الأوراسية والعالم الإسلامي
عامر عبد المنعم
العالم اليوم على أعتاب نظام دولي جديد، حيث تطرح الدول الصاعدة فكرة الخلاص من الهيمنة الأمريكية، ويرفع الروس شعار التعددية القطبية ووضع نهاية لسيطرة حلف الأطلسي على العالم، ويدعو مفكرو روسيا الأوراسية منذ تنصيب الرئيس الروسي بوتين شعوب العالم إلى مناصرتهم في تحقيق حلمهم الإمبراطوري.
قطاع كبير في عالمنا العربي يصفق للروس ويراهن عليهم في تحقيق التوازن العالمي وكأنهم يحاربون لتحريرنا وتخليصنا من الهيمنة الأمريكية وليس لإقامة دولتهم التوسعية، وقطاع آخر يائس يواصل نشر الإحباط، يرى أن أمريكا هي زعيمة العالم وحدها، ولا أمل في إزاحتها عن موقعها المنفرد بالقيادة.
الحقيقة أن العالم يتغير ولكن ليس لصالح الروس ولا لصالح الأمريكيين، فلا الإمبراطورية الروسية القائمة على الأرثوذكسية والعرق السلافي ستعود، ولا الإمبراطورية الأمريكية التي كانت في أوج قوتها قبل غزو العراق وأفغانستان ستعود، فكلاهما في حالة أفول وزوال، وستستنزف الحرب الجارية في أوكرانيا الطرفين وتضع النهاية للطموحات الإمبراطورية لكل منهما.
لقد كان غزو الروس لأوكرانيا أكبر ضربة للقلب الذي كان أساس الإمبراطورية منذ حكم القياصرة الروس، فكيف تحيا الأوراسية الجديدة -التي تعني دمج أوربا وآسيا بقيادة روسيا- بعرق ممزق، وكنائس أرثوذكسية متصارعة؟!
الجيش الروسي متعثر اليوم في أوكرانيا، وحتى لو قرر بوتين استخدام السلاح النووي، فلا يمكن تحقيق النصر بجنود منهارين بلا روح، نراهم يفرون ويتركون أسلحتهم، ولكن هزيمة روسيا أو فشلها في تحقيق الحلم الأوراسي لا يعني نهاية روسيا بوصفها دولة إقليمية قوية، كما لا يعني انفراد أمريكا بالزعامة، فالولايات المتحدة اليوم تحارب من خلال وكلاء آخرين، وغير قادرة على القذف بأبنائها في حرب طويلة، بعد خسائر جيشها في العراق وأفغانستان، وهي تنسحب الآن من العالم الذي يتمرد عليها.
تاريخ الأوراسيين
الموقف من الهيمنة الأمريكية معلوم ولكن الموقف من الأفكار الروسية الأوراسية ملتبس، فلا يختلف كثيرون بالعالم العربي في إعادة تشكيل النظام الدولي، على أسس جديدة ترفض فكرة الهيمنة الخارجية، وتحترم حق الحضارات الأخرى في العيش بدون صدام، وطموحات الشعوب في الاستقلال وإدارة الموارد والثروات ووقف النهب الاستعماري، ولكن هل يحترم الأوراسيون حضارة المسلمين ودينهم؟!
الأوراسية ليست جديدة كما يصور مفكرو الروس المعاصرون، وإنما هي إعادة صياغة للأفكار التوسعية الروسية منذ إيفان وبطرس الأكبر وكاترينا؛ فالتاريخ يوضح أن الإمبراطورية الروسية منذ تأسيس إمارة موسكو كان عدوها الرئيسي هو الإسلام، وظل العداء حتى زمن الشيوعية طوال القرن العشرين وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي.
لا يختلف الروس عن الأنجلوساكسون الذين يهاجمونهم الآن، والذين أبادوا الهنود الحمر في أمريكا؛ فقد أباد القياصرة الروس شعوبا مسلمة بالقوة في القوقاز والفولجا والأورال وسيبيريا وشمال البحر الأسود والقرم، وساعدوا على قتل وتهجير المسلمين في البلقان واليونان وبلغاريا وارتكبوا الفظائع في أسوأ حروب عرفها التاريخ، وما زال المسلمون في جمهوريات آسيا الوسطى تحت القبضة الروسية التي لا ترحم.
أوراسيا وسوريا
لم يختلف الروس المعاصرون في رؤيتهم كثيرا عن سابقيهم، وأبلغ مثال معاصر للموقف الروسي من المسلمين ما يجري في سوريا، حيث يتعرض الشعب السوري لحملة إبادة بسلاح الجو الروسي؛ فالطائرات خربت القرى والمدن ودمرت كل شيء، وهم يتبعون سياسة الأرض المحروقة التي اعتادوا عليها في كل حروبهم، مع المسلمين وغير المسلمين كما يجري في أوكرانيا الآن.
ما هي صلة سوريا بأوراسيا؟ وبأي حق تحكم روسيا على الشعب السوري بالقتل والتهجير؟ وهل يتم تأسيس أوراسيا الجديدة باحتلال الأراضي والتخلص من سكانها بالقوة الغاشمة؟ وهل أوراسيا في خدمة الحكام المستبدين في العالم الإسلامي الكارهين لدينهم وأمتهم؟ وهل يتوقف الأمر عند سوريا؟ أم أن سوريا كانت نقطة انطلاق وتوسع إلى ما بعدها في العالم العربي وأفريقيا؟
بالتأكيد هناك معاملات للروس مع بعض الحكومات العربية والإسلامية ولكنها علاقات تجارية ومصلحية وتحت الاضطرار، وتزداد هذه العلاقات وتنقص حسب طبيعة الصراع الدولي والمكاسب التي تحققها روسيا من الطرف الآخر، ولكن عند أول اختبار يقف الروس مع الخصوم، وآخر هذه الاختبارات ما حدث في ملف سد النهضة عندما انحازوا إلى إثيوبيا رغم كل ما قدمته الإدارة المصرية لموسكو.
***
نحن مع أي جهد دولي للتعددية القطبية وإنهاء الهيمنة الغربية واستعادة الاستقلال واحترام التنوع الحضاري، ولكن الأهم هو احترام الإسلام وقبول الاختلاف، وعدم الاعتراض على حق المسلمين في الالتزام بدينهم، وليس من حق أي دولة أن تفرض علينا تصورها لديننا، أو أن تلعب بورقة الخلافات المذهبية لتفتيت العالم الإسلامي أو تطويعه.
إن رغبة شعوب العالم في الخلاص من الهيمنة الأمريكية لا يعني أن نستبدل بها هيمنة قطب آخر روسي، أو أن يقتسم الهيمنة قطبان، أو أن نظل عبيدا لأكثر من قطب؛ فالشعوب كفرت بالخضوع للإمبراطوريات التي أفسدت وسرقت الشعوب ونهبت الثروات، وتريد الآن تدمير الأرض بالأسلحة النووية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق