"ورشان الجزائر".. مراسم الحلق الجماعية
بعد صلاة العصر، يجلس مجموعة من حفظة القرآن، يتلون ما مقداره حزبين من القرآن الكريم، في عمل توارثته أجيال من الحفظة رواد الجوامع يسمى "بالحزب الراتب"، وهم يقرؤون الآيات المنزلات بصوت ولحن شجي، ضمن مجموعة ترامت أطرافها على حلقة دائرية، تكبر كلما ازداد توافد الطلبة عليها، ليأخذ بعض المصلين مكانا بالقرب منهم، متكئين على سارية الجامع الذي يصدح بالأصوات المتمايلة أجسادها على الطريقة التراثية، يستمعون إلى ما تتذاكره ألسن الطلبة.
وقد درج علماء الجزائر على هذه التحفة المختارة من الممارسة التقليدية في قراءة القرآن، قرونا ترجع إلى بدايات الإسلام في شمال أفريقيا، ولربما كان الأمر غير ما تناقله محبو هذه الطريقة من التكرار والحفظ، فشواهد بدايتها لم تتصف بالقدر الذي منحها ارتباطا تاريخيا مع ما أقرّه بعض العلماء، وبالنظر إلى كون القراءة الجماعية (الحلقة) تشوبها الاختلافات بين الفقهاء وأهل الرأي، فإننا سنحاول الاقتراب من دورها الاجتماعي، كونها أداة أسهمت في نشر التعاليم السمحة.
تعدّ الحلقة الجامعة للقرّاء منارة جوامع وزوايا الجزائر، فقد توارث أهل القرآن على حفظه وتدارسه وفق طرائق ومقامات متباينة.
الحَلقة والمُتحلّق
تعد الحلقة الجامعة للقرّاء منارة جوامع وزوايا الجزائر، فقد توارث أهل القرآن على حفظه وتدارسه وفق طرائق ومقامات متباينة، تشهد على روعة النتاج الثقافي والتاريخي للأمة الإسلامية، فالحلقة لا تنحصر في كونها مجموعة من الطلبة تجمع بعضهم في شكل دائري، حيث سارية شيخ الجامع تضيء قناديلها الصوامع القديمة؛ إنّها حضور قلبي وروحي تجاوز مكامن التصافح والتعبير الجسدي، نحو معراج تسامى أهله حيث الكتبة تلقي أقلامها.
في الحلقة يجلس المعلم متربعا بائن الحضور، ليدنو منه أكثر الطلبة حفظا وإتقانا للقرآن، ثم الأيسر، فحديث العهد بالحفظ، وحينما تنقضي صلاة العصر يستفتح الشيخ بالتعوذ فالبسملة، لتتبعه جموع القناديز (القناديز هم طلاب العلم "القرآن" في العامية الجزائرية) تتلو ما ترتب من أحزاب متفق على عددها طوال الأشهر القمرية، حيث يقترن اليوم الواحد بحزبين متتاليين، ويجتهد مريدو الحلقة في بلوغ إتقانه بالحفظ والتكرار.
تبدأ القراءة بالمقامات النغمية المعروفة لدى القناديز التي تعاهد الجزائريون على توريثها جيلا بعد جيل، إذ إنها تظهر التنوع الجمالي والإبداعي للجغرافيا المنبثق عنها ذلك الطابع النغمي، إلى جانب تداخل الثقافات والهويات التي أسهمت ببروز طبوع أكثر إتقانا وجمالية من تلك الألوان النغمية "شدّي ومدّي" التي يأخذ فيها مدّ الحرف نفسه الطويل، مع سكتة الوقف عند الضرورة التي تقتضيها أحكام التلاوة. أمّا عن "الشرقي" أكثر الطبوع تميزا، فشرطه المد ترخّصا في الحروف دون الوقف، وسمّي بذلك لشهرته في الجهة الغربية من الجزائر، يليه "المْسِيَّح" الذي لا وقف فيه ولا مد، وبه تسهل القراءة وتسقط الأحكام، ويستريح القناديز به في التلاوة، حتى إنّ "السلكة" التي تعني إتمام قراءة القرآن في زمن محدد، تنقضي به على عجلة من التذاكُر، أمّا الطابع الآخر فهو "المعسكري" نسبة لمدينة معسكر مولد مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الأمير عبد القادر، فقد تلوّن بالضبط في المد إتقانا وبالوقف إلزاما، مع تراخ في القراءة والنفس الطويل والتغني الجميل.
يأتي الضابط للطبوع السالف ذكرها، من حيث التنظيم ونفي التقطيع والارتماء إلى أحكام الرواية، وقد احتكم له قرّاء شمال أفريقيا قرونا حتى يومنا هذا في كتابة الوقف وإقراره وإجازته، ويرجع فضل ذلك للشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي المتوفى 930هـ، حين دخل على قوم يلحنون في التلاوة فأنكر عليهم، وارتضى لهم وقفا لازما كي يسهّل عليهم قراءة القرآن.
تعوّد الجزائريون رواية ورش قرونا متلاحقة، إذ أسهمت في الحفاظ على إرثهم زمن الاستعمار الفرنسي، وفي ظل سياسات التجهيل والتنصير.
طقس اجتماعي
إلى جانب تنوع طبوع التلاوة عند القرّاء، فإنّ الحلقة تسافر من مكان إلى مكان، مدركة حاجة الناس إليها، ولعل الزي والعمامة البيضاء التي تُميّز رواة ورش بالجزائر جعلت من التقائهم منارة الأمكنة التي غزاها الموت، وجرّدها من الأحبة، حتى إنّ الطلبة في تحلّقهم يقرؤون كورشان (نوع من الحمام اشتق منه اسم الإمام ورش رحمه الله) تعلو تغاريده بين ركبتي إمامه نافع.
تعقد الحلقة مواسمها مع القناديز في 3 أماكن: فالأولى بعد صلاة العصر لإتمام السّلكة، أما الثانية فتكون في المقبرة حين توضع آخر كومة تراب على الميت، عندها يجلس الطلبة للقراءة جماعة، وأما الثالثة فليلة الدفن وبعدها وحين انقضاء أسبوع وفي الأربعين، يأتي الطلبة متحلّقين على سور معلومة، يقرؤونها بطبوعهم المعهودة، ولا يحصل ذلك إلا إذا تيسّر حال أهل الميت لتقديم الطعام، ثم يختمونها بالدعاء للميت وأهله.
وقد تعوّد الجزائريون رواية ورش قرونا متلاحقة، إذ أسهمت في الحفاظ على إرثهم زمن الاستعمار الفرنسي، ففي ظل سياسات التجهيل والتنصير، باتت حلق القراءة الجماعية وسيلة للاستذكار والتعلم، ودفعا للاستيطان الفرنسي المجرد للشعب الجزائري من ثقافته، حيث كانت المشيخة في القرى تكافح مع صعوبة وضعها الاقتصادي، للحيلولة دون الوقوع في هيمنة الثقافة الفرنسية، وقد أبانت حلق القراءة الجماعية للقرآن عن فضلها في دعم المقاومات الشعبية.
القراءة الجماعية كانت وما زالت وَرَشانا جزائريا خالصا، أظهر مدى تعلق المجتمع الجزائري بتراثه.
الإيقاع الجماعي
ارتبطت حلق القراءة الجماعية للقرآن بالجزائر، هذا التلاحم بينهما إنّما عززته دوافع تاريخية للبحث عن طرق فاعلة للتعلم والإتقان والاستذكار، ولا يختلف اثنان على أنّ القراءة الجماعية هي نتاج تراكم معرفي، قد تنوع بين ثقافات وفنون، وبين ترانيم تعبدية وسلالم نغمية، غير أنّ هذا الالتقاء الثقافي والإنساني أبدع في تكوين صورة للتواصل الروحاني، كانت تراوح مقامات سبق للصوفية أن نهلوا ممن سبقهم إلى ذلك سبيلا، ليكون التحلّق مكاشفة وتقربا.
في الحلقة تذوب الأصوات كلها ضمن نسق واحد، لا تشوبه الفردانية ولا الذاتية، فالكل داخل الواحد الجماعاتي، ضمن خط موسيقي يقوده "مايسترو" الطريقة، وحيث النغم المتكامل بصوته ولحنه الندي، تترنح الأجساد الجالسة يمينا وشمالا على الشرقي، لتسوق الأبدان بإيقاعها الروحي نحو المحبة والسلام.
كانت القراءة الجماعية وما زالت وَرَشانا جزائريا خالصا، أظهر مدى تعلق المجتمع الجزائري بتراثه، ومع ما شابهها من تجاوزات في أحكام التلاوة، وغزتها فتاوى التبديع والتحريم، إلا أنّها ظلت على طريقة سمحة تهدي مريديها التآلف والمحبة، فانتشارها اليوم بات يهدده تراخي المؤسسات المعنية برعايتها، كما أنّ المجتمعات ذات النظرة المادية إلى العلاقات وقفت جدارا أمام اقتفاء حلق القرآن في مواسمها المعهودة.
ومع التحديات التي فرضتها الحياة اليومية، يبقى الحنين إلى روعة التحلّق الجماعي، كأحد فنون التغني بالقرآن بطبوع متباينة، مظهرا اجتماعيا وتراثا إنسانيا، حافظ على التماسك الاجتماعي مع ما تعاقب من احتلال وإحلال؛ تراثا وإن أسس بنيانه على ثقافات وفنون متعددة، إلا أنّه وضع ملامحه الأخيرة في صورة ورشان جزائري متقن الصنعة، يستمع المريدون والمتحلقون عليه طلبا للخلاص الأبدي، في حلق تفوح منها روائح التعلم والمقاومة، ويتجلى فيها التآخي والتسامح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق