الثورة التي نريد (2)أحمد عبد العزيز
بعد نشر المقال الأول من هذه السلسلة، تلقيت تعليقا معتبرا على تويتر، ختمته صاحبته باستفسار يقول: في أي مرحلة من مراحل الثورة يمكننا وصفها بـ"المحمودة" أو "المذمومة"؟ ولعل هذا الاستفسار خامر آخرين، لذا رأيت أن أجيب عنه في بداية هذا المقال..
وصف الثورة بـ"المحمودة" أو "المذمومة" هو تقييم أو حكم "تاريخي"، يأتي بعد انقشاع غبار الثورة، وقراءة دوافعها ووقائعها ونتائجها قراءة موضوعية متأنية، وليس قبل ذلك بأي حال.. ومن ثم، يمكننا القول بأن الثورات الثلاث الأشهر (الفرنسية والروسية والإيرانية) كلها ثورات "مذمومة".. أولاها مذمومة لوقائعها ونتائجها، والثانية والثالثة مذمومتين لدوافعهما ووقائعهما ونتائجهما.. فالثورة لا تقوم على نظام مستبد لتقيم نظاما مستبدا آخر، أو أشد استبداداً.. وهذا ما كان من أمر الثورتين الروسية والإيرانية.. أما الثورة الفرنسية، فلا يمكن القول إنها أقامت نظاما واضح الملامح بعد وقوعها، حتى جاء نابليون بونابرت (العسكري الكورسيكي) بعد ست سنوات، فقفز على السلطة، بالتواطؤ مع رئيس الجمعية الوطنية، وأسس نظام "القنصلية" الذي شغل فيه منصب القنصل الأول، ثم أعلن نفسه إمبراطورا.
وأذكِّر القارئ العزيز.. لا توجد "ثورة فاشلة" و"ثورة ناجحة".. فالثورة لا تعني إلا شيئا واحدا وهو: أن الشعب نجح في إسقاط النظام القديم، واقتلاعه من جذوره، بصرف النظر عن نجاح الثورة في بناء نظام جديد، أو عجزها عن ذلك، وساعتئذ (حال عجز الثورة عن بناء نظام جديد) يمكن أن نطلق عليها "نصف ثورة"، وهذا ما كان من أمر الثورة الفرنسية التي يعتقد الكثيرون أنها الثورة "النموذجية" في التاريخ.. فقد ظلت فرنسا تتخبط (سياسيا) لقرن كامل، حتى أن الملكية (لويس الثامن عشر) عادت لتحكم من جديد (دستوريا) لمدة عشر سنوات، بعد هزيمة نابليون!
وصف الثورة بـ"المحمودة" أو "المذمومة" هو تقييم أو حكم "تاريخي"، يأتي بعد انقشاع غبار الثورة، وقراءة دوافعها ووقائعها ونتائجها قراءة موضوعية متأنية، وليس قبل ذلك بأي حال
بهذا المعنى، فإن ما وقع في مصر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ليس "ثورة" ولا حتى "نصف ثورة"، وإنما انتفاضة شعبية وظَّفها العسكر لإزاحة مبارك عن سدة الحكم، وأما السنة التي شغل فيها الرئيس الشهيد محمد مرسي سدة الرئاسة، فكانت بمثابة "جملة اعتراضية" في سياق حكم العسكر لمصر، منذ 1952 وحتى يوم الناس هذا.. هكذا بكل بساطة ووضوح.
الثورة على مَن؟
في المقال السابق، أجبت عن السؤال: لماذا تثور الشعوب؟ وفي هذا المقال أجيب عن هذا السؤال.. الثورة على مَن؟
الثورة (حسب دراسة الثورات الثلاث) كانت على نظم فاسدة، جاءت بغير إرادة الشعب.. جرَّت البلاد إلى نفق مظلم، ووصلت بشعوبها (التي تراها عبئا ثقيلا عليها) إلى حائط فولاذي، بعرض الأرض وعمقها، وارتفاع السماء وسُمكها، حائط لا يمكن اختراقه، ولا الالتفاف حوله، ولا القفز عليه، ولا الحفر تحته.. نظم مهترئة متحللة، غير قابلة للإصلاح، وترفض أي إصلاح.. تنكِّل بالمصلحين وتطاردهم.. لا تأبه بالمواطن، ولا تقيم له وزنا، ولا تهتم به ولا له.. المواطن (عندها) مجرد رقم.. تحابي البرجوازية أو الطبقات العليا على حساب العامة.. نظم تشجع على الانحلال والتحلل من القيم.. السلطة (في نظرها) إرث خالص لها.. موارد الدولة فريسة لا تقبل القسمة إلا عليها.. نظم فوق القانون.. لا شفافية.. لا محاسبة.. مؤسسات مُدجَّنة..
ما وقع في مصر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ليس "ثورة" ولا حتى "نصف ثورة"، وإنما انتفاضة شعبية وظَّفها العسكر لإزاحة مبارك عن سدة الحكم، وأما السنة التي شغل فيها الرئيس الشهيد محمد مرسي سدة الرئاسة، فكانت بمثابة "جملة اعتراضية" في سياق حكم العسكر لمصر
أما نُظم اليوم المستبدة، فقد حازت كل ذلك وأكثر.. قضاء مُسيَّس.. شرطة مسعورة.. جيش فقد بوصلته وشرفه.. صحافة صفراء.. إعلام بذيء.. كُتَّاب مرتزِقة.. أشباه سياسيين.. فضلا عن أنها وُجِدت (في الأساس) لحماية مصالح القوى الدولية والإقليمية التي جاءت بها، ومكنتها من البلاد والعباد.. فنحن (إذن) أمام نظم مأجورة، خائنة لشعوبها، فاقدة للشرعية.. السكوت عليها جريمة، وخيانة للأجيال القادمة.. الثورة عليها والإطاحة بها واجب، على كل مواطن بالغ عاقل راشد.. ولكن كيف؟
الإجابة عن السؤال (كيف؟).. هي خلاصة هذه السلسلة، ومن ثم لا يزال هناك ما يجب الحديث عنه، قبل أن نصل إلى الإجابة عنه..
النتائج الفورية للثورة
ليس بالضرورة أن تشترك جميع الثورات في نتائجها الفورية ذاتها، فلكل بلد محيطه الجغرافي، وعلاقاته الإقليمية والدولية، ومن هذه النتائج (عموما) ما يلي:
- سقوط النظام القديم، تحت وطأة انتفاضة شعبية عارمة، فشل في احتوائها.. وآية ذلك، فقدان النظام اتصاله مع أجهزة الدولة، ومن ثم فقدان السيطرة على البلاد، وإعلان قادة الثورة أنفسهم سلطة حاكمة (جديدة).. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- غرق البلاد في حالة من النشوة؛ فرحا بزوال النظام القديم المستبد.. احتفلت فرنسا كلها، بعد عام واحد فقط من نجاح الثورة، واتخذت من يوم سقوط سجن الباستيل عيدا وطنيا (14 تموز/ يوليو 1789)، ثم دخلت فرنسا في متاهة سياسية واجتماعية استمرت مائة عام.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
ليس بالضرورة أن تشترك جميع الثورات في نتائجها الفورية ذاتها، فلكل بلد محيطه الجغرافي، وعلاقاته الإقليمية والدولية- غياب تام لمظاهر الانضباط في الشارع.
- شيوع النهب والتخريب، وتصفية الخصومات والثارات.
- استنفار في الدول المتضررة من نجاح الثورة.. حدث ذلك إبّان الثورة الفرنسية.. فقد تحالفت ملكيّات أوروبا وشنت حربا على فرنسا، بعد إجبار لويس السادس عشر على القبول بالملكية الدستورية، الأمر الذي عجَّل بإعدامه من قِبَل الثوار.. أما الثورة الروسية، فكانت مدعومة (بقوة) من أوروبا التي كانت تخوض حربا ضد روسيا القيصرية (الحرب العالمية الأولى).
- نشوب الخلافات بين "قيادات الثورة"، للاستئثار بالقيادة، وقد يلجأ المستأثر بالقيادة إلى أسلوب الاغتيال/ الإعدام أو السجن أو النفي.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- لجوء الثوار إلى التخلص من معارضيهم السياسيين خارج إطار القانون، أو بتهم مفبركة.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- وقوع قيادة الثورة في براثن الشك، وعدم اليقين، والخوف من الفشل، والانزعاج من أي رأي معارض لسياساتها وقراراتها التنفيذية، ويصبح كل ذي رأي معارض عُرضة للاتهام بـ "الخيانة" تحت مسميات شتى: عدو الثورة، طابور خامس، موالٍ لـ"النظام "البائد"، "متخابر" مع جهة أجنبية.. إلخ.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- التغيير الدائم في وجوه السلطة التنفيذية.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- التوسع في الإجراءات الاستثنائية، بحجة حماية الثورة.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
بعد نشر المقال الأول من هذه السلسلة، تلقيت تعليقا معتبرا على تويتر، ختمته صاحبته باستفسار يقول: في أي مرحلة من مراحل الثورة يمكننا وصفها بـ"المحمودة" أو "المذمومة"؟ ولعل هذا الاستفسار خامر آخرين، لذا رأيت أن أجيب عنه في بداية هذا المقال..
وصف الثورة بـ"المحمودة" أو "المذمومة" هو تقييم أو حكم "تاريخي"، يأتي بعد انقشاع غبار الثورة، وقراءة دوافعها ووقائعها ونتائجها قراءة موضوعية متأنية، وليس قبل ذلك بأي حال.. ومن ثم، يمكننا القول بأن الثورات الثلاث الأشهر (الفرنسية والروسية والإيرانية) كلها ثورات "مذمومة".. أولاها مذمومة لوقائعها ونتائجها، والثانية والثالثة مذمومتين لدوافعهما ووقائعهما ونتائجهما.. فالثورة لا تقوم على نظام مستبد لتقيم نظاما مستبدا آخر، أو أشد استبداداً.. وهذا ما كان من أمر الثورتين الروسية والإيرانية.. أما الثورة الفرنسية، فلا يمكن القول إنها أقامت نظاما واضح الملامح بعد وقوعها، حتى جاء نابليون بونابرت (العسكري الكورسيكي) بعد ست سنوات، فقفز على السلطة، بالتواطؤ مع رئيس الجمعية الوطنية، وأسس نظام "القنصلية" الذي شغل فيه منصب القنصل الأول، ثم أعلن نفسه إمبراطورا.
وأذكِّر القارئ العزيز.. لا توجد "ثورة فاشلة" و"ثورة ناجحة".. فالثورة لا تعني إلا شيئا واحدا وهو: أن الشعب نجح في إسقاط النظام القديم، واقتلاعه من جذوره، بصرف النظر عن نجاح الثورة في بناء نظام جديد، أو عجزها عن ذلك، وساعتئذ (حال عجز الثورة عن بناء نظام جديد) يمكن أن نطلق عليها "نصف ثورة"، وهذا ما كان من أمر الثورة الفرنسية التي يعتقد الكثيرون أنها الثورة "النموذجية" في التاريخ.. فقد ظلت فرنسا تتخبط (سياسيا) لقرن كامل، حتى أن الملكية (لويس الثامن عشر) عادت لتحكم من جديد (دستوريا) لمدة عشر سنوات، بعد هزيمة نابليون!
وصف الثورة بـ"المحمودة" أو "المذمومة" هو تقييم أو حكم "تاريخي"، يأتي بعد انقشاع غبار الثورة، وقراءة دوافعها ووقائعها ونتائجها قراءة موضوعية متأنية، وليس قبل ذلك بأي حال
بهذا المعنى، فإن ما وقع في مصر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ليس "ثورة" ولا حتى "نصف ثورة"، وإنما انتفاضة شعبية وظَّفها العسكر لإزاحة مبارك عن سدة الحكم، وأما السنة التي شغل فيها الرئيس الشهيد محمد مرسي سدة الرئاسة، فكانت بمثابة "جملة اعتراضية" في سياق حكم العسكر لمصر، منذ 1952 وحتى يوم الناس هذا.. هكذا بكل بساطة ووضوح.
الثورة على مَن؟
في المقال السابق، أجبت عن السؤال: لماذا تثور الشعوب؟ وفي هذا المقال أجيب عن هذا السؤال.. الثورة على مَن؟
الثورة (حسب دراسة الثورات الثلاث) كانت على نظم فاسدة، جاءت بغير إرادة الشعب.. جرَّت البلاد إلى نفق مظلم، ووصلت بشعوبها (التي تراها عبئا ثقيلا عليها) إلى حائط فولاذي، بعرض الأرض وعمقها، وارتفاع السماء وسُمكها، حائط لا يمكن اختراقه، ولا الالتفاف حوله، ولا القفز عليه، ولا الحفر تحته.. نظم مهترئة متحللة، غير قابلة للإصلاح، وترفض أي إصلاح.. تنكِّل بالمصلحين وتطاردهم.. لا تأبه بالمواطن، ولا تقيم له وزنا، ولا تهتم به ولا له.. المواطن (عندها) مجرد رقم.. تحابي البرجوازية أو الطبقات العليا على حساب العامة.. نظم تشجع على الانحلال والتحلل من القيم.. السلطة (في نظرها) إرث خالص لها.. موارد الدولة فريسة لا تقبل القسمة إلا عليها.. نظم فوق القانون.. لا شفافية.. لا محاسبة.. مؤسسات مُدجَّنة..
ما وقع في مصر في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 ليس "ثورة" ولا حتى "نصف ثورة"، وإنما انتفاضة شعبية وظَّفها العسكر لإزاحة مبارك عن سدة الحكم، وأما السنة التي شغل فيها الرئيس الشهيد محمد مرسي سدة الرئاسة، فكانت بمثابة "جملة اعتراضية" في سياق حكم العسكر لمصر
أما نُظم اليوم المستبدة، فقد حازت كل ذلك وأكثر.. قضاء مُسيَّس.. شرطة مسعورة.. جيش فقد بوصلته وشرفه.. صحافة صفراء.. إعلام بذيء.. كُتَّاب مرتزِقة.. أشباه سياسيين.. فضلا عن أنها وُجِدت (في الأساس) لحماية مصالح القوى الدولية والإقليمية التي جاءت بها، ومكنتها من البلاد والعباد.. فنحن (إذن) أمام نظم مأجورة، خائنة لشعوبها، فاقدة للشرعية.. السكوت عليها جريمة، وخيانة للأجيال القادمة.. الثورة عليها والإطاحة بها واجب، على كل مواطن بالغ عاقل راشد.. ولكن كيف؟
الإجابة عن السؤال (كيف؟).. هي خلاصة هذه السلسلة، ومن ثم لا يزال هناك ما يجب الحديث عنه، قبل أن نصل إلى الإجابة عنه..
النتائج الفورية للثورة
ليس بالضرورة أن تشترك جميع الثورات في نتائجها الفورية ذاتها، فلكل بلد محيطه الجغرافي، وعلاقاته الإقليمية والدولية، ومن هذه النتائج (عموما) ما يلي:
- سقوط النظام القديم، تحت وطأة انتفاضة شعبية عارمة، فشل في احتوائها.. وآية ذلك، فقدان النظام اتصاله مع أجهزة الدولة، ومن ثم فقدان السيطرة على البلاد، وإعلان قادة الثورة أنفسهم سلطة حاكمة (جديدة).. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- غرق البلاد في حالة من النشوة؛ فرحا بزوال النظام القديم المستبد.. احتفلت فرنسا كلها، بعد عام واحد فقط من نجاح الثورة، واتخذت من يوم سقوط سجن الباستيل عيدا وطنيا (14 تموز/ يوليو 1789)، ثم دخلت فرنسا في متاهة سياسية واجتماعية استمرت مائة عام.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- غياب تام لمظاهر الانضباط في الشارع.
- شيوع النهب والتخريب، وتصفية الخصومات والثارات.
- استنفار في الدول المتضررة من نجاح الثورة.. حدث ذلك إبّان الثورة الفرنسية.. فقد تحالفت ملكيّات أوروبا وشنت حربا على فرنسا، بعد إجبار لويس السادس عشر على القبول بالملكية الدستورية، الأمر الذي عجَّل بإعدامه من قِبَل الثوار.. أما الثورة الروسية، فكانت مدعومة (بقوة) من أوروبا التي كانت تخوض حربا ضد روسيا القيصرية (الحرب العالمية الأولى).
- نشوب الخلافات بين "قيادات الثورة"، للاستئثار بالقيادة، وقد يلجأ المستأثر بالقيادة إلى أسلوب الاغتيال/ الإعدام أو السجن أو النفي.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- لجوء الثوار إلى التخلص من معارضيهم السياسيين خارج إطار القانون، أو بتهم مفبركة.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- وقوع قيادة الثورة في براثن الشك، وعدم اليقين، والخوف من الفشل، والانزعاج من أي رأي معارض لسياساتها وقراراتها التنفيذية، ويصبح كل ذي رأي معارض عُرضة للاتهام بـ "الخيانة" تحت مسميات شتى: عدو الثورة، طابور خامس، موالٍ لـ"النظام "البائد"، "متخابر" مع جهة أجنبية.. إلخ.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- التغيير الدائم في وجوه السلطة التنفيذية.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
- التوسع في الإجراءات الاستثنائية، بحجة حماية الثورة.. حدث ذلك في الثورات الثلاث.
(يُتبع)..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق