الفرص العربية الضائعة (3).. الحلم المنشود
حالة عجيبة وغريبة تخيّم على أطراف الدول العربية التي تموج بالصراعات السياسية والعسكرية والفكرية المسلحة أو العنفية، تقف وراء إضاعة الفرص لتحقيق المصالحة والاستقرار والانشغال بتعمير الحاضر وبناء المستقبل. حالة بشعة أدت إلى تراكم الأنانية السياسية والبلادة العقلية، بصورة لا تنسجم مع السياق الراهن، ولا مع التحديات التي تواجهها المنطقة، وتطلعات شعوبها، ولا مع الخبرات التاريخية المعاصرة، ولا مع القيم الدينية والعرفية التي تربّت عليها أطراف الصراع.
هذه الحالة دفعت أطراف الصراعات باستمرار إلى التنافر والصدام بدلاً من التوافق والتصالح، وإلى فنون العنف والبطش والتنكيل بدلاً من اللين والتدبر والحكمة، وإلى المصادرة والإقصاء والتغييب بدلاً من الاعتراف والاستيعاب، وإلى الإسراع بالقطيعة والعداوة بدلاً من الإقرار بوحدة المواطنة والمصير، وإلى الاستقواء بالخارج بدلاً من الاحتماء بمظلة الوطن المشترك. وقد أدى ذلك إلى استسهال القتال واستساغة التدمير بدلاً من التمسك بالتفاوض والحوار والبحث عن الحلول التوافقية التي تؤمن بالفترات الانتقالية لبناء جسور الانتقال الآمن إلى مستقبل واعد ومستقر.
تفاصيل الأزمة اليمنية كثيرة، والخلافات معقّدة، والتدخلات الإقليمية عديدة، ولكن هذه التفاصيل والخلافات والتدخلات، يسهل التعامل معها عندما تتوقف آلة الحرب الصماء، وتسود آلة الحكمة، وتعلو مصلحة الوطن، ويتجذّر الإيمان بعبثية الحرب، وعجزها عن حسم الصراع، وبأن اليمن لأبنائه بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم، وأنه لا مفرّ من جلوسهم معا لوضع حدٍّ لهذا العبث.
اليمن الدامي.. لماذا يقتتلون؟ وإلى متى؟
كثيرة هي الفرص التي أضاعها أطراف الصراع في اليمن على مدى السنوات العشر الماضية، من أجل إيقاف الحرب وحفظ السلام وتحقيق الاستقرار والانشغال بإعادة البناء، سواء بوساطة عربية أو دولية، ولكن دون فائدة. وبمرور الوقت أصبحت العداوة مستحكمة بين أطراف الصراع، وأصبح كل منهم أكثر إصرارا على موقفه، وأكثر اقتناعا بصحة ما يقوم به، حتى لو كان الثمن آلاف القتلى والجرحى وملايين النازحين والمشردين واللاجئين، وتدمير الدولة ووأد مستقبل أجيالها.
لماذا يقتتلون؟ ولصالح من؟ أسئلة كثيرة لا يحب قادة أطراف الصراع في اليمن الإجابة عليها، لأنها تكشف بشاعة ما يجري. فهم يعرفون أنهم لن يستطيعوا حسم الصراع لصالح أي طرف، وحتى لو سلمنا جدلاً بذلك، فإن الطرف المهزوم لن يتوقف عن المناوءة ومعاودة القتال. هل يدرك المتصارعون في مختلف الأطراف حجم النتائج المترتبة على قتالهم؟ هل لديهم كشوف بأسماء القتلى والجرحى والأرامل والأيتام والمعاقين والمعتوهين الذين أذهبت الحرب والمعاناة عقولهم؟ هل يدركون النهاية التي سيؤول إليها اليمن، عندما لا يجدون خلاصا لهم إلا بتقسيم اليمن إلى دويلات وظيفية هشّة تتبع لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك؟
إلى متى سيستمر المتصارعون في هذه الحرب؟ ويغذي كل طرف أتباعه بشعارات وهمية تزيد من شهية الحرب لدى كل منهم؟ وما الذي حققه كل منهم طيلة هذه السنوات من القتل والدمار؟ هل ينتظرون أن يتحقق لهم في قادم الأيام ما لم يتحقق في سابقها؟
متى سيضعون أسلحتهم، ويجلسون إلى طاولة واحدة داخل اليمن تحت مظلة الإيمان اليماني والحكمة اليمانية، بعيداً عن كافة التدخلات والوساطات ليعيدوا لليمن سعادته التي دمرتها آلة الحرب العمياء، وليحققوا للشعب اليمني أحلامه بالعودة والاستقرار؟ كل يوم يطلع على أطراف الصراع في اليمن هو فرصة سانحة أمامهم لتحقيق هذه الأحلام، فهل يستعجلون في استغلال هذه الفرصة، وتصحيح مسار الصراع وتغيير آلياته وأدواته، ووضع الخطط الكفيلة بتحقيق التوافق الوطني الشامل؟
نعلم أن التفاصيل كثيرة، والخلافات معقّدة، والتدخلات الإقليمية عديدة، ولكن هذه التفاصيل والخلافات والتدخلات يسهل التعامل معها عندما تتوقف آلة الحرب الصماء، وتسود آلة الحكمة، وتعلو مصلحة الوطن، ويتجذّر الإيمان بعبثية الحرب، وعجزها عن حسم الصراع، وأن اليمن لأبنائه بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم، وأنه لا مفر من جلوسهم معاً لوضع حدٍّ لهذا العبث.
هل تغتنم الأطراف الليبية الفرصة القائمة لتكون الأخيرة في سبيل تعزيز إيقاف القتال، وتحقيق الاستقرار، وإعلان الانفراج الكامل للأزمة الليبية، بما يعزز المجال لعملية إعادة الإعمار وبناء المستقبل الليبي المنشود؟
ليبيا.. المراحل الانتقالية المحروقة
أضاع الليبيون فرصة تشكيل المجلس الانتقالي بعد سقوط القذافي أواخر عام 2011، باستعجالهم في الدخول في الانتخابات البرلمانية في يوليو/تموز 2012، أي بعد ثمانية أشهر على رحيل القذافي الذي حكم ليبيا حكما استبداديا قمعيا لأكثر من 30 عاما. وأضاعوا الفرصة الثانية بعد الانتخابات، وفشل القوى السياسية والاجتماعية في دعم الحكومة المنتخبة في تحقيق الاستقرار وتثبيت دعائم الدولة الوليدة، وهي نتيجة طبيعية لعملية حرق المراحل، والاستعجال في إنهاء الفترة الانتقالية قبل ترتيب الأوضاع وسد الفراغ الهائل الذي خلفه سقوط نظام القذافي. وسرعان ما دب العنف في العاصمة وأغلقت معظم السفارات أبوابها قبل أقل من عام على استلام الحكومة المنتخبة مقاليد السلطة.
وما هي إلا أشهر قليلة حتى أعلن اللواء المتعاقد خليفة حفتر الاستقلال بحكم شرق ليبيا، ليصبح في ليبيا حكومتان وبرلمانان، ثم تقدم بقواته باتجاه طرابلس للسيطرة على كامل البلاد، ولكن ائتلاف فجر ليبيا وقف في وجه حفتر، وسيطر على طرابلس، وعمل على تشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة فايز السراج، الذي لم ينجح في توحيد الصف الوطني بين شرق ليبيا وغربها، بسبب تعنت حفتر المدعوم من الدول العربية المناوئة لما يعرف بـ"الربيع العربي". وكانت الفرصة الثالثة بجهود الأمم المتحدة بعد اتفاق الصخيرات في المغرب أواخر 2015، إلا أنها فشلت كذلك في إخراج ليبيا إلى بر الأمان، بسبب استمرار الصراع المسلح بين حكومة الوفاق الوطني وقوات حفتر التي توسعت في الجنوب وتقدمت نحو طرابلس بعد أن تعزز موقفها العسكري بمساعدة عدة دول إقليمية، مما حدا بحكومة الوفاق الليبية إلى الاستعانة بتركيا التي أرسلت مجموعات من قواتها استطاعت أن تحقق التوازن ضد قوات حفتر.
ثم جاءت الفرصة الرابعة أواخر عام 2020 بتوقف الحرب، ونجاح الحوار بين حكومة الوفاق الوطني وحكومة حفتر، والاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية ثانية برئاسة عبد الحميد الدبيبة في فبراير/شباط 2021، على أن تقوم بإجراء انتخابات عامة في ديسمبر/كانون الأول 2021. ولكن الانتخابات لم تجرِ بسبب الخلافات بين الطرفين، ليعلن مجلس نواب طبرق في فبراير/شباط الماضي انتهاء فترة حكومة الدبيبة، وانتخاب فتحي باشاغا رئيسا للحكومة الليبية الانتقالية خلفاً له، إلا أن الدبيبة رفض ذلك، لتصبح ليبيا أول حكومة في العالم برئيسي وزراء، وكلاهما لا يعترف بالآخر.
نجحت الفرصة الرابعة في إيقاف الحرب، وهو إنجاز كبير في حد ذاته، ولكن الخلافات ما زالت حادة بشأن إجراء الانتخابات المؤجلة، وما زالت آلة الحرب بأيدي الأطراف المتنازعة، وما زالت الأطراف الخارجية تتربص عن كثب بكل التفاصيل. فهل تحرص الأطراف الليبية على اغتنام هذه الفرصة لتكون الأخيرة لتعزيز إيقاف الحرب، وتحقيق الاستقرار، وإعلان الانفراج الكامل للأزمة الليبية، بما يعزز المجال لعملية إعادة الإعمار وبناء المستقبل الليبي المنشود؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق