الجمعة، 9 سبتمبر 2022

هلْ دَمّرَتْ الثوراتُ بلادَنا؟


هلْ دَمّرَتْ الثوراتُ بلادَنا؟

د. عطية عدلان 

(مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول)

ماذا جَنَتْ بلادُنا من الثورات؟ وما الذي حققته هذه الثورات للشعوب والأوطان؟ أليس من العقل والعدل أن نقول: إنّ بلادنا لم تَجْنِ من كل تلك الثورات إلا الدمار وخراب الديار؟ أروني بلدًا واحدا مما سمي ب(بلاد الربيع العربي) قد تحقق له ما كانت الثورات تصبو إليه وتهتف به من حريات وحقوق وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، ها هي مصر قد تضاعفت فيها إجراءاتُ القمع والقهر، وتضاعفت معها أعدادُ السجون والمعتقلات وأعدادُ سجناءِ الرأي ومعتقلي الخلاف السياسي، وها هي تونس قد استعادت “بن علي” في جلدة “بن سعيد”، أمّا ليبيا وسوريا واليمن فقد ركبت قطار التقسيم الذي أوشك أن يبلغ (محطته) الأخيرة، بعد قتل وسحل وتشريد الملايين من المسلمين، وعمّا قريب ستلحق بها السودان، بل ومصر أرض الكنانة؛ فما وجه التمجيد لتلك النكبات التي سميناها ثورات؟!

أسئلة مشروعة لا ممنوعة، والإجابة عنها ضرورة حضارية لا رفاهة فكرية، وفريضة شرعية لا نافلة كلامية، وواجب عينيّ عَلَيَّ وعلى أمثالي ممن تصدوا لتمجيد الثورات ونفض الريب عن حماها، وهي مسئولية شرعية وأمانة علمية، فإنْ كانت الثورات شرًّا وجورًا؛ وجب النهيُ والنَّأْيُ عنها، وإنْ كانت خيرا وبِرًّا؛ وجب البيان الذي يجلي الحقيقة، ويُسَكِّنُ ثائرة النفوس، ويجيب على جميع التساؤلات المطروحة على الساحة؛ فلا فائدة في التَّهَرُّبِ ولا مناص من المواجهة.

بداية أعترف:
إنّ (الأحداث في مجموعها) قد أثمرت ذلك كله، بل إنّ ما خَفِيَ – مما لا يعلمه إلا المتابعون للأحداث والمحللون للأوضاع والمطَّلِعون على بواطن الأمور – أعظم بكثير مما ذُكِرَ! فبلادنا تتعرض لتجريف وتجفيف، تجريفٍ لأصول الثروات ولأصول الموارد الطبيعية والبشرية، وتجفيفٍ لمنابع الدين ومصادر الوعي والنضج والتربية الأخلاقية، تتعرض بلادُ الربيع العربي بل وبلادُ العرب كافّة لموجات عاتية من التغريب والمسخ وطمس الهوية، كما أنّ مخططات التقسيم الموضوعة سلفًا يمضي تنفيذها بقوة وسرعة لا يدركها – مع المتابعين من أهل الفكر والنظر – إلا العملاء الشركاء الضالعين في مشروعات التقسيم.

لَكِنْ: ما الذي يُنْسَبُ إليه تحديدًا كل هذا الخراب؟ إنّ الذي أثمر هذا كله هو (الأحداث في مجموعها)، هو الجملة المتسلسلة المتصلة، والتي بدأت بالاحتلال الأجنبي ومَرَّتْ بالاحتلال الثاني الأشد قسوة وضرواة، أعني الاحتلالَ بالوكالة، ذلك الذي استطاع المحتلُّ من خلاله أنّ يغتال كل غايات وأهداف حركات التحرير التي انطلقت ضده في جميع أقطار العالم العربيّ والإسلاميّ، واستطاع كذلك من خلاله أن يُؤَمِّنَ الخراجَ ومعه المصالح للدول الكبرى، ويُؤَمِّنَ معهما الأهداف الاستعمارية الكبرى، وعلى رأسها مَحْقُ وسَحْقُ كرامة الشعوب المسلمة، وتغييبُها في ظلمات الجهل والفقر والمرض، وانتهت – أي الأحداث في مجموعها – بالثورات وما تلاها من انقلاباتٍ على الثورات، انتهت بخروج الجيوش والأنظمة المجرمة على الشعوب الثائرة، انتهت بتلك الثورات التي لم يكن لها من سبب إلا استبداد وظلم وفساد الأنظمة، وبتلك الانقلابات التي لم تكن سوى امتدادا واستئنافا لاستبداد وظلم وفساد الأنظمة ذاتها.

إنّ الشعوب لم تأثم بثورتها ولم تذنب، ولا تتحمل ثوراتُ الشعوب العربيّة مسئوليةَ ما جرى وما يجري مهما بلغ وتفحش، وإنَّما يتحملها فقط الذين حَمَلُوا الناس باستبدادهم وظلمهم وفسادهم على أن يثوروا، ثم حملوهم بقمعهم للثورات وإجرامهم في حق الثائرين المغدورين على أن يتحولوا في ثورتهم من نمط مسالم إلى نمط غير مسالم، وإذا كان هناك من يتحمل المسئولية مع هؤلاء المجرمين المستبدين الظالمين الفاسدين فهم العلماء والفقهاء والدعاة والمفكرون، أي كبار الأمّة الذين تأخروا عن دورهم؛ حتى ارتجل الشباب ما استطاعوه من الوسائل، بغير رؤية واضحة ولا مشروع بَيِّن.

إنّ الثورة طوفان هائج، وبركان ثائر، إنّها لا إراديَّةٌ – على الأغلب – في اندفاعتها الأولى، لا تستطيع أن تقول إنّها هي الفاعل، بل لا تكاد تفرق هنا بين الفاعل والمفعول، فمنشأ الثورات ما تمارسه الأنظمة من عسف وجور وفساد واستبداد، والمستهدف بالثورات هو الأنظمة ذاتها التي تمارس العسف والجور والفساد والاستبداد؛ ومن ثمّ فإنّ ما خلفته من خراب ودمار إنّما يتعلق بأعناق هؤلاء المجرمين، فإنْ وَسَّعْنا دائرةَ الاتهام والإدانة أَشَرْنا بطرف البنان إلى الكبار، الذين يجب عليهم أن يضعوا للأمة مشروعها وفق رؤية نابعة من شريعة الله، وأن يكون لديهم استشراف وتخطيط مسبق؛ لكي يملكوا زمام المبادرة، ويقوموا بتوجيه طوفان الثورة الهائج وبركانها الثائر بما يستأصل شأفة الإجرام، ويمهد الأرض للصلاح والإصلاح.

وعلى الرغم من تأكيدنا على وجوب تقليص المفاسد في أضيق دائرة، فإنّنا لا نملك أن نُقَدِّم ضمانة للسلامة العامّة، ومن ذا يستطيع أن يجنب البلاد في مصر – مثلا – مَغَبَّةَ انطلاق ثورة جياع تجتاح العمران البشريّ فيها إذا أصرّ النظام على المضيّ في سياسة التجويع والتركيع التي يمارسها ضد شعب ذاق مرّةً طعم الحرية واستنشق يومًا عبق الكرامة؛ من ذا الذي يملك يومها أن يضع حدا لما يمكن أن يحدث؟ كل الذي نملكه جميعا – ويملكه الكبار منّا على وجه الخصوص – هو أن توضع الخطط – والخطط البديلة – المبنية على دراسة واقعية واستشراف دقيق؛ بقصد توجيه الْحِراب الطائشة إلى جهة واحدة، إلى رأس النظام وما حوله من دوائر الإجرام، مع محاولة تسكين الثور الهائج ووضع الخطام في أنفه وسوقه إلى دولاب الريّ والسقي؛ لتنبت الأرض بعد قفرها وفقرها، وتهتز خضرا بعد جفافها وجدبها.

أعلم أنّ الآلام الجسام قد تكون مبررًا ومسوغًا للحنين إلى الماضي، لكنّنا إذْ نَحِنُّ للماضي ننسى أنّه هو الذي صنع الحاضر، ونغفل عن حقيقة ظاهرة وبادية، وهي أنّ مبارك وبن علي وبشار والقذافي وأضرابهم هم الذين وضعوا بلادنا على رأس المنزلق ودفعوها بكل قوة لتنحدر إلى الهاوية، فَحَنِيْنُاَ إلى الماضي بمثابة النظر إلى النقطة التي انحدرنا منها دون عاصم من الانزلاق، فالثناء إِذَنْ على عهد مبارك والقذافي والأسد وصدام وغيرهم باطلٌ مُتَخَفٍ وخطرٌ يتوارى خلف الأمانيّ الكاذبة والذكريات الهائمة.

فما أَذْنَبَتْ الشعوبُ بثورتها ولا أَثِمَتْ بطلبها للحق؛ لأنّها لم تخرج على أئمة عدل ولا حتى على حكام منحرفين، وإنّما ثارت وخرجت على الاحتلال بالوكالة، ولو ظللنا بهذا المنهج المنحرف نلقي باللائمة على كل طالب حقّ فسوف ينتهي بنا هذا الخرف إلى إدانة الإسلام نفسه؛ إِذْ سلك سبيل الجهاد لإخراج العباد من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد، ولو طَرَدْنَا القاعدة التي يمضي عليها هؤلاء فلسوف يأتي اليوم الذي نلوم فيه الصحابة على خروجهم من المدينة وقتالهم أهل الردة وفتحهم لفارس والروم؛ لكون تلك المعارك أدت إلى قتل كثير من العرب!

إنني لا أختلف قيد شعرة ولا وزن ذرة مع من ينعي مصاب سوريا وليبيا واليمن والسودان، وإنَّ أخوف ما أخافه وأخشى ما أخشاه أن يستمر الوضع على ما هو عليه من الهوس الفكري، لدى الكثيرين ممن يتصدون لتوجيه الشباب؛ حتى تحترق المنطقة برمتها، ولكن مع ذلك فليس من العقل ولا من العدل أن نجلد الضحية ونبرئ السفاح، فالأنظمة استبدت بالحكم، ومارست القمع والظلم، والنظام العالمي كان لها عوناً وظهيراً ومدداً ونصيراً، فلما ثارت الشعوب – وكان من الطبيعيّ أن تثور – قوبلت من الأنظمة ببالغ القسوة ومن المجتمع الدولي ببالغ المكر والتآمر، فوقع ما وقع كنتيجة حتمية لهذين الأمرين.

لا يُسأل عمَّا وقع للشعوب من إبادة وعمَّا وقع للمجاهدين والثوار من مجازر إلا الأنظمة، ومِنْ ورائها النظام العالميِّ، أمَّا التكفير وهوس التفجير فهو صنيعة العدو الذي يعمل بارتياح في غيبة الكبار، فإذا أردت أن توجه اللوم فدونك علماء الأمّة ودعاتها ورجال الفكر والسياسة وقادة الجماعات والأحزاب؛ ففيهم فجاهد بلسانك وبنانك، فهم باللوم أولى بالتقريع أجدى.

ولا تنس حقيقتين ستبقيان على مدى الدهر تستمدان قوتهما ورسوخهما من معطيات الشرع والواقع معاً، الأولى:
أنَّ الجهاد سبيل الأمَّة في دفع العدوان وفي بلوغ العزّ والتمكين، الثانية: أنَّ الصراع بين الحق والباطل لا يتوقف إلى يوم الدين؛ ومن ثم لم يعرف الناس ثورة حسمت بغير القوة، ولا ثورة حسمت من أول جولة، وها هو التاريخ ماثل بين أيديكم، فاقرأوا عن الثورة الانجليزية التي تعد أم الثورات في العصر الحديث، وعمّا تخللها من حروب أهلية، وعمّن ركبوا ظهور الثورات زمنا من أمثار كرومويل ونابلييون!

وأخيراً أُذَكِّرُ بما لا أمَلُّ تكراره، وهو أنَّ الخطاب الذي يدعو للاستكانة ويلعن الجهاد؛ يُسْهم بقدر كبير في نمو الظاهرة المخيفة والمزعجة وهي ظاهرة الهجرة إلى الفكر الداعشي؛ فالخطأ لا يعالج بالخطأ، والانحراف لا يمحى بانحراف مضاد، وإنما يعالج الخطأ ويمحى الانحراف بتقديم الحق للناس علما وعملا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق