميع للمبيت تحت لحاف إسرائيل، وبذل كل غال لنيل رضا أبناء العم “سام”، كان لابد من توطئة دينية وتهيئة شعبية، ومن أجل هذه اللحظات وأمثالها أُعدت كتائب من دعاة البلاط وعلماء السلطان، الذين بدؤوا بسعي حثيث وتمهيد خبيث للحديث عن عداوة الروافض لأهل الإسلام، وصكوا لذلك مصطلح “الشيعة أخطر علينا من اليهود والنصارى” في مخالفة واضحة لقول الله تعالى: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ”.
آخر الزمان
وليس معنى هذا أني أقلل من تاريخ عداوة الرافضة لعامة الأمة قديمًا وحديثا، وسيطرتها على أربعة عواصم عربية حتى الآن خير مثال. لقد وصلت شرعنة التطبيع مع المحتل وأنه طبيعة المرحلة إلى الاستدلال على ذلك بنبوءة من حديث رواه مخبر الحبشي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: “ستصالحون الرومَ صُلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوًّا من ورائهم فتَسلَمون وتَغنمون، ثمَّ تنزلون بمَرج ذي تلول فيقوم رجلٌ من الروم فيَرفع الصليبَ، ويقول: غَلَب الصليبُ، فيقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيَقتله، فيغدر القومُ وتكون الملاحِم، فيَجتمعون لكم فيأتونكم في ثَمانين غاية مع كلِّ غاية عشرة آلاف” [صحيح الجامع/ 3612].
الحديث الشريف يذكر طرفا من أحداث آخر الزمان، وأن صلحا وأمانا سيكونان بين المسلمين والروم، (فتغزون أنتم وهم) فيه دلالَة على أن حِلف المسلمين والروم يَذهب لهذا العدوِّ ويواجهه في مكانِه، ونتيجةُ هذه المعركة مَحسومة، وهي انتِصار حِلف المسلمين والرُّوم ضدَّ هذا العدوِّ الذي حشَدوا له، (فتَسلَمون) فيه دلالة على أنَّه لا يَلحق بجنود هذا الحِلف أذًى يُذكر، وفيه دلالة على قِصَر أمَد المواجهة وانتهاءِ هذه الحَرب بشكلٍ سريعٍ، (وتَغنمون) فيه دلالة على أنَّ هذا العدوَّ الذي سيغزوه حِلفُ المسلمين والروم يملك ثروات وتؤخذ منه غنائم، (ثم تَنزلون بمرجٍ ذي تلول) دلالة على أنَّه بعد تَحقيق الانتصار تَنزل الجيوشُ بأرضٍ فسِيحة ذات نبَات منتشِر على مساحةٍ كبيرة.
(فيقوم رجلٌ من الرُّوم فيَرفع الصليبَ، ويقول: غلَب الصليبُ) إشارة إلى أنَّها حرب صليبيَّة في باطِنها ضد هذا العدو، (فيقوم إليه رجلٌ من المسلمين فيَقتله) مَقتل هذا المتحدِّث الذي سيقول: غلبَ الصَّليب (فيَغدر القومُ وتكون الملاحِم) أي مع الروم وفيه دلالة على بَدء حروب متتالِية وليسَت حربًا واحدة، (فيَجتمعون لكم، فيأتونكم في ثمانين غَاية، مع كلِّ غاية عشرة آلاف) أي: سيقاتلون أهلَ الإسلام بثمانمئة ألف مقاتِل تحت ثمانين رايَة، كلُّها للروم خالِصة.
قال الإمام الطاهر بن عاشور صاحب تفسير التحرير والتنوير: “والروم: اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا”.
وفي هذا أبلغ الرد على من أراد لي أعناق النصوص، وتحريف الكلم عن مواضعه، بإدخال اليهود تحت مسمى “الروم” ليبرر التحالف مع الأوروبيين والصهاينة، باعتبارهم اليهود والنصارى في مواجهة الروافض!.
والقاعدة الأصولية المشهورة تقول إن الألفاظ التي لم يعطها الشرع معنى مخصوصا، تفسر بعرف العرب العام المشتهر أثناء نزول الوحي، لأن الوحي نزل بلغتهم وخاطبهم بما تعارفوا عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “الواجب أن تعرف اللغة والعادة، والعرف الذي نزل في القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ؛ فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك”. مجموع الفتاوى (7/ 106).
ولا يخفى أن أخبار آخر الزمان من الغيب الذي أطلع الله رسله على ما شاء منه، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ببعض ما يكون فيه من الملاحم والفتن، وهذا الحديث من جملتها، والواجب علينا الإيمان به، وبما جاء فيه، دون إفراط في فهمه، أو شطط في تأويله، حسب أهواء الساسة، وتجاذبات السياسة.
هذا المشهد من أعقد المشاهد وأعصاها على الحل، حيث يريد السلطان وعلماؤه، إقناع الناس بعكس ما تراه أعينهم، فيسوقون أهمية التحالف مع الروم لعمل تكتل ضد أطماع الفرس، والحقيقة أن الروم سلمت العراق على طبق من ذهب لإيران، وتغض القوى الغربية الكبرى الطرف عن ممارساتها في اليمن، وتسمح لها بالسيطرة على ما تحب من سوريا ولبنان، أما علاقة اليهودية بالصفوية فقديمة ومتجذرة، ولا تغرنكم الهتافات الفارغة، فإن من أحاديث آخر الزمان أيضا ما ذكره رسول الله ﷺ من أن المسيح الدجال “يتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان أو أصفهان”، وأصبهان إحدى مدن إيران، وفي رواية مسلم: “يتبعه سبعون ألفا عليهم الطيالسة”.
على عقلاء هذه الأمة الرباط في ساحة معركة الوعي، وفتح أعين المسلمين على أعدائهم الظاهرين والمستترين، لأن الأمة أمامها فرصة الانعتاق من التبعية الغربية، في ظل متغيرات العالم الجديد، وألا يستبدلوا كفيلا بكفيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق