وما محمد إلا رسول (2)
منطلقات المخالفين في تفسير البعثة المحمدية
تمهيد:
وحيث أن لكل معرفة سلطة تدعمها.. تحملها إلى عقول الناس وتمكنها من تشكيل سلوكهم، فإنه لا ينبغي علينا، ونحن نرصد هذه الظاهرة ونحاول فهمها والتنبؤ بسلوكها، أن نرصد طبيعة الأفكار وحركتها (من وإلى) دون أن نرصد القوى الداعمة لها وبيان أن الفكر لا يتمكن إلا بقوى داعمه.. بالمعنى الواسع للقوى. ولذا فإن الإطار النظري الأمثل لفهم هذه الظواهر يتكون من مقولتين: الأولى: حتمية تأثير البيئة، والثانية: الدعم من قبل الأدوات العلمانية المحلية والخارجية.
تعدُّ مقولة "حتمية البيئة"، بمعنى أن البعثة المحمدية إفرازٌ للبيئة التي عاش فيها الرسول ﷺ أو أن ما جاء به النبي ﷺ كان امتدادًا لما كان سائدًا في بيئته الصغيرة (قريش/ مكة المكرمة) خصوصًا والبيئة العربية عمومًا، الفكرةَ الرئيسيةَ التي يحاول من خلالها الكافرون و"السمّاعون لهم" نفي رسالة النبي، صلى الله عليه وسلم. ويتفرع عن هذه الفكرة فكرةً أخرى وهي "التطور". فالمتحدثون بحتمية البيئة يقولون بضرورة التطور المعرفي تبعًا لتغير البيئة (الزمان والمكان)[3].
وربما كان السبب في انتشار هاتين المقولتين (حتمية البيئة، والتطور) سيطرة مفاهيم علم الاجتماع الحديث على عامة الحقول المعرفية المتعلقة بالدراسات الإنسانية. وذلك أن علم الاجتماع الحديث ينطلق من أن للواقع (البيئة) قوانين حتمية يفرضها على عموم الناس[4].
ولمزيد من البيان أضرب مثلًا بما ورد في كتابات خليل عبد الكريم، يقول عن شخص النبي ﷺ: "ولذا فإنه لابد وبطريق الحتم واللزوم أن يتأثر بالنسق الاجتماعي والنظام الحضاري السائدين في محيطه"[5]، ويقول عن الأنبياء وعظماء الناس الذين يُحدثون أثرًا في الواقع المعاش: "فإنهم لابد يتأثرون بالمجموع أو الجماعة؛ فالعلاقة بين الفرد مهما سما قدره والمجتمع والجماعة علاقة تبادلية وينتج بين الطرفين تكامل عضوي ديناميكي، هذه حقيقة علمية قال بها علماء الاجتماع"[6]. وكرر ذات الكلام في مقدمة كتابه "مجتمع يثرب" حيث يقول: "وعلم الاجتماع يؤكد لنا أن تغيير أحوال أي مجتمع لا يتم بتأثير النصوص مهما كان شأوها من البلاغة والإعجاز"[7] وهو هنا يدعي أن الأثر الذي ظهر على يد الرسول ﷺ وصحابته، رضوان الله عليهم، لم يكن بتأثير القرآن الكريم والسنة النبوية وإنما جاء بمؤثرات البيئة! وفي مكانٍ آخر يدّعي أن مجتمع الصحابة لم يتغير كثيرًا عن مجتمع الجاهلية، وأن "العلاقة بين الرجل والمرأة ظلّت كما كانت في الجاهلية (علاقة ذكر وأنثى)، وأنها كانت المحور الذي يدور حوله ذلك المجتمع وأن محمدًا[8] ﷺ بذل جهودًا تفوق طاقة البشر ليتسامى ذلك المجتمع بها ولكن لرسوخ ذلك النسق الاجتماعي وتجذره وضربه حتى الأعماق فيه هذا من جانب ولقصر المدة التي قضاها محمد بين جنباته من جانب ظل ذلك المجتمع على حاله ولم يتغير إلا بنسبة ضئيلة"[9]يقول: "لم يتغير مجتمع يثرب، وظلت العلاقة القائمة هي العلاقة بين ذكر وأنثى كما قد كانت في الجاهلية (فحولة وأنوثة)"[10]. ويقول: "إن سنن الاجتماع ترفض أن تتغير الأنساق الاجتماعية في مجتمع معين وخاصة تلك التي استمرت مئات السنين، في بضعة أعوام؛ قد تنجح دعوة في تهذيب عشرات من المحيطين بالداعية ولكن القاعدة الشعبية العريضة تظل محتفظة بأنساقها وعاداتها، ولا تتغير عندها إلا إذا تغيرت ظروفها المادية، مثل: طرق الإنتاج وأدواته ووسائله، بل إن بعض الملتفين حول صاحب الدعوة تغلب عليهم أعرافهم وطبائعهم المركوزة في أعماق نفوسهم والتي شبوا وشابوا عليها قبل اتصالهم به أو اتصاله بهم)[11].
وبمثل ما قال خليل عبد الكريم تحدّث أمين الخولي ورفاقه[12]، فقد انطلق هؤلاء من ذات الفكرتين الرئيسيتين (حتمية البيئة والتطور)[13]. ويأتي، إن شاء الله، حديث مفصل عن هذه المدرسة في هذه الدراسة عن السيرة النبوية.
[2] ينظر: "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، لناصر الدين أبو سعيد عبد الله بن عمر البيضاوي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي،1418هـ)، ج3، ص83.
[3] تعد فكرة التطور فكرة شيطانية بالأساس. وأمارة ذلك أنها ظهرت في رأس عدد من الناس في أزمنة وأمكنة مختلفة. وقد تحدث بها ابن خلدون في مقدمته، والقزويني في "عجائب المخلوقات"، وابن طفيل في "حي بن يقظان"، وابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق"، وإخوان الصفا في رسائلهم، وأرسطو في نظريته عن ترتيب المخلوقات في العالم، ثم انتشرت منسوبة لأحد المثقفين الغربيين (دارون) بسبب غلبة الثقافة الغربية. ويأتي في هذه الدراسة عن السيرة النبوية حديث عن أثر الشيطان المباشر في المستوى النظري والمستوى العملي، ينظر: "من وحي الشيطان" لمحمد جلال القصاص، موقع صيد الفوائد: http://www.saaid.net/Doat/alkassas/261.htm
[4] مصدر الفكرة من عند ابن خلدون، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ينظر: "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر"، لعبد الرحمن بن خلدون، (بيروت، دار الفكر العربي، 1408هـ/1988م)، ج1، ص13.
[5] ينظر: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، لخليل عبد الكريم، (القاهرة، سينا للنشر، 1990)، ص107.
[6] ينظر: "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية"، لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص107.
[7] ينظر: "مجتمع يثرب: العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، (القاهرة: سيناء للنشر، 1997م)، ص7. وعلم الاجتماع لم يجمع على شيء، وإنما هو- وأمثاله- ينتقون ما يحلو لهم، وغالبًا ما يعنون علم الاجتماع الغربي المادي الوضعي، كما سيأتي حال مناقشة هذه الأفكار؛ وإن كل تغيير يبدأ بتغيير الأفكار. "إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) (الرعد:11)
[8] مررت على ما كتب. لم أكد اترك منه شيئًا. ولم أره يصلي على الرسولr إلا نادرًا، ويصف النبي r بأوصاف فيها كثير من السخرية.
[9] ينظر: "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، (القاهرة، سينا للنشر، 1997)، ص27.
[10] ينظر: "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص27.
[11] "مجتمع يثرب- العلاقة بين الرجل والمرأة في العهدين المحمدي والخليفي" لخليل عبد الكريم، مرجع سابق، ص21.
[12] أمين أنور الخولي (1895م-1966م)، قروي من قرية شوشاي مركز أشمون بالمنوفية. حاد الطبع، ثوري المزاج، تخرج من "مدرسة القضاء الشرعي" التي وضع خطتها الشيخ محمد عبده واللورد كرومر وأسسها فعليًا سعد زغلول حين كان وزيرًا للمعارف. شارك في ثورة 1919م ضمن فاعليات القضاة؛ وابتعث إمامًا للصلاة في السفارة المصرية في إيطاليا ثم ألمانيا، وأتقن الإيطالية والألمانية وكان يتحدث بهما في بيته، وفتن بالتطور الإداري في الفاتيكان والتطور المعرفي في الغرب عمومًا، ونشط للعمل العام طيلة حياته، فشارك في جمعية إخوان الصفا إبّان ثورة 1919م، وفي الثلاثينات من القرن المنصرم شارك القبطي سيء الذكر سلامة موسى (1887م-1958) في تأسيس جمعية المصري للمصري، ثم استقر في العمل المعرفي وأسس ما عرف بـ "جمعية الأمناء"، وهي هذه التي طبقت فلسفة الهرمنيوطيقا، وأصدر عن هذه الجمعية مجلة على نفقته الخاصة طيلة حياته وتوقفت بعد رحيله. وأعني برفاقه أولئك الذين توافقوا معه على تطبيق فلسفة التأويل الغربية "الهرمنيوطيقا Hermeneutics"على القرآن الكريم، وأشهرهم: محمد أحمد خلف الله (1916-1991م)، وشكري عمر فيصل (سوري الجنسية 1918-1985م)، وعبد الفتاح شكري عياد (1921-1999م)، ومصطفى عبده ناصف(1921م-2008م)، وحسين محمد نصار (1925-2017م). ثم نصر حامد أبو زيد (1943م-2010م) وهو تلميذ غير مباشر للخولي.
[13] والنصوص التي تتحدث عن "حتمية البيئة" عند هؤلاء كثيرة ولكن المقام مقام بيان أفكار رئيسية وليس مقام استقصاء، ينظر: "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" لنصر حامد أبو زيد، (الرباط، المركز الثقافي العربي، 2014م)، ص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق