لبنان وإسرائيل: كاريش ومناقيش
الليلة التالية للإعلان عن التوصل إلى اتفاق بين لبنان والكيان الصهيوني لتعيين الحدود البحرية واستخراج الغاز، كان زعيم حزب الله اللبناني يحتفل وسط حشود من أنصاره بالضاحية الجنوبية لبيروت بمولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، بعد خمسة أيام من الاحتفال الرسمي به، حيث كان يوم عطلة رسمية.
في الاحتفال بمولد الرسول، احتفل نصر الله بمولد اتفاق الغاز، مفسّرًا تفاوت المواعيد بين الطوائف اللبنانية على أنه علامة تعدّد وتنوّع وثراء في الحفاوة بالذكرى، إذ يرى لبنان الرسمي، كسائر الدول العربية الإسلامية، أن مولد الرسول كان في الثاني عشر من ربيع الأول، بينما يذهب حزب الله ونصر الله إلى أنه ولد في السابع عشر من ربيع، وعليه فليكن الأسبوع كله احتفالات، كل على مذهبه وبالطريقة التي يريد.
كان نصر الله يشير إلى حضور ممثلين للرئاسات الثلاث في الاحتفال دليلًا على الوحدة، في إطار من التنوّع والتعدّد، متناولًا موضوع اتفاق الغاز مع الكيان الصهيوني بالمنطق ذاته، ينبغي استقباله بوصفه انتصارًا لكل لبنان، ما دام حزب الله يعدّه نصرًا، حتى لو كانت أطرافٌ أخرى تراه غير ذلك، من دون أن يفسّر لأحد فشل هذه الوحدة الغنية بمخزون التعدّد والتنوّع في تسمية رئيس للحكومة، والاتفاق على موعدٍ لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد أن مرّت فترة طويلة على انتهاء ولاية الرئيس الحالي دستوريًا.
حسنًا، شركاء الحكم والزعماء، مثل نصر الله، يعتبرونه انتصارًا تاريخيًا، بطعم انتصار المقاومة (نصر الله) في العام 2006، وكذا ترى فيه حكومة الاحتلال الصهيوني انتصارًا تاريخيًا، حتى وإن كان زعيم الليكود المعارض، بنيامين نتنياهو، يقول عنه "هذا ليس اتفاقاً تاريخياً مع لبنان بل هو استسلام إسرائيلي تاريخي". هذا منطقي للغاية، كون المطلوب أميركيًا إظهار لبنان منتصرًا، وأيضًا الكيان الصهيوني منتصرا، وليبقى المواطن العربي يضرب كفّا بكفّ وتساؤل هادر يعصف برأسه: إذا كانت الأطراف المتصارعة خرجت منتصرةً فمن الذي انهزم إذن؟.
المهزوم طوال الوقت هو الإنسان العربي المحروم من الحرّية فداءً لمشروع مقاومة العدو، والمحروم من الخبز سنوات ثمنًا للاتفاق مع هذا العدو، إذ يجد المواطن العربي اللبناني نفسَه طوال السنوات الماضية تحت حصارٍ شديد من الأزمات في العيش والمياه والطاقة، مصنوع بدقة شريرة، ليصبح السؤال عن ثمن مناقيش الزعتر والجبن مقدّمًا على الانشغال بتبعية حقل الغاز"كاريش" وخطوط الطول والعرض ومتاهة حدود الخط 23 والخط 29.
ليلة الاحتفال بمولد اتفاق الغاز كنت في بيروت، أشاهد احتفالية الضاحية الجنوبية بمولد النبي على التلفاز الذي لم تمسّه كهرباء الدولة اللبنانية منذ شهور، فصار هدير المولّدات الخاصة يغطّي على أزيز الطائرات، وفجأة سُمِعَ دوي تدفق مياه الدولة في صنابير البيوت المفتوحة على لا شيء طوال الوقت، فابتسم مضيفي قائلًا يبدو أن السفيرة الأميركية قرّرت مكافأة الشعب على توقيع الاتفاق بدقائق من الضخ.
واقع مقبض ومؤلم، مصنوع بعناية، حتى وصلنا إلى اللحظة التي تتقاسم فيها المقاومة والعدو السعادة بحدثٍ واحد، تم برعاية أميركية، تعطي الكيان الصهيوني حقل كاريش الذي بدأ باستخراج الغاز منه بالفعل، كاملًا غير منقوص، فيما يحصل لبنان على ثلثي حقل قانا، بينما يبقى لإسرائيل فيه ما يقترب من الثلث.
في التاسع من يونيو/ حزيران 2022، أي قبل نحو أربعة أشهر فقط، كان السيد حسن نصرالله يتوعد العدو، قائلًا بالنص: "نلتزم أمام الشعب اللبناني أن المقاومة قادرة عسكريا ومادّيا لمنع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش وكل اجراءاته لن تحمي هذه المنصة العائمة.. المقاومة تملك القدرة المادية والعسكرية والأمنية والمعلوماتية واللوجستية والبشرية لمنع العدو من استخراج النفط والغاز من حقل كاريش.. نحن لدينا هذه القدرة".
هذا كله مطلوبٌ أن ينساه المواطن اللبناني، كأنه لم يردّده أحد على مسامعه أصلًا، في غمرة الاحتفال بالنصر، وفي صخب الفرح بإعلان الشركة الفرنسية عن اقتراب عمليات التنقيب والاستكشاف، ليبدأ القطاف بعد سنوات، حسبما تذهب التقديرات إن وجدت أن المنطقة تحتوي على الغاز.
المشكلة أنهم لا يفهمون أن المواطن المعجون بالسياسة لن يقبل بشعار "المناقيش قبل كاريش أحيانًا"، ويقف ساخرًا من حواديت أكل العنب بدلًا من الدخول في قتالٍ مع الناطور، وخصوصًا حين يكون الناطور لصًا ومغتصبًا للحديقة كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق