الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

"من هم الإرهابيون؟": كيف يقاتل جيل جديد من الفلسطينيين الاحتلال

 "من هم الإرهابيون؟": كيف يقاتل جيل جديد من الفلسطينيين الاحتلال

ديفيد هيرست

من جنوبي تلال الخليل، حيث يتعرض المزارعون إلى هجمات المستوطنين، إلى مخيم جنين، حيث تواجه الجماعات المسلحة المداهمات الليلية، تتشكل موجة جديدة من المقاومة داخل الضفة الغربية.

ينتهي الطريق حيث توجد قرية التواني، وخلفها مباشرة يمر طريق المستوطنين الذي يبدأ في القدس وينتهي في تلال الخليل الجنوبية.

وأمامها تقع قرية مسافر يطا، التي تبلغ مساحتها ثلاثين كيلومتراً مربعاً تقريباً، والتي أعلنتها إسرائيل منطقة رماية عسكرية في ثمانينيات القرن الماضي.

يخوض سكان مسافر يطا، الذين يبلغ تعدادهم حوالي 2500 نسمة، معارك يومية مع المستوطنين اليهود والجنود الإسرائيليين.

في نفس اليوم الذي وصلت فيه إلى قرية التواني، وقف أشرف محمود عمور، الذي يبلغ من العمر أربعين سنة، يتأمل بهدوء كومة من كتل المعادن. كانت تلك بعض بقايا منزله، الذي حولته إلى ركام قبل بضع ساعات جرافة إسرائيلية فلم تبق منه ولم تذر. إلا أن الذي أدهشه أن الجنود الإسرائيليين تركوا مظلة على يسار المنزل المهدم وحظيرة دجاج على يمينه، رغم أنهما كلتاهما صدرت بحقهما أوامر هدم.

قال أشرف عمور: "سوف أخبرك أين سننام الليلة – مع الدجاج والأغنام."

ومضى، وهو الأب لخمسة من الأطفال، يقول: "كل ما يريدونه هو حملنا على المغادرة. ولذلك فهم يهدمون البيوت، ويمنعوننا من الوصول إلى الحقول، ويرهبوننا طوال الوقت بنشر الجنود والمستوطنين من حولنا، ويجتاحون بيوتنا، ويقومون باعتقالنا. ونحن نعرف أن ما يريدونه من ذلك هو دفعنا نحو الخروج. ذلك هو التحدي، ونحن نقبل به."

وأضاف: "يحاولون تصويرنا للعالم على أننا إرهابيون. ومن هو الإرهابيون؟ نحن نحاول البقاء في ديارنا، وهم الذين يمارسون الإرهاب ضدنا. ولسوف أبقى هنا حتى لو اضطررت إلى النوم تحت صخرة."

فقط على مسافة بضعة أمتار إلى الوراء على الطريق الترابي ترتفع لوحتان. تحمل اللوحة الأولى إعلاناً مكتوب فيه "الدعم الإنساني للفلسطينيين الذين يواجهون خطر الترحيل القسري إلى الضفة الغربية"، وإلى جانب تلك العبارة توجد شعارات إحدى عشرة وكالة مساعدات إنسانية حكومية من داخل الاتحاد الأوروبي.

لا توجد قيمة كبيرة لهذا التعبير عن الدعم الدولي حين يتعلق الأمر بردع المستوطنين، ففوق نفس اللوحة ترتفع صورة هارن أبو عرام الذي يبلغ من العمر ستة وعشرين عاماً.

يرقد هارون أبو عرام اليوم مشلولاً في المستشفى بعد أن حاول الدفاع عن أرضه.

أما حافظ الحوراني فكان محظوظاً إذ خرج من المعركة بذراعين مكسورين فقط.

بينما كان الحوراني يعمل في أرضه، تعرض لاعتداء من قبل خمسة مستوطنين مقنعين ومسلحين بأنابيب معدنية، يرافقهم جندي خارج الخدمة يشهر بندقية ويطلق منها النار في الهواء. فما كان من الحوراني إلا أن دافع عن نفسه بفأس كانت في يده.

قال ابنه سامي: "كانوا خمسة ضد واحد، ضد رجل واحد عمره 52 سنة. عندما وصلت إليه، كان والدي ينزف من يده اليمني ويمسك باليسرى. هرع إليه من خلفي عدد آخر من القرويين، واندفع إلى المكان المزيد من المستوطنين والمزيد من رجال الشرطة."

قال الشرطي إنهم سيعتقلون الرجل الجريح.

يقول سامي عن ذلك: "في تلك اللحظة بدأت تنتابنا مشاعر الغضب. وقف المستوطنون أمام سيارة الإسعاف يعترضون سبيلها. وضعنا والدي داخل سيارة الإسعاف، فراح المستوطنون يطعنون إطارات سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر حتى لا تتمكن من التحرك."

ويضيف: "صار الجيش يتعامل معنا بقسوة بالغة وداهمنا، ثم طردنا من الموقع وظل يطاردنا. ثم نقلوا والدي إلى سيارة إسعاف عسكرية."

وبذلك بدأت عشر أيام من الاعتقال ظل فيها الحوراني، ضحية اعتداء المستوطنين، حبيساً لديهم.

ثم نقل إلى سجن عوفر، وظل موقوفاً بتهمة التسبب في أضرار بدنية جسيمة للمستوطن الذي هاجمه، وكانت محكمة عسكرية على وشك أن تحكم عليه بالسجن اثني عشر عاماً، لولا أن قضية المدعي العام انهارت بأعجوبة.

وذلك أن مقطع فيديو يصور الحدث من أوله إلى آخره قدم للمحكمة، وانتقد القاضي تأجيل الشرطة استجواب المستوطنين لأكثر من أسبوع.

وقالت محامية الحوراني، واسمها ريهام نصر، إن ما فعلته الشرطة كانت الغاية منه التمكن من تقديم ما لديها من أدلة أمام المحكمة، وقالت: "تم الطعن بالدليل وأحبط المخطط الذي أعد لحافظ الحوراني بمجرد أن وصل إلى الشرطة، وغدا متاحاً لدى الجمهور، مقطع الفيديو الذي وثق اعتداء المستوطنين المسلحين والمقنعين عليه."

وأضافت: "كانت الغاية من اعتقاله لمدة عشرة أيام هي إخفاء الحقيقة والحفاظ على الرواية الكاذبة التي اختلقها من وجهوا له الاتهام. وهذا هو السبب الذي من أجله امتنعت الشرطة عن التحقيق مع المهاجمين، مع إنذار، لمدة تسعة أيام، وبذلك تم إفساد التحقيق الذي كانت المسؤولية عنه مناطة بهم."

إلا أن القضاء العسكري أبعد ما يكون عن النزاهة، فعندما أطلقوا سراح الحوراني أمروه بدفع كفالة بمبلغ عشرة آلاف شيكل (ما يعادل 2800 دولار) والبقاء بعيداً عن أرضه لمدة ثلاثين يوماً، إلى حين القيام بتحقيقات أخرى ذات علاقة بالحادثة. أما المستوطنون الذين هاجموه والشرطي خارج الخدمة الذي أطلق ست رشقات من الرصاص في الهواء، فلم ينلهم سوء.

سامي واحد من أبناء جيل جديد من المزارعين والنشطاء الذين حزموا أمرهم على مقاومة الدولة الإسرائيلية بكل أشكالها – المستوطنون، الجنود، رجال الشرطة، والمحاكم.

أنشأ سامي مجموعة تسمى شباب الصمود، وكلمة الصموت يسمعها المرء كثيراً هنا في التلال الجنوبية لمنطقة الخليل.

وعن ذلك يقول سامي: "كنا نعيش في كهف عندما أخرجنا من قريتنا. وكنا قد رتبنا الكهف وأقمنا الجدران وأوصلنا إليه خدمات المياه من قريتنا. لقد أجبرنا المحتل على أن ندفع ثمناً باهظاً، فلقد كسرت عظامي. عنف المستوطنين في أعلى مستوياته."

هذا جيل مختلف. إنه جيل يتمتع بثقة بالنفس، ولديه عزيمة وشكيمة، وهو موصول بالإنترنيت، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة.

يقول سامي: "تتوقع إسرائيل أن يموت الكبار ويتوقف الصغار، ولكن العكس تماماً هو الذي يحدث."

ويضيف: "لم نتلق أي أوامر بالبدء بالنضال. ليس لدينا قادة، نحن لا ننتمي لأحد من الفضائل. بل نحن نبدأ النضال بأنفسنا."

ويبدي سامي شعوراً بالتفاؤل حين يقول: "أي شخص في مثل وضعنا قد يساوره تفكير بالمغادرة، ولكننا نستمر في البقاء ههنا، ونستمر في الابتسام، ونستمر في إثبات أننا نعيش، وإثبات أننا لا نستسلم. هذا هو الأمر الذي يتميز به شعبنا، أن نثبت أننا شعب مدهش."

أما جمال جمعة، الناشط السياسي الفلسطيني المخضرم فهو أقل تفاؤلاً، إذ يقول: "لقد حول الإسرائيليون الضفة الغربية، حرفياً، إلى شبكة من المحميات التي يعيش فيها السكان الأصليون. إنهم يرسمون الجغرافيا والديموغرافيا في الضفة الغربية لضمان الاحتفاظ بالهيمنة والسيطرة فيها إلى الأبد."
يُحكم المستوطنون الآن قبضتهم على أراضي الضفة الغربية. كان المستوطنون قبل التوقيع على اتفاقيات أوسلو يضطرون إلى تجاوز الخط الأخضر باتجاه إسرائيل إذا ما أرادوا الذهاب إلى العمل هناك، أما الآن فهناك تسعة عشر منطقة صناعية، وثمة المزيد مما هو قيد الإنشاء، ناهيك عن المساحات الزراعية المتاحة لهم. 

تحت أسماء جذابة مثل بوابة الصحراء ومزرعة الكرز يرزعون كل شيء من العنب إلى الماشية.

أما بالنسبة للمزارعين من أهل البلاد الأصليين، فقد غدت الحياة هنا غاية في الصعوبة. يكاد يكون استخدام الطرق الترابية مستحيلاً بسبب الدوريات العسكرية الإسرائيلية.

يقول جمعة: "لا مفر من العودة إلى السكن في الكهوف وإلى امتطاء الحمير."

شلل في رام الله


يعتبر هاني المصري أحد الصحفيين الفلسطينيين الرائدين ومن كبار المعلقين السياسيين.

كان المصري، الذي يعمل مديراً عاماً لمسارات، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسة والدراسات الاستراتيجية، يعتبر نفسه ذات يوم واحداً من أبناء فتح وعلى علاقة وثيقة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس.

لم يعد الأمر كذلك. يقول المصري: "في آخر مرة رآني فيها انفجر غاضباً في وجهي حتى قبل أن أنطق ببنت شفة."

وسبب ذلك السخط على هاني المصري واضح. فقد غدا هاني المصري واحداً من أشد ناقدي محمود عباس عليه، وإن كان من أكثرهم اطلاعاً.

يقول المصري: "منذ وقت طويل ورام الله خالية من أي قيادة. في البداية تفاخر أبو مازن بأن إسرائيل ستعطيه أكثر مما أعطت ياسر عرفات، لأنه (أي عباس) معتدل وضد العنف. ولكن في الواقع، كان إخفاقه أشد من إخفاق عرفات."

ويضيف: "كان رده على كل إخفاق الرغبة في المزيد من التفاوض، ولكن مشكلته تكمن في أن إسرائيل غير معنية بالتفاوض. وبدون تفاوض تنهار شرعيته، ليس فقط لأنه لا يوجد لديه برنامج وطني، ولكن لأن جميع مصادر شرعيته قد نضبت."

مر ما يقرب من ثلاثين عاماً على توقيع اتفاقيات أوسلو، وها هو الرئيس البالغ من العمر سبعة وثمانين عاماً يربض على كومة من الحطام الذي آل إليه الكيان الفلسطيني الشبيه بالدولة.

يقول المصري: "لا يوجد فتح، ولا يوجد منظمة تحرير، ولا يوجد انتخابات، ولا يوجد سلطة، ولا يوجد مجتمع مدني، ولا يوجد إعلام مستقل."

كما لا يدهشه أن يختار محمود عباس حسين الشيخ خليفة له. وكان حسين الشيخ قد هبط بالمظلة في شهر أيار/مايو ليحتل منصب أمين عام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

يكشف هاني المصري عن دافع عباس من اختيار حسين الشيخ خليفة له، فيقول: "سئل لماذا اختار حسين الشيخ فأجاب عباس: لأنه ذكي. طلبت من اللجنة المركزية الاختيار فلم يتفقوا، فاخترت الشخص الذكي من بينهم."

ويضيف المصري: "قيل له رداً على ذلك: ولكن حسين الشيخ لا شعبية له. فقال محمود عباس: ولا أنا لدي شعبية."

يتفق هاني المصري مع هذا الاعتراف الصريح. فبحسب استطلاعات للرأي أجريت على مدى عدة سنوات، كان ما بين ستين إلى ثمانين بالمائة ممن استطلعت آراؤهم باستمرار يريدون من محمود عباس أن يستقيل.

لم يكن محمود عباس مخطئاً تماماً فيما يتعلق باللجنة المركزية، وذلك أن العناصر الوازنة داخل فتح – ناصر القدوة (في المنفى)، وجبريل الرجوب، ومحمود العالول، ومحمد دحلان (في المنفى) – يخوضون معاركهم الخاصة بهم.

أما حركة حماس، التي تعرضت قيادتها في الضفة الغربية للتدمير بفعل الاعتقالات الليلية المتكررة، فترفض المشاركة في معركة الخلافة على قيادة السلطة، وكذلك كان قرار الفصائل الفلسطينية الأخرى، إذ يعتبرون الأمر شأناً فتحاوياً داخلياً.

يقول هاني المصري: "نصحتهم بأن يعملوا معاً، ولكنهم لا يفعلون ذلك. أبو مازن حاذق في شيء واحد، وهو أنه يعرف كيف يبث الشقاق فيما بينهم. لقد قال لأحد أعضاء اللجنة المركزية: أنت ستكون خليفتي من بعدي. وكل منهم يظن أنه الشخص المخول بذلك. هناك قول مأثور باللغة العربية، وهو: إذا كنت لا تملك حصاناً، فعليك أن تسرج حماراً."

ما إذا كان وصف الحمار ينطبق على حسين الشيخ أم لا، فهذا ما ستكشف عنه الأيام، ولكن حسين الشيخ يعتقد أنه حصل على موقعه في الشمس عن جدارة، وهو الذي قضى ذاته فترة في الاعتقال لدى إسرائيل. إلا أن بعض الناس لا يقتنع بذلك.

من خلال تحمله لمسؤولية تنسيق العلاقة ما بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، اكتسب حسين الشيخ لقب "المتحدث باسم الاحتلال". وهناك كلمة أخرى هي "التعاون"، والتي تستخدم لوصف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الإسرائيلية.

ثمة اتفاق غير مكتوب بينه وبين مسؤول قوات أمن السلطة الفلسطينية ماجد فرج، وهو المسؤول الآخر الوحيد الذي من المحتمل أن يكون مقبولاً من قبل إسرائيل ومقبولاً كذلك في واشنطن.

ولكن رغم كل ما يتمتع به من نفوذ كرئيس لقوات الأمن الوقائي في السلطة الفلسطينية لم يفلح ماجد فرج في الفوز بمقعد في اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

في استطلاع للرأي نظمه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر يونيو / حزيران، كانت شعبية حسين الشيخ لا تتجاوز ثلاثة بالمائة – مع نسبة خطأ محتملة تتراوح بين زائد وناقص ثلاثة بالمائة.

يقول هاني المصري: "يحتاجان إلى بعضهما البعض. فأحدهما قناة اتصال مع إسرائيل والآخر قناة اتصال مع الولايات المتحدة. وإسرائيل ليست مستعدة بعد لوضع جميع بيضها في سلة واحدة."

ومع ذلك، يحرص حسين الشيخ على أن يكون محل اهتمام واشنطن، ولذلك فهو يكثر الحديث عن احتمال تشظي السلطة الفلسطينية وإمكانية وقوع صدامات بين فصائل مسلحة متنافسة داخل حركة فتح، وهدفه من ذلك هو إثبات الحاجة الماسة لاستمرار السلطة الفلسطينية.

في مقابلة مع صحيفة ذي نيويورك تايمز نشرتها في شهر يوليو / تموز، قال حسين الشيخ: "لو أنني قررت حل السلطة الفلسطينية، فما هو البديل؟"

وأضاف يقول: "البديل هو العنف والفوضى وسفك الدماء. أعلم يقيناً ما هي عواقب مثل ذلك القرار. وأعلم أن الفلسطينيين هم من سيدفع الثمن."

ولكن فيما لو ماتت أوسلو واحتضرت السلطة الفلسطينية، فمن المؤكد أن تكون تلك أيضاً نهاية الممارسة التي ما فتئت حتى الآن تقضي بانتخاب فقط مرشحين وظيفتهم الأساسية هو تسهيل الاحتلال الإسرائيلي وضمان استمراره.

وهذا ما يراه أيضاً مصطفى البرغوتي، زعيم ومؤسس المبادرة الوطنية الفلسطينية، والرجل الذي حصل على أعلى نسبة أصوات بعد محمود عباس في انتخابات عام 2005.

يقول البرغوتي: "إنها لحظة بالغة الخطورة، والذين يعتقدون أن بإمكانهم فرض أشخاص معينين على الشعب الفلسطيني عليهم أن يتوخوا الحذر الشديد، لأن ما تبقى من شرعية واحترام سوف يتبخر إذا لم تكن لدينا عملية ديمقراطية حسب الأصول ولم يتحقق الإجماع بين الفلسطينيين."

ثلاث أزمات تسبب الشلل للسلطة الفلسطينية. أما الأولى فهي الإخفاق في تنفيذ برنامج بناء الدولة، وأما الثانية فهي عدم القدرة على تقديم استراتيجية بديلة، وأما الثالثة فهي التسبب في الانقسام الداخلي وقتل الانتخابات.

يقول البرغوثي: "لقد قتلوا ما كان متاحاً لدينا من عملية ديمقراطية بسيطة جداً من خلال إلغاء الانتخابات. ولما فعلوا ذلك، فلقد ألغوا عملية المشاركة، وألغوا حق الشعب في اختيار قادته، وسدوا الطريق تماماً في وجه الجيل الجديد. كيف يمكن للشباب في فلسطين أن يتمكنوا ويصبح لهم نفوذ في السياسة؟ كيف؟"

قبل يوم من لقائنا مع هاني المصري، اندلعت ألسنة النيران في نابلس، حيث انفجرت صدامات مسلحة بين المتظاهرين – وكثيرون منهم من حركة فتح – وبين قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على إثر اعتقال قائد كبير في حركة حماس اسمه مصعب اشتيه، وهو رجل مطلوب من قبل إسرائيل.

وفي تبادل إطلاق النار قتل رجل فلسطيني اسمه فراس يعيش يبلغ من العمر ثلاثة وخمسين عاماً وأصيب آخر بجراح وحالته حرجة.

استهدف مسلحون المقر الرئيسي للسلطة الفلسطينية في المنطقة وأطلقوا عليه النار احتجاجاً على سياسات السلطة. ومن أجل تهدئة الأوضاع في المدينة، قالت السلطة الفلسطينية إنها تتحفظ على اشتيه من أجل حمايته هو. ولكن منذ ذلك الحين أعلن اشتيه الإضراب عن الطعام بينما رفضت السلطة مرتين السماح لمحاميه بالتواصل معه.

يقول هاني المصري: "بدون دعم إسرائيل قد تنهار السلطة الفلسطينية خلال شهور قليلة. لقد رأيت ما جرى في نابلس. لقد اشتعلت النيران في كل مناطق نابلس، وليس فقط في البلدة القديمة، وإنما حتى في الضواحي."

ومضى يقول: "وهذا يعني أن الأغلبية تؤيد المقاتلين المعارضين الذين يقفون ضد السلطة الفلسطينية. ولو تراجعت السلطة الفلسطينية عن وعودها بإخلاء سراح اشتيه، ومعاملته كقضية وطنية، وليس كقضية جنائية، أظن أن الحركة الاحتجاجية ستتسع وتصبح أضخم بكثير."

وأضاف المصري: "مشكلتنا هي كالتالي: نحن نريد التغيير، ولكن شروط التغيير لم تنضج بعد. وأنا أخشى من سيناريو الفوضى، وليس من سيناريو التغيير."

المقاومة في مخيم جنين

يزداد زخم المداهمات الإسرائيلية الليلية في كل أنحاء الضفة الغربية، وكذلك هو حال جميع مؤشرات الاحتلال في عهد الائتلاف الحكومي لنفتالي بينيت ويائير لابيد.

تقارن حركة السلام الآن، وهي مجموعة ضغط إسرائيلية تدعو إلى حل الدولتين، الاحتلال في عهد هذا الائتلاف مع الاحتلال في عهد إدارة بنيامين نتنياهو، من حيث تخطيط المستوطنات، والمناقصات، والبدء بأعمال البناء، والمواقع الاستيطانية الجديدة، وهدم البيوت، واعتداءات المستوطنين، وقتل الفلسطينيين.

ارتفعت المعدلات في جميع التصنيفات. فقد شهد هدم المنازل زيادة قدرها 35 بالمائة، بينما حصلت قفزة بنسبة 62 بالمائة فيما يتعلق بالبدء بأعمال البناء، وزيادة قدرها 26 بالمائة في زيادة التخطيط للوحدات السكنية. وفيما يتعلق بالعنف الذي يمارسه المستوطنون فقد زادت نسبته بما يقرب من 45 بالمائة.

وطبقاً لبيانات الأمم المتحدة، قتل ما لا يقل عن 85 فلسطينياً في الضفة الغربية ما بين بداية العام والحادي عشر من سبتمبر مقارنة بما معدله 41 في عهد نتنياهو – وما لبث الرقم أن تجاوز المائة بالنسبة للمعدل للسنوي بعد شهر من ذلك، مما يؤهل عام 2022 ليكون السنة التي حصد فيها العنف أكبر عدد من الأرواح في الضفة الغربية منذ ما يزيد عن عقد من الزمن.

تخفي صورة لابيد كزعيم معتدل على المسرح الدولي موجة لا هوادة فيها من عنف الدولة ضد المدنيين الفلسطينيين.

كثيرون يقضون نحبهم في حوادث إطلاق نار، تظل التفاصيل الدقيقة فيها غير واضحة ولا تحظى بتاتاً بتحقيق مستقل في ملابساتها.

في حادثة أخيرة بعينها، قتل شابان فلسطينيان وجرح ثالث يوم الاثنين بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار علي سيارة بالقرب من مخيم الجزلون، إلى الشمال من رام الله.

يقول الجيش الإسرائيلي إنه قضى على متهمين، زاعماً أنهما حاولا تنفيذ عملية دهس ضد جنود قوات الدفاع الإسرائيلية. وقال الجيش إنه قتل اثنين وجرح الثالث.

أعلن عن أن القتيلين هما باسل بسبوس وخالد الدباس، وكلاهما من مخيم الجزلون. إلا أن لجنة الأسرى التابعة للسلطة الفلسطينية قالت إنهم زاروا أحد المستشفيات في القدس ورأوا هناك باسل بسبوس وهو يتلقى العلاج من جروح أصيب بها.

توقف السلطات الإسرائيلية منذ وقت طويل عن تأكيد من هو المتوفى ومن هو الجريح، ناهيك عن أن تعيد جثث الموتى إلى أسرهم للقيام بإجراءات الدفن.

سمع يحيى الزبيدي من وسائل الإعلام الإسرائيلية أن شقيقه داود توفي متأثراً بجراحه في مستشفى حيفا، إلا أن المستشفى رفض تسليم الجثة.

قاتل الزبيدي في الانتفاضة الثانية، التي انطلقت في عام 2000، وقضى ستة عشر عاماً في السجن ما بين 2002 و 2018. وكان شقيقه، زكريا الزبيدي، واحداً من الأسرى الستة الذين هربوا من سجن غلبورا في سبتمبر / أيلول من عام 2021، وما لبثوا بعد ذلك أن أعيد اعتقالهم الواحد تلو الآخر.

يقول الزبيدي: "لم تغيرني السنون التي قضيتها في السجن، ولكني أفهم عدوي جيداً. لم يجعلنا السجن نتوقف أبداً. سميت نجلي أسامة، على اسم صديق لي تعرض للقتل. والولد الآخر اسمه محمد، والثالث داود على اسم شقيقي."

تورث المقاومة بالفعل من جيل إلى جيل.


كان اشتيه، رجل حماس الذي ألقي القبض عليه في نابلس، مقرباً من إبراهيم النابلسي، القيادي في الجناح العسكري لحركة فتح، كتائب شهداء الأقصى، الذي أطلقت عليه القوات الإسرائيلية النار وأردته قتيلاً في شهر أغسطس / آب.

كان النابلسي، والذي كان دون العشرين من عمره، نجل أحد كبار ضباط المخابرات في السلطة الفلسطينية.

يقول والد النابلسي، أي ضابط المخابرات في السلطة الفلسطينية: "كان إبراهيم هو الذي يتصيدهم (أي الجنود الإسرائيليين) وليس العكس. كلما سمع عن مداهمة ينفذها الجيش الإسرائيلي كان أول من يخرج لمواجهتهم. ذلك كان قدره. الحمد لله على ذلك."

ترك النجل البالغ من العمر 18 سنة رسالة أوصى فيها بأن تلف جثته بالعلم الفلسطيني وليس بعلم الفصيل الذي كان ينتمي إليه.

يقول مصطفى البرغوتي: "وذلك في حد ذاته مؤشر مهم على وعي جديد آخذ في التنامي في أوساط الشباب الفلسطيني."

حولت لبنى العموري منزلها إلى مزار لنجلها المتوفى جميل، القائد الشاب في الجهاد الإسلامي داخل المخيم، والذي حوصر في كمين نصب له أثناء توجهه لحضور زفاف صديق له قبل عام.

وعندما حاول الهرب أطلق عليه الرصاص في ظهره. كما قتل في تبادل إطلاق النار ضابطا أمن فلسطينيان. تراها تمزج بين فخرها بنجلها، الذي اعتبر بطلاً محلياً، وبين حزنها كأم على فراقه.

تقول لبني: "في المدرسة كان جميل يتشوق للانضمام إلى المقاومة، ولكنني لم أكن أسمح له. اشتريت له سيارة ودفعت به نحو العمل. أردت له أن يكون سائق أجرة، ولكنه باع السيارة واشترى بثمنها بندقية، وبدأ بنفسه دون أن تقف من ورائه أي جماعة. ولم يكن في الجهاد منذ ستة شهور قبل وفاته."

انهمرت الدموع من عينيها وهي تتحدث عن نجلها قائلة: "كان ولداً صالحاً. كان يقدم كل ما يتوفر لديه من مال أو طعام للعائلات الفقيرة. غضب بسبب الأحداث في القدس، حينما وقع اجتياح المسجد الأقصى. ورأى ما كان يحدث في الضفة الغربية ولم يتمكن من منع نفسه من المشاركة."

وأضافت: "لا نعرف طعم الراحة داخل المخيم. ولكننا لا نكف عن الاعتناء ببعضنا البعض. لا تجد في المخيم من يفكر بالمستقبل. لدي ابنان آخران، وقد شاهدا ما جرى لشقيقهما. ولذلك بت أخشى عليهما. عندما أسمع إطلاق نار، يهرع الجميع إلى الداخل."

سألت الزبيدي ما إذا كان يظن بأنه سيرى نهاية الاحتلال في حياته.

أجاب بدون أدنى تردد: "نعم."

وأضاف: "الاحتلال ينهار، فهو يفشل عاماً بعد عام.  نحن مقاتلون صالحون. وهم يحاولون تغيير الأرض لأنهم يفهمون أن لنا الحق فيها وأنها تعود لنا."

أشار الزبيدي إلى المباني في مخيم جنين وقد طليت باللون الأصفر. إنها المباني التي أعيد إنشاؤها من حطام معركة جنين في عام 2002 حينما قامت القوات الإسرائيلية بتجريف الأحياء لشق طريق لها عبر المخيم. قتل في القتال حينذاك ما بين 52 و 54 فلسطينياً بالإضافة إلى 23 جندياً إسرائيلياً.

وبينما كنا نتحدث انضم إلينا رجل اسمه محمد يصف نفسه بأنه من الناجين من تلك المعركة.

كان محمد حينذاك صبياً وكان يمكث يومها داخل البيت مع أمه وأبيه. كانت أمه تخبز الخبز للمقاتلين في الشوارع في الخارج، حسبما يتذكر. ويتذكر أيضاً أن انفجاراً وقع وساد الضباب في الغرفة. كانت والدته ملقاة فوق الخبز وتنزف، وكانت تغيب عن الوعي تارة وتصحو تارة أخرى.

يقول محمد: "غفوت إلى جانبها. طلبنا سيارة الإسعاف، ولكن الإسرائيليين منعوها من الوصول إلينا. وفي الصباح صحوت من نومي لأجد والدي يغطي والدتي بخمار، ويقول لي: هي نائمة وأنت الآن معي."

قال محمد إنه سمى ابنته مريم على اسم والدته.

مخيم جنين محرر من السلطة الفلسطينية، التي لا تجرؤ على دخوله، ومحرر كذلك من الاحتلال الإسرائيلي. لا توجد مستوطنات حول جنين، ولذا فإن جميع الفصائل الفلسطينية المسلحة هي القانون.

أبو أيمن هو الاسم الحركي لقائد الجهاد الإسلامي داخل المخيم.

يقول أبو أيمن: "جميع الفصائل في داخل جنين هي نفس الشيء. لا أحد منا يقبل ما يفعله عباس، ومن غير الوارد أن يقبل أي منا برجل مثل الشيخ. نحن لا نعترف بالانتخابات ولا بالبرلمان."

ويضيف: "لدينا وحدة. وإذا واجهنا أي مشكلة، فنحن لا نتكلم مع السلطة الفلسطينية ونطلب منهم المجيء لمساعدتنا. لدينا كل ما نحتاجه، وحتى المال."

ثم يقول: "في داخل المخيم، نحترم بعضنا البعض، حتى الأطراف المختلفة. لا يمكن للناس أن يعيشوا هكذا {تحت الاحتلال} إلى الأبد. ولسوف تبقى المقاومة. نحن نعيش في حرية هنا، وهو الإحساس الذي يرنو إليه الجميع في فلسطين."

إلا أن مخيم جنين يدفع ثمناً باهظاً مقابل حريته النسبية. ففي كل شهر تقع مداهمات دموية. بعد أيام قليلة من لقائنا، نجا أبو أيمن بصعوبة من كمين نصبته له قوات الأمن الإسرائيلية داخل غابة بجوار المخيم.

وعن ذلك يقول: "أنا الآن في قائمة أكثر المطلوبين إسرائيلياً."

ويقول الزبيدي: "الإيمان بكرامتنا هو كالإيمان بالله. ما الذي أريده في الحياة؟ أريد أن يشعر ابني بالأمان. ماذا تتوقعون من هذا الشعب؟ نحن نواجه الظلم ويريدون منا أن نجلس هادئين في بيوتنا. ما الذي تتوقعونه؟"

 ترجمة موقع"عربي21"

نقلا عن "ميدل إيست آي"


ترجمة  موقع Middle East Eye البريطاني.

تشكّل قرية التواني نهاية الطريق. إنها هكذا حرفياً. فخلفها يوجد طريق لإحدى المستوطنات، الذي يبدأ في القدس وينتهي عند جنوب جبل الخليل.

أما أمامها، فتوجد منطقة مسافر يطا، وهي عبارة عن منطقة تغطي مساحة 30 كيلومتراً مربعاً، أعلنتها إسرائيل منطقة إطلاق نار عسكرية في ثمانينيات القرن الماضي.

يتورط سكان مسافر يطا، البالغ عددهم 2500 فلسطيني، بصورة يومية في معارك ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين.

في الصباح الذي وصلت فيه إلى قرية التواني، نظر أشرف محمود العمور بهدوء إلى كتلة من الجدران المتهاوية. كانت هذه أطلال منزله. هدمته جرافة قبل ساعات. ما أدهشه أن الجنود تركوا السقيفة التي كانت على اليسار وحظيرة الدجاج على اليمين، وكلا المكانين صدرت أوامر بهدمه.

قال العمور: "سأخبرك أين ننام في الليل، مع الدجاج والماعز".

أضاف العمور، الذي لديه خمسة من الأبناء والبنات: "كل ما يريدونه هو مغادرتنا. هدم المنازل، وحظرنا من الوصول إلى الحقول، وإرهابنا طوال الوقت عن طريق الجنود والمستوطنين في الجوار، واحتلال منازلنا، واعتقالنا. ونعرف أن ما يريدونه من هذا هو إبعادنا. هذا هو التحدي الذي نقبله".

وتابع قائلاً: "إنهم يحاولون أن يُظهروا للعالم أننا نحن الإرهابيون. فمن هم الإرهابيون؟ نحاول البقاء في بيوتنا. هم الذين يرهبوننا. سوف أبقى هنا حتى لو اضطررت للنوم تحت صخرة".

ثمة لافتتان على بُعد بضع خطوات من الطريق الترابي. تقول اللافتة الأولى: "مساعدات إنسانية إلى الفلسطينيين الذين يواجهون خطر التهجير القسري في الضفة الغربية"، مع شعارات 11 وكالة إغاثة حكومية تابعة للاتحاد الأوروبي.

لا يحمل تعبير الدعم الدولي قيمةً كبيرةً في ردع المستوطنين، ففوق اللافتة تُعرض صورة لهارون أبو عرام، البالغ من العمر 26 عاماً.

يرقد أبو عرام اليوم مشلولاً في مستشفى بعد أن كان يحاول الدفاع عن المغارة التي يعيش فيها.

كان مزارعٌ آخر يدعى حافظ الهريني، محظوظاً لنجاته بذراعين مكسورين.

تعرض الهريني لهجوم من خمسة مستوطنين مُقنَّعِين ومسلحين بمواسير معدنية، وفي صحبتهم جنود كانوا خارج الخدمة يطلقون الرصاص في الهواء، بينما كان الهريني متجهاً إلى أرضه. دافع الهريني عن نفسه بمجرفة. 

قال ابنه سامي: "كانوا خمسة ضد رجلٍ يبلغ من العمر 52 عاماً. عندما وصلت إليه، كان أبي ينزف من ذراعه اليمنى ويمسك ذراعه اليسرى. جاء آخرون من أهل القرية خلفي، وجاء كثير من المستوطنين والشرطة".

قالت الشرطة حينها إنهم سيلقون القبض على الرجل المصاب.

تذكر سامي ما حدث وقال: "في تلك اللحظة بدأنا نثور غاضبين. وقف المستوطنون أمام سيارة الإسعاف. وضعنا أبي داخل سيارة الإسعاف. بدأ المستوطنون في طعن إطارات سيارات الهلال الأحمر كي تعجز عن التحرك".

وتابع: "صار الجيش قاسياً للغاية واجتاحنا. طاردونا من الموقع واستمروا في مطاردتنا. ثم نقلوا أبي داخل سيارة إسعاف عسكرية".

وبعد ذلك بدأت 10 أيام من اعتقال الهريني، الضحية الذي تعرض لهجوم المستوطنين.

نُقل الهريني إلى سجن عوفر، بعد اعتقاله للاشتباه في تسببه في أذى جسدي خطير للمستوطن الذي هاجمه، عُقدت محكمة عسكرية للحكم عليه بأكثر من 12 عاماً في السجن. وانهارت بأعجوبة قضية المُدعي العام ضده.

عُرض أمام المحكمة فيديو يعرض الحادث برمته. انتقد القاضي الشرطة للتأخر لأكثر من أسبوع قبل استجواب المستوطنين.

أشارت محامية الهريني، ريهام نصرة، إلى أن الشرطة فعلت ذلك كي تجعل الأدلة غير صالحة للاستخدام في المحكمة. وأوضحت: "المؤامرة التي حيكت ضد حافظ الهريني دُحضت بمجرد وصول الفيديو، الذي يوثق تعرضه للهجوم عن طريق مستوطنين مسلحين ومقنعين، إلى الشرطة والشعب".

وأضافت: "أيام اعتقاله العشرة كانت تستهدف فقط حجب الحقيقة والإبقاء على الرواية الزائفة التي اخترعها من اتهموه. من أجل هذا امتنعت الشرطة عن استجواب مهاجميه تحت طائلة التحذير لمدة تسعة أيام، ومن ثم إفساد التحقيقات التي هي في صميم مسؤوليتهم".

لكن العدالة العسكرية كانت ذات نهاية مريرة. فعند إطلاق سراح الهريني، أمروه بدفع كفالة 10 آلاف شيكل (حوالي 2800 دولار) والابتعاد عن أرضه لـ30 يوماً، انتظاراً لمزيد من التحقيقات في الحادث. أما المستوطنون الذين نفذوا الهجوم والجنود الذين كانوا خارج الخدمة وأطلقوا 6 طلقات في الهواء، فجميعهم كانوا طلقاء.

يُعد سامي واحداً من جيل جديد من المزارعين والنشطاء العازمين على مقاومة شراسة الدولة الإسرائيلية في كل أشكالها: المستوطنين، والجنود، ورجال الشرطة، والمحاكم.

دشن سامي مجموعة تسمى "شباب صمود". نسمع كلمة "صمود" هذه كثيراً في جنوب جبل الخليل.

قال سامي: "كنا نعيش في كهف عندما طُردنا من قريتنا. أصلحنا كهفنا، ونصبنا الجدران، وأوصلنا المياه إليه من القرية. جَعَلَنَا المحتل ندفع ثمناً باهظاً. لديّ عظام مكسورة. يبلغ عنف الاستيطان أعلى مستوى".

يختلف هذا الجيل: فهم واثقون، وعازمون، ومتصلون بالإنترنت، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة.

أوضح سامي: "تتوقع إسرائيل أن يموت الكبار، ويتوقف الشباب، ولكن يحدث العكس".

وأضاف: "لا نتلقى أية أوامر لبدء النضال. ليس لدينا قادة ولا ننتمي إلى أي فصيل. بدأنا النضال بأنفسنا".

يبدو سامي متفائلاً، إذ يقول: "أي شخص في هذا الموقف كان سيفكر في المغادرة، لكننا نواصل الوجود، ونبتسم، ونبيِّن لهم أننا أحياء، ونبيِّن لهم أننا لا نستسلم. وذلك هو الشيء الذي يميز شعبنا، أن نبيِّن لهم أننا مدهشون".

لكن الناشط السياسي الفلسطيني المخضرم جمال جمعة يبدو أقل تفاؤلاً. قال جمعة: "الإسرائيليون يحولون الضفة الغربية حرفياً إلى شبكةٍ من محميات السكان الأصليين. إنهم يصممون الجغرافيا والديموغرافيا في الضفة الغربية بطريقة تضمن لهم استمرار الهيمنة والسيطرة عليها".

يُحكم المستوطنون الآن قبضتهم على تضاريس الضفة الغربية. قبل اتفاقية أوسلو، كان المستوطنون يضطرون لعبور الخط الأخضر إلى الأراضي المحتلة في 1984 كي يحصلوا على عمل. أما الآن، فلديهم 19 منطقة صناعية، وهناك المزيد قيد الإنشاء، فضلاً عن المناطق الزراعية.

ومن خلال الأسماء المبهجة التي على شاكلة "بوابة الصحراء" و"مزرعة الكرم"، يمارس هؤلاء المستوطنون كل ممارسات الزراعة: بدءاً من زراعة الكرم ووصولاً إلى تربية الماشية.

أما المزارعون من السكان الأصليين في هذه الأرض، فإن الحياة بالنسبة لهم صعبة للغاية. إذ إن الطرق الترابية كانت شبه مسدودة بسبب الدوريات العسكرية الإسرائيلية.

قال جمعة: "ستعود إلى حياة سكن الكهوف وركوب الحمير".

شلل في رام الله

يُعرف هاني المصري بأنه أحد أبرز الصحفيين والمعلقين السياسيين في فلسطين.

المصري، الذي يشغل منصب المدير العام للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، يعتبر نفسه أحد المطلعين على مجريات الأمور داخل حركة فتح، وأحد المقربين من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

لكنه لم يعد كذلك بعد الآن. قال المصري: "المرة الأخيرة التي رآني فيها، صار غاضباً قبل أن أحظى حتى بفرصة للحديث".

السبب الذي جعل المصري يخسر هذه المكانة يبدو واضحاً. صار المصري أحد أشد النقاد اللاذعين تجاه عباس، لكنه أحد أفضل النقاد المطلعين.

قال المصري: "لم تعد هناك قيادة في رام الله منذ وقت طويل. في البداية، تباهى أبو مازن بأن إسرائيل ستعطيه أكثر مما أعطت ياسر عرفات، لأنه كان معتدلاً ومناهضاً للعنف. ولكن في واقع الأمر، لقد فشل أكثر من عرفات".

وأوضح: "كانت ردة فعله على كل فشل هي "مزيد من المفاوضات"، لكن مشكلته أن إسرائيل ليست مكترثة للمفاوضات. بدون المفاوضات، تنهار شرعيته، ليس فقط بسبب عدم امتلاكه مشروعاً وطنياً، بل لأن جميع مصادر شرعيته قد جفت".

بعد حوالي ثلاثة عقود من التوقيع على اتفاقيات أوسلو، صار الرئيس البالغ من العمر 87 عاماً رئيساً على حطام دولة فلسطينية في طور التكوين.

قال المصري: "ليس هناك فتح، وليس هناك منظمة التحرير الفلسطينية، وليس هناك انتخابات، وليس هناك سلطة، وليس هناك مجتمع مدني، وليس هناك إعلام مستقل".

ولم يكن مندهشاً كذلك عندما سلَّط عباس الضوء على حسين الشيخ ليكون خليفته. دُفع الشيخ نحو منصبه الرئيسي، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مايو/أيار.

وكشف المصري عن السبب الذي دفع عباس لاختيار الشيخ. قال المصري: "سُئل عن سبب اختيار المصري، فرد [عباس]: "لأنه ذكي. طلبت من اللجنة المركزية الاختيار ولم يتمكنوا من الاتفاق. ولذا اخترت الشخص الذكي بينهم".

لكن الرد جاء بعدم امتلاك الشيخ أية شعبية. فرد عباس: "أنا لا أملك أية شعبية"، وذلك حسبما أوضح المصري.

اتفق المصري مع هذا الرد الصريح. فبحسب استطلاعات الرأي على مدى أعوام كثيرة، فإن نسبة المستجيبين الذين يريدون استقالة عباس تتراوح بين 60% و80%.

لم يكن عباس مخطئاً في تعليقه على اللجنة المركزية؛ نظراً إلى أن الشخصيات ذات الثقل السياسي في صفوف فتح -ناصر القدوة (في المنفى)، وجبريل رجوب، ومحمود العالول، ومحمد دحلان (في المنفى)، يخوضون معاركهم الخاصة.

ترفض حماس، التي دُمرت قياداتها في الضفة الغربية بسبب الاعتقالات الليلية، المشاركة بأية وسيلةٍ في معركة الخلافة، مثلما هو الحال مع الفصائل الفلسطينية الأخرى. إذ تعده حماس والفصائل الأخرى أمراً يخص فتح وحدها.

قال المصري: "نصحتهم بأن يعملوا معاً. لكنهم لا يفعلون ذلك. أبو مازن ذكي في مسألة. إنه يعرف كيف يفرقهم. قال لأحد أعضاء اللجنة المركزية: "أنت خليفتي". يعتقد كل منهم أنه قادر على القيام بذلك. ثمة تعبير في اللغة العربية يقول: لأن الخيل قد قلت تحلت حمير الحي بالسرج الأنيق".

لم يتضح بعد ما إذا كان الشيخ يلائم وصف الحمار. يعتقد الشيخ أنه حصل على مكانة بارزة، بالنظر إلى سجنه لبعض الوقت في السجون الإسرائيلية. ثمة آخرون أقل اقتناعاً بذلك.

يعد الشيخ مسؤولاً عن العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ومن ثم فقد حظي بالفعل بالشرف المريب بأنه "متحدث بلسان الاحتلال". التعاون هي كلمة أخرى تُستخدم استخداماً متزايداً لوصف التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الإسرائيلية.

ثمة اتفاقية غير مكتوبة بينه وبين رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج، وهو المسؤول الفلسطيني الآخر الوحيد الذي يُرجح أن يحظى بقبول من جانب إسرائيل وواشنطن.

ورغم سلطاته عندما كان رئيساً لجهاز الأمن الوقائي ورئيساً حالياً لجهاز المخابرات العامة، لم يُنتخب فرج ضمن أعضاء اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

أجرى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية استطلاعاً للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو/حزيران، وكانت نسبة قبول الشيخ لخلافة عباس 3%، مع نسبة خطأ +/-3%.

قال المصري: "إنهما يحتاجان إلى بعضهما. أحدهما قناة إلى إسرائيل، والآخر قناة إلى الولايات المتحدة. حتى الآن، إسرائيل ليست مستعدة لوضع رهاناتها على ورقة واحدة".

غير أن الشيخ حريص على الظهور على رادار واشنطن. يستحضر الشيخ بالفعل شبح انهيار السلطة الفلسطينية واحتمالية وقوع اشتباكات بين عشائر حركة فتح المسلحة المتنافسة، لتكون حجة لاستمرار السلطة الفلسطينية.

قال الشيخ في حديث مع صحيفة The New York Times في يوليو/تموز: "إذا كنت سأفكك السلطة الفلسطينية، فما هو البديل؟ البديل هو العنف والفوضى وإراقة الدماء. أعرف تبعات ذلك القرار. أعرف أن الفلسطينيين سيدفعون الثمن".

ولكن إذا كانت اتفاقيات أوسلو ميتة والسلطة الفلسطينية تحتضر، فمن المؤكد أن الممارسة المتعلقة بانتخاب مرشحين، تكون وظيفتهم الأساسية فقط هي تسهيل الاحتلال الإسرائيلي بقدر الإمكان فحسب، ستكون بائدة هي الأخرى.

وهذا هو ما يعتقده كذلك مصطفى البرغوثي، قائد ومؤسس المبادرة الوطنية الفلسطينية، الذي حل في المركز الثاني خلف عباس في انتخابات السلطة الفلسطينية عام 2005.

قال البرغوثي: "إنها لحظة خطيرة للغاية وهؤلاء الذين يعتقدون أنهم يستطيعون فرض أشخاص بعينهم على إرادة الفلسطينيين سيتوجب عليهم أن يكونوا شديدي الحذر؛ لأن ما تبقى من شرعية واحترام سيزول إذا لم يكن لدينا عملية ديمقراطية واجبة وإجماع بين الفلسطينيين".

تكبل السلطة الفلسطينية ثلاث أزمات: الإخفاق في برنامجها لبناء الدولة، وعجزها عن تقديم استراتيجية بديلة، وخلق الانقسامات الداخلية وقتل الانتخابات.

قال البرغوثي: "لقد قتلوا العملية الديمقراطية الصغيرة التي لدينا عن طريق إلغاء الانتخابات. وبقيامهم بذلك، قضوا على حق الشعب في اختيار قادتهم، وسدوا الطريق تماماً أمام الجيل الأصغر. كيف يمكن لشاب في فلسطين أن يكون مؤثراً في السياسات؟ كيف؟".

في اليوم الذي سبق مقابلتنا مع المصري، اشتعلت الأمور في نابلس. اندلعت اشتباكات مسلحة بين المحتجين -كثير منهم من حركة فتح- وبين قوات السلطة الفلسطينية بعد اعتقال الناشط في حركة حماس مصعب اشتية، الذي تطارده إسرائيل.

قُتل الفلسطيني البالغ من العمر 53 عاماً، فراس يعيش، إثر إطلاق النار من جانب قوات السلطة الفلسطينية، وتعرض فلسطيني آخر لجروح خطيرة.

استهدف المسلحون مقارَّ السلطة الفلسطينية بالمنطقة بالرصاص احتجاجاً على سياسات السلطة. من أجل تهدئة الوضع في المدينة، قالت السلطة إنها كانت تحتجز اشتية لحمايته. ومنذ ذلك الحين بدأ إضراباً عن الطعام، ورفضت السلطة الفلسطينية مرتين زيارة محاميه.

قال المصري: "بدون دعم إسرائيل ستنهار السلطة الفلسطينية في غضون أشهر قليلة. ترى ما يحدث في نابلس، كل المناطق في نابلس كانت مشتعلة، ليس فقط في البلدة القديمة، بل في جميع المناطق".

وأوضح قائلاً: "يعني هذا أن الغالبية يدعمون المقاتلين الذين يقفون ضد السلطة الفلسطينية. إذا نكصت السلطة الفلسطينية عن وعودها بتحرير اشتية، ومعاملته بوصفه قضية وطنية وليس مجرماً، فأعتقد أن الحراك سيكون أكبر".

أضاف المصري: "مشكلتنا تكمن هنا. نحتاج إلى التغيير، لكن الظروف المطلوبة للتغيير ليست مواتية. إنني خائف من سيناريو الفوضى، لا من سيناريو التغيير".

المقاومة في مخيم جنين

تتصاعد وتيرة الغارات الإسرائيلية الليلية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وكذلك جميع بصمات الاحتلال في ظل تحالف نفتالي بينيت ويائير لابيد.

قارنت حركة "السلام الآن"، وهي مجموعة حقوقية إسرائيلية مؤيدة لحل الدولتين، ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في ظل هذا التحالف بالممارسات خلال إدارة بنيامين نتنياهو من حيث التخطيط لبناء المستوطنات وطرح المناقصات والبدء بأعمال البناء والبؤر الاستيطانية الجديدة وعمليات الهدم والتدمير وهجمات المستوطنين وأعداد الضحايا الفلسطينيين.

جاءت جميع النسب مرتفعة. كانت هناك زيادة بنسبة 35% في عمليات هدم المنازل وزيادة بنسبة 62% في بدء أعمال البناء الجديدة وزيادة بنسبة 26% في خطط بناء وحدات سكنية في حين تصاعدت وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بنسبة 45%.

وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 85 فلسطينياً في الضفة الغربية بين بداية العام الجاري و11 سبتمبر/أيلول، مقارنةً بمتوسط ​​سنوي بلغ 41 قتيلاً فلسطينياً في عهد نتنياهو، وقد ارتفع هذا الرقم بالفعل بمقدار ثلاثة أضعاف ليصبح عام 2022 أكثر الأعوام دموية في الضفة الغربية منذ أكثر من 10 سنوات.

يخفي لابيد وراء سُمعته على المسرح الدولي، بأنه السياسي المعتدل، موجة عنف لا هوادة فيها ضد المدنيين الفلسطينيين.

يموت كثيرون في حوادث إطلاق نار وتبقى التفاصيل الدقيقة لهذه الحوادث غامضة ولا تخضع لأي تحقيق مستقل.  

في حادث وقع مؤخراً، لقي شابان فلسطينيان مصرعهما وأصيب آخر يوم الاثنين بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار على سيارة بالقرب من مخيم "الجلزون" للاجئين الفلسطينيين شمالي رام الله.

أعلن الجيش الإسرائيلي أنه استطاع "تصفية" اثنين من "المشتبه بهم"، مدعياً أنهما "حاولا تنفيذ هجوم بالدهس ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي".

ينتمي هذان القتيلان الفلسطينيان، باسل بصبوص وخالد الدباس، إلى مخيم الجلزون. لكن هيئة شؤون الأسرى التابعة للسلطة الفلسطينية قالت إنَّها زارت أحد المستشفيات في القدس ورأوا باسل بصبوص مصاباً ويتلقى العلاج.

توقفت السلطات الإسرائيلية منذ فترة طويلة عن تأكيد هويات القتلى والمصابين، ناهيك عن إعادة جثث الموتى إلى عائلاتهم لدفنها.

عَلِم يحيى الزبيدي من وسائل الإعلام الإسرائيلية خبر وفاة شقيقه، داود، متأثراً بجراحه في مستشفى حيفا. لكن إدارة المستشفى رفض تسليم الجثة.

شارك الزبيدي في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي بدأت عام 2000، وقضى 16 عاماً في السجن بين عامي 2002 و2018. كان شقيقه زكريا واحداً من الأسرى الفلسطينيين الستة، الذين فروا من سجن جلبوع في سبتمبر/أيلول 2021 وأُلقي القبض عليهم جميعاً في وقتٍ ولاحق.

قال الزبيدي: "سنوات السجن لم تُغيّرني، لكني أفهم عدوي جيداً. السجن لم يثبط عزيمتنا قط. سَمّيت ابني أسامة على اسم صديق لي قتلته قوات الاحتلال. الولد الآخر اسمه محمد، والثالث داود، على اسم أخي".

المقاومة تنتقل بالفعل من جيلٍ إلى جيل.

كان مصعب اشتية، الناشط الحمساوي المعتقل في نابلس، مقرَّباً من إبراهيم النابلسي، القيادي البارز في كتائب شهداء الأقصى -الجناح العسكري لحركة "فتح" والذي قُتل برصاص القوات الإسرائيلية في أغسطس/آب.

إبراهيم النابلسي، الذي كان في أواخر سن المراهقة حين استشهد، هو نجل أحد كبار ضباط جهاز الأمن الوطني للسلطة الفلسطينية.

قال الوالد، النابلسي، إن "إبراهيم كان يطارد الجنود الإسرائيليين، وليس العكس. كلما سمع عن هجوم للجيش الإسرائيلي، كان أول مَن يخرج ويواجههم".

ترك الابن البالغ من العمر 18 عاماً رسالة مفادها أنه يريد لفَّ جسده بالعلم الفلسطيني بدلاً من علم الفصيل المنتمي له.

قال البرغوثي: "هذا في حد ذاته مؤشر مهم للغاية على وعيٍ جديد ينمو بين جيل الشباب الفلسطينيين".

حوَّلت لبنى العموري منزلها إلى ضريح لابنها المتوفى، جميل، وهو قيادي شاب في حركة الجهاد الإسلامي بمخيم جنين كان قد أُلقي القبض عليه في كمين، وهو في طريقه لحضور حفل زفاف أحد أصدقائه قبل عام.

أُصيب جميل برصاصة في ظهره أثناء محاولته الهرب، في حين قُتل اثنان من ضباط الأمن الفلسطيني في تبادل لإطلاق النار. تمزج لبنى العموري بين مشاعر الفخر بنجلها، الذي أشيد به باعتباره بطلاً، بآلام الحزن على فقدانه.

تنهمر الدموع من عيني لبنى بينما تتحدث عن ابنها قائلة: "في المدرسة، كان جميل يتوق إلى أن يكون جزءاً من المقاومة لكنني لم أسمح له بذلك. اشتريت له سيارة ليعمل عليها سائق سيارة أجرة، لكنه باع السيارة ليشتري سلاحاً نارياً، ثم بدأ ينفذ أعمال مقاومة بمفرده قبل أن يقرر الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي".

وأضافت: "كان ولداً صالحاً. لطالما كان يعطي ما بحوزته من مال أو طعام للعائلات الأكثر فقراً. استشاط غضباً من أحداث القدس واقتحام باحات المسجد الأقصى. شاهد ما كان يحدث في الضفة الغربية ولم يستطع منع نفسه من المشاركة".

وتابعت: "لا يهدأ لنا بال أبداً في هذا المخيم. لا أحد يفكر في المستقبل. لديَّ ولدان آخران رأيَا ما حدث لشقيقهما وأنا خائفة عليهما. عندما أسمع طلقات نارية، يتجه الجميع إلى الخارج".

عندما سألت الزبيدي عما إذا كان يعتقد أنه سيرى نهاية الاحتلال أثناء حياته، أجاب بدون تردد: "نعم".

وأضاف: "الاحتلال في طريقه للزوال. تتوالى نكساته سنة تلو الأخرى. نحن مقاتلون شرفاء بينما هم يحاولون تغيير هوية الأرض، لأنهم يدركون أنها من حقنا. نحن أصحاب هذه الأرض".

أشار الزبيدي إلى بنايات في مخيم جنين مطلية باللون الأصفر أُعيد بناؤها من أنقاض معركة جنين عام 2002 عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية المخيم مستخدمة الدبابات والقصف الجوي والمدفعي وواجهت مقاومة عنيفة، ما أسفر عن مقتل 23 جندياً إسرائيلياً واستشهاد ما بين 52 و54 فلسطينياً.

بينما نتحدث، انضم إلينا رجل، يُدعى محمد، يصف نفسه بأنه أحد الناجين من المعركة.

كان محمد صبياً في ذلك الوقت وموجوداً في المنزل في ذلك اليوم مع والدته ووالده. يتذكر أنَّ والدته كانت تخبز الخبز للمقاتلين في الشوارع بالخارج، ثم سمع دوي انفجار ورأى دخان كثيف يعبأ الغرفة. كانت والدته ملقاة فوق الخبز في حالة نزيف.

قال محمد: "نمت بجانبها. استدعينا سيارة إسعاف لكن الإسرائيليين منعوها من العبور. استيقظت في الصباح لأجد والدي يضع وشاحاً على جسد والدتي وقال لي "إنها نائمة وأنت معي الآن".

قال محمد إنه سمَّى ابنته، مريم، على اسم والدته.

ليس هناك أي وجود للسلطة الفلسطينية أو الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين، لذا، فإن جميع الفصائل الفلسطينية المسلحة هي الممثلة للقانون داخل المخيم.

قال أبو أيمن (اسم مستعار)، وهو قائد حركة الجهاد الإسلامي في المخيم، إنَّ "جميع الفصائل في جنين على قلب رجلٍ واحد. لا يقبل أحد منَّا ما يفعله محمود عباس، لكننا بالكاد نقبل رجلاً مثل حسين الشيخ. نحن لا نعترف بالانتخابات أو البرلمان".

وأضاف: "كلنا متحدون هنا. إذا واجهنا أي مشكلة، فإنَّنا لا نتواصل مع السلطة الفلسطينية لتأتي وتساعدنا. لدينا كل ما نحتاجه، حتى المال".

وتابع: "نحترم جميعاً بعضنا البعض داخل المخيم، حتى الأطراف المختلفة. لا يمكننا العيش تحت الاحتلال إلى الأبد. سنواصل المقاومة. نشعر هنا بحريتنا، وهذا ما يريد جميع الفلسطينيين أن يشعروا به".

يدفع مخيم جنين ثمناً باهظاً مقابل هذه الحرية النسبية. يتعرَّض المخيم كل شهر لغارات دامية تشنها القوات الإسرائيلية. بعد أيام قليلة من لقائنا، نجا أبو أيمن بصعوبة من كمين نصبته له قوات الأمن الإسرائيلية في غابة صغيرة بالقرب من المخيم.

وقال: "أنا الآن على قائمة المطلوبين لدى إسرائيل".

من جانبه، قال الزبيدي: "إيماننا بكرامتنا مثل إيماننا بالله. ماذا احتاج في الحياة؟ أريد أن يشعر ابني بالأمان. ماذا تتوقع من هذا الشعب؟ نواجه الظلم والقمع ويريدون منَّا البقاء في منازلنا هادئين. ماذا تتوقع منَّا؟". 

– مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق