الخميس، 1 سبتمبر 2022

أهمية العقيدة في ظلال القرآن

أهمية العقيدة في ظلال القرآن

الذي يقرأ في “في ظلال القرآن” لا يحتاج إلى كبير عناء ليلحظ المساحة الهائلة التي شغلتها العقيدة الإسلامية ومباحثها في ثنايا هذا التفسير، فقد كان منطق سيد قطب في فهم القرآن على أنه مسوق لغاية واحدة عظيمة، وهي: 

تقرير الألوهية والربوبية والقوامة والحاكمية في حياة البشر، بل إن هذه الحقيقة كانت مدار الرّسالات السماوية كافّة، لهذا جاء الظلال حافلاً بقضايا الاعتقاد.

العقيدة هي الموضوع الرئيسي للقرآن كله

يقول سيد قطب في مقدمة تفسير سورة يونس: ” والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة، فتعريف الألوهية الحقة، وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية، وتعريف العبودية وحدودها… والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق… هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله، وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها”1.

وهذا المنطق له ما يبرره، فقد كانت أغلب سور القرآن العظيم من القرآن المكي، والقرآن المكي على المشهور هو: ما نزل قبل الهجرة، وهذه الفترة الزمنية -المكية-من حياة الدعوة أكثر ما كانت تعني به العقائد. فضلا عن أن القرآن المدني لم يخلو من ذكر العقيدة، بل كان يذكرها في مناسبات شتى.

وقد كانت نظرة سيد للقرآن المكي أعمق وأوسع من نظرة علماء كثيرين اعتقدوا أن فوائد معرفة المكي والمدني منحصرة في معرفة الناسخ والمنسوخ، وتاريخ التشريع، وحفظ القرآن، فهو يرى أن موضوع القرآن المكي الذي عالج العقيدة على امتداد ثلاثة عشر عاما كاملة دون تجاوزها إلى شيء من تفصيلات النظام والشريعة، ظاهرة كبيرة يجب فهمها بأبعادها الحقيقية2.

ويمكن للباحث أن يخلص إلى أن أهمية العقيدة من خلال القرآن المكي في “ظلال القرآن” تتلخص في أمرين:

الأول: حاجة الإنسان الفطرية للعقيدة

تنبع أهمية العقيدة من كونها حاجة حيوية للإنسان كحاجته إلى الطعام والشراب، لأنها تلبي دوافعه الفطرية في معرفة سر وجوده ووجود الكون والحياة من حوله، فهو يريد أن يعرف عن أصله ونشأته ومصيره بعد الموت، وأن يتبين حقيقة الكون الذي يحيا فيه، كيف نشأ وما وراءه من أسرار، وسر الحياة على هذه الأرض، كيف نشأت هذه الحياة من هذا الموات المحيط بها؟ ولماذا؟ … وهل وراء هذا الوجود والحياة قوة مدبرة؟ ومن هي هذه القوة؟ وماذا تريد منه؟ وما صلته بها؟ هذه الأسئلة تساور كل نفس، ولا يمكن للإنسان أن يطمئن دون إيجاد إجابات تقنع عقله وتجيب فطرته، وتحدد وظيفته وغايته ودوره وارتباطاته بهذا الوجود. وتجاوز هذه الأسئلة أو حلها بصورة خاطئة يبقي على مشاعر القلق والشك والحيرة.

 يقول سيد قطب: ” والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري. فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء – كما يبحث عن التناسل والتكاثر – بحثاً فطرياً ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج، أو حتى ينمو العلم ويغزر. وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار . . والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء. ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق”3.

الثاني: بناء تصّور الإنسان عن الكون والإنسان والحياة

العقيدة هي التي تشكل وجهة نظر الإنسان عن الكون والإنسان والحياة، وإدراك حقيقة وجوده وغايته ووظيفته، وتحدد رؤيته لما وراء الكون والإنسان والحياة من قوة مدبرة، وتكشف له عن القوى الحقيقية الفاعلة في هذا الوجود، وتحدد ارتباطاته بها وبالوجود كله، وهذا التفسير للوجود يترجم عملياً في حياة الفرد والجماعة عن طريق أنظمة العيش، والقيم، والأخلاق، التي تنظم الحياة وتحدد السلوك، ولهذا تختلف توجهات البشر واهتماماتهم وفق ما يحملون من عقائد، وتتغاير المجتمعات البشرية وتصطبغ بصبغة العقيدة التي يعتنقونها، لهذا كان أمر العقيدة في غاية الخطورة، فمفرق الطريق بين الحياة الصحيحة والحياة التائهة هي العقيدة.

 يقول سيد قطب عند ملاحظة الجهد الهائل الذي بذله القرآن وخصوصاً القرآن المكي في تصحيح التصور الاعتقادي: ” وهذا الاهتمام البالغ بتصحيح التصور الاعتقادي، وإقامته على قاعدة التوحيد الكامل الحاسم، يدل على أهمية هذا التصحيح، وأهمية التصور الاعتقادي في بناء الحياة الإنسانية وفي صلاحها، كما يدل على اعتبار الإسلام للعقيدة بوصفها القاعدة والمحور لكل نشاط إنساني، ولكل ارتباط إنساني كذلك”4.

 ويقول في موضع آخر: “ فنظام الحياة ومنهج السلوك وقواعد الأخلاق والآداب، ليست بمعزل عن التصور الاعتقادي؛ بل هي قائمة عليه، مستمدة منه. وما يمكن أن تثبت وتستقيم ويكون لها ميزان مستقر إلا أن ترتبط بالعقيدة، وبالتصور الشامل لحقيقة هذا الوجود وارتباطاته بخالقه الذي وهبه الوجود”5.

ارتباط الأخلاق والسلوك بالعقيدة

ويستدل سيد قطب لهذه الحقيقة بأمثلة كثيرة في تفسيره، ولنضرب بعض الأمثلة يتضح بها المقال:   

يقول سيد: ” الإيمان بالله معناه إفراده -سبحانه -بالألوهية والربوبية والعبادة. ومن ثم إفراده بالسيادة على ضمير الإنسان وسلوكه في كل أمر من أمور الحياة … فالسيادة على ضمائر الناس وعلى سلوكهم لله وحده بحكم هذا الإيمان. ومن ثم فالتشريع وقواعد الخلق، ونظم الاجتماع والاقتصاد لا تتلقى إلا من صاحب السيادة الواحد الأحد”6.

العقيدة هي القاعدة التي تستمد منها القيم والتصورات والتوجهات

ويقول في موضع آخر: ” هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها… وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده. فيكون الله وحده هو المشرع للعباد؛ ويجيء تشريع البشر مستمداً من شريعة الله. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله. وهكذا إلى آخر ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء”7.

ففرق كبير في الحياة، والتصورات، والقيم، والتوجهات، بين ما تفرزه عقيدة الإسلام القائمة على التوحيد في الواقع، وبين العقائد الأرضية التي تقطع الصلة بين الله وبين خلائقه، كالرأسمالية، والاشتراكية، أو الديمقراطية، والديكتاتورية، والملكية والتي تتخذ لها أرباباً من دون الله تجعل لها القوامة والسلطان والحاكمية فيعبّدون الناس لربوبيتهم الزائفة، فيشرعون للناس ما يشاءون من القيم والتقاليد والأوضاع ما يجعل دينونتهم لهذه الأرباب لا لله8.

الإيمان باليوم الآخر هو مفرق الطريق بين الحياة الصحيحة والحياة التائهة

أما الإيمان باليوم الآخر، فإنه يشكّل – من وجهة نظر سيد قطب- مفرق الطريق بين من يعتقد أنّ حياته محصورة في مجال الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، وبين من يؤمن بأن هناك حياة أخرى أبدية وراء هذا الحيز الصغير تستحق أن يجاهد لها، يقول سيد: ” والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات… ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية… وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على العوض الذي يلقاه فيها. وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء، وهذا هو مفرق الطريق”9.

كل انحراف في السلوك أو القيم أو الأخلاق مرده إلى فساد التصور والاعتقاد

ويبرز سيد قطب أن كل انحراف في السلوك أو القيم أو الأخلاق مرده إلى فساد التصور والاعتقاد، فالعرب – قبل الإسلام- لم يؤمنوا بأن الرزق من عند الله، وإنما هو حصيلة الجهد والكسب في الأعمال والحروب، فكانوا يخشون الفقر مع ولادة الأنثى لضعفها عن مزاولة أعمال الذكورة، فتحركت مشاعرهم بهذه العقيدة (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58، 59] فكان منهم احتقار جنس الإناث، وشرعوا لأنفسهم نظاماً مبنياً على عقيدتهم السخيفة، فوأدوا البنات في الجاهلية أو أبقوا عليهن في الذل والهوان10.

يقول سيد عند تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) [الإسراء : 31]. ” إن انحراف العقيدة وفسادها ينشئ آثاره في حياة الجماعة الواقعية، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية. وتصحيح العقيدة ينشئ آثاره في صحة المشاعر وسلامتها، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها. وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية. وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة”11.

هذا هو الطريق: اجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح

ومن هذه النظرة يجيب سيد قطب عن ظاهرة اعتناء القرآن المكي بتصحيح العقيدة قبل الاعتناء بتصحيح السلوك، يقول: ” إنما بدأ الإسلام من عقدة النفس البشرية الأولى. عقدة العقيدة. بدأ باجتثاث التصور الجاهلي الاعتقادي جملة من جذوره؛ وإقامة التصور الإسلامي الصحيح. إقامته من أعماق القاعدة المرتكزة إلى الفطرة. بيّن للناس فساد تصوراتهم عن الألوهية وهداهم إلى الإله الحق. وحين عرفوا إلهم الحق بدأت نفوسهم تستمع إلى ما يحبه منهم هذا الإله الحق وما يكرهه. وما كانوا قبل ذلك ليسمعوا! أو يطيعوا أمراً ولا نهياً؛ وما كانوا ليقلعوا عن مألوفاتهم الجاهلية مهما تكرر لهم النهي وبذلت لهم النصيحة. إن عقدة الفطرة البشرية هي عقدة العقيدة؛ وما لم تنعقد هذه العقدة أولاً فلن يثبت فيها شيء من خلق أو تهذيب أو إصلاح اجتماعي”12.

مما سبق يتبين كيف أبرز سيد قطب أثر العقيدة في بناء الإنسان وصقل شخصيته، وفي بناء المجتمع وتحديد معالمه وهويته، وتكوين حضارته، وأخيراً يمتد التأثير إلى التجمع الإنساني برمته، خصوصا في حاضرنا الذي بات فيه العالم قرية صغيرة تتزاحم فيها الأفكار والثقافات وتتصارع فيها الحضارات. لهذا كان للعقيدة هذا الشأن العظيم في حياة البشر.

الهوامش

1 – في ظلال القرآن ، (3/1753).

2- في ظلال القرآن، (3/ 1004-1005).

3- قطب، في ظلال القرآن، (1 /299).

4- المصدر السابق: (2/946).

5 – المصدر السابق: (1/ 296).

6 -قطب، في ظلال القرآن، (1/341).

7 – قطب، في ظلال القرآن (1/ 286-287).

8- انظر: المصدر السابق، (4/ 1852، 1866، 2074).

9- قطب، في ظلال القرآن (1/24-25).

10 – انظر: المصدر السابق، (4/2178).

11 – المصدر السابق: (4/2223).

12- قطب، في ظلال القرآن (1/973).

المصدر

كتاب: “خصائص العقيدة الإسلامية وآثارها من خلال تفسير الظلال لسيد قطب” 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق