كم يبلغ سعر متر الحرية اليوم؟
وائل قنديل
"إن شعبًا بأكمله كان يتصوّر أنه، عن طريق الثورة، قد سرّع تطوره، يجد نفسه فجأة يرجع القهقرى إلى عصر أنقرض".
تصلح هذه الجملة للفيلسوف الألماني، كارل ماركس، للاستخدام في وصف حالة الحرية في مصر، إذ تحوّلت من قيمة إنسانية عظيمة وحق طبيعي من حقوق البشر، يستحق النضال من أجله، إلى سلعةٍ معروضة على الأرفف في أسواق السياسة العالمية، أو يمكنك القول إنها تحوّلت إلى عملة مالية للتداول والتبادل في البورصة.
الواقع يقول إن الحرية باتت مما يتهادى به الحكام، أكثر من كونها قيمةً يحرص على وجودها الجميع، والأخطر من ذلك أن يستسلم طالبوها إلى هذا المنطق التجاري البحت، بحيث صاروا مدركين أن الطريق الوحيد لنيل الحرية يمرّ عبر تفاهمات الزعماء والقادة، أو من خلال التعامل بالأوراق المالية، قبل السياسية.
بالأمس، كانت بعض الأخبار السارة في مصر عن بعض الحرية لبعض المستحقّين لها، من هذه الأخبار ما اكتمل، مثل الإفراج عن الناشط في حركة الاشتراكيين الثوريبن، المحامي هيثم محمدين، والإعلامي في قناة الجزيرة أحمد النجدي، وبعضها لم يكتمل، مثل الإعلان عن إخلاء سبيل ناشط حركة 6 أبريل محمد عادل، ثم إعادة حبسه.
جاء إطلاق سراح هيثم محمدين، ضمن 45 مواطنًا آخرين، مع الإعلان عن تقرير أميركي يقول "إن إدارة الرئيس جو بايدن قرّرت حجب 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية الأجنبية عن مصر بسبب عدم وفائها بشروط تتعلق بحقوق الإنسان، لكنها سمحت بتمرير بعض الأموال بسبب جزمها أن القاهرة أحرزت تقدّماً على صعيد الاعتقالات السياسية"، كما نشر"العربي الجديد" أمس. فيما جاء الإعلان عن إخلاء سبيل الإعلامي في "الجزيرة"، مع تسريبات عن الإفراج عن بقية المحبوسين من العاملين بالشبكة، قبل أن تحط طائرة عبد الفتاح السيسي على أرض مطار القاهرة، قادمًا من زيارة هي الأولى للدوحة، شهدت توقيع اتفاقيات وصفقات اقتصادية عديدة.
مع التسليم بأن الحرية قيمة وغاية نبيلة تستحق الوصول إليها بمختلف السبل والوسائل، ومع التأكيد على أن كل الأسرى العالقين في السجون مستحقّون لهذه الحرية، والاحتفال بخروجهم، فإن ما يحدث يترك شعورًا مقبضًا بأن هذه الحرية المعطاة، أو المهداة، تبقى مهدّدة، إذ يمكن سلبها من أصحابها مرّة أخرى، حال تعطّل الصفقات وتوقف التفاهمات، وتوتر العلاقات بين الأطراف الفاعلة.
هنا تتخذ قيمة الحرية في مصر شكلًا من أشكال البروتوكولات التجارية بين الدول، على نحو لا يبتعد كثيرًا عما هو حاصل الآن بين أوروبا، العطشى للغاز الطبيعي، وروسيا التي تبتز الأوروبيين والعالم بمخزونها الهائل من الغاز، في عمليةٍ قاتلةٍ لعضّ الأصابع على وقع الصراع في أوكرانيا.
في هذه الحالة، يصبح لا فرق بين الحرية، بوصفها قيمة وجودية مقدّسة، والغاز، بوصفه سلعة للبيع والشراء في أسواق الطاقة .. لحظة بائسة في مسيرة التطوّر البشري، ترتدّ بالكل إلى عصور انقرضت، وتجعل الإنسان أرخص من سعر المتر المكعب من الغاز الطبيعي المُسال، وتنظر إلى السجناء السياسيين باعتبارهم مجموعة من الرهائن، لا حرية لهم إلا بالحصول على الفدية المطلوبة. وكما قلت سابقًا، إننا بقدر ما نفرح لتحرير رهينةٍ من الرهائن، فإننا نأسف لما انحدرت إليه الحرية، من قيمةٍ مطلقة وحق أصيل لكل إنسان خلقه الله، إلى سلعةٍ تُباع وتشترى، وتخضع لقوانين السوق بمزايداتها ومناقصاتها وأدواتها السرّية والعلنية، حتى باتت حياة المواطن مرهونةً بحجم الضغوط التي يمارسها طرفٌ، دولي أو إقليمي، على السجّان، وأيضًا حجم استجابة السجّان لما يطلبه الطرف الذي تهمّه حرية شخصٍ أو مجموعة أشخاص.
أخشى، مع الإذعان لهذا المنطق الجديد، أن نجد سهم الحرية على لوحة أسعار البورصة العالمية، ويصبح سؤال: كم سعر متر الحرية اليوم مقدّمًا على السؤال عن سعر برميل النفط ومتر الغاز الطبيعي وقيمة العملات العالمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق