السبت، 15 أكتوبر 2022

الوحدة.. الوحدة

الوحدة.. الوحدة

محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

كنتُ في ندوة يوما، وكان إلى جواري صحافي خبير بالشأن الباكستاني، قضى هناك نحوا من عشرين سنة، وأتيح لي أن أسأله عن الشعور الباكستاني العام لدى الساسة بالأمة وأهدافها ومستقبلها، ففاجأني بالقول: إن ما يسيطر على الشعور هناك هو التهديد الهندي، وربما الإيراني.. بينما من النادر أن تجد أحدا معنيا بالشأن العام للأمة، أو يفكر في سياسة باكستان كجزء من الأمة.. وهذا يشمل حتى المتدينين منهم.

ذَكَّرني هذا بحديث مشابه قبله بأعوام عن ماليزيا، وكانت إجابة صديقي الذي عاش هناك أمدا قريبا من هذا، مع استبدال التهديد بالعنصر الصيني.

ولما صدرت مذكرات إبراهيم غوشة عن مركز الزيتونة، تحدث فيها عن أنه التقى بأربكان حين كان رئيسا للوزراء فسأله عن الأولويات السياسية كما يراها، فقال أربكان: قضية قبرص، ثم البوسنة، ثم أذربيجان، ثم فلسطين!

أستطيع أن أتصور دهشة الفلسطيني حين يرى قضيته التي يحسبها القضية المركزية عند الأمة، حين يسمع زعيما مسلما يوصف بالراديكالية، يضعها في المرتبة الرابعة، بعد قضايا غريبة مثل قبرص وأذربيجان!!

ولا أريد أن أصدم محبي الخليفة المعظم السلطان أردوغان الكبير -دام ظله- فقد كنتُ في مجلسٍ يوما، مع د. سليم العوا -شفاه الله- فأخبرنا أنهم كانوا يوما ما في مؤتمر إسلامي، وسُئل القادة الإسلاميون عن أحلامهم، فبينما قال قائل: فلسطين، وقال قائل: وحدة الأمة، وقال قائل: فتح بلد ما، قال أردوغان يومها: أحلم بحل مشكلة المياه والصرف الصحي في اسطنبول.!

حسنا.. لماذا هذا الكلام الآن؟!

وقبل أن أقول لماذا، أحب أن أؤكد وأكرر أنني أتفهم وأعذر وألتمس الأسباب لكل هذه المواقف ولما هو أشدّ منها،

ذلك أن الأحلام الكبيرة يكون موطنها في الكتب والأشعار، وهنا على الفيس بوك وتويتر أيضا..

بينما ما إن يحاول المرء أن يعمل حتى يجد نفسه أمام مشكلات بسيطة وبدائية جدا،

مثل تجديد الإقامة في منفاه أو البحث عن عشاء في ليلة باردة أو نسج علاقة ما لتجديد جواز السفر،

ليتمكن من حرية الحركة حتى يتمكن من الحصول على الصفر الذي يبدأ منه.

مهما رسخت الأحلام الكبيرة في العقول والقلوب، فإن أزمنة الضعف وانهيار موازين القوى تجبر أي مسلم على أن يبدأ من الخطر البسيط الذي يتهدده..

بما فيهم هذا الجندي العظيم الذي خرج من نفسه وبلده ليقاتل في سبيل قضية عادلة،

مهما جلس يحدثنا عن حلم الأمة الكبير فإنه سينهض ليفكر في تحرير التبة التي يقف أمامها،

والتي لا يعرف اسمها إلا العشرات ولا يعرف موقعها على الخريطة إلا الآحاد.

أعود إلى سؤال: لماذا أقول هذا الكلام وما غرض هذا المقال؟

غرضه أن نفهم بوضوح أنه طالما وقع الانقسام في كيان واحد فصار كيانيْن،

فقد صار لدينا في الحال منظوران لكل مشكلة، وترتيبان لأهميتها وأولويتها، وطريقان لحلها..

بعبارة أخرى: صار لدينا حِسْبَتان للمصالح والمفاسد، حِسْبتان للخطر والفرصة، حِسْبَتان للتهديد القريب والبعيد!

وقد انقسمت الأمة منذ انتهاء عصر الأمويين، فالأمويون هم آخر من حكم خليفتهم الأمة من شرقها إلى غربها،

ثم بلغت ذروة التفتت في عصرنا هذا، وزاد المحنة محنا كثيرة أن الذين يحكمون بلادنا هم مجموعة من العملاء الذين وصلوا إلى مواقعهم تلك بدعم المحتل الأجنبي ورعايته وحمايته!

ويجب أن نتفهم، أنه وإن تحررنا من حكم أولئك العملاء، فسيأتي علينا زمان لا تتفق فيه مصالح المخلصين، وربما تقاتلوا.. إلا أن يتوحدوا،

فبالوحدة وحدها تتضاعف القوة وينسجم منظور المصالح والمفاسد، ويمكن أن يكون توحُّدُ بلدَيْن فحسب جاذبا ومسَرِّعًا لانضمام بقية البلدان.

وأمامنا في عالمنا المعاصر نموذجان: الاتحاد الأوروبي وأمريكا!

الاتحاد الأوروبي لا يزال يعاني من خطر التفكك، ليس فقط من بعد انسحاب بريطانيا منه،

بل يوجد في كل بلد منه تقريبا شريحة تنَظِّر لأن استقلالها عن الاتحاد خيرُ لها من البقاء فيه،

وينعكس هذا نفسه على سياسات الاتحاد الأوروبي ونقاشاته في مجلسه وبرلمانه، ما أكثر ما تتحول نقاشاته أحيانا إلى حالة من الشلل وانعدام الفاعلية..

بل إن بعض صناع القرار الأمريكان في مذكراتهم يتحدثون عن هذه الظاهرة بسخط وحنق شديد.

بينما تقوم الحالة الأمريكية على عكس هذا، إنها ولايات داخل جسم واحد، له سياسة واحدة، ومنظور واحد، وحكومة عامة واحدة، ترسم سياسة عامة واحدة،

وهذا أحد أهم أسباب فعالياتها.. ولو تخيلنا أن أمريكا هي مجرد اتحاد الولايات الخمسين على غرار الاتحاد الأوروبي لما كان ثمة شك في أن القوة العالمية الأولى ساعتها ستكون هي الصين!!

إن كل محاولة للتوحد لهي جديرة بالعمل والثناء والدعاء..

فإن عجزنا عن التوحد فلا نعجز عن التفهم والإعذار، فنحن في زماننا هذا أحوج إلى انتصار كل مسلم في قضيته وفي مكانه،

وبتحقيقه مقاصده حسب الترتيب الذي يراه في مصلحته وفي زمانه.

وإن عمل العامل دالٌّ على أغراضه وإن تخفي، وإن القرائن تكشف المخلص من المُتاجِر.. والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق